تعود صلتي بكتابات حسين مروة إلى بدايات عام 1953م ، حين قرأتُ مقالته النقدية لكتاب طه حسين ( بينَ بين ) المنشورة في العدد الأوَّل لمجلة ( الآداب ) ألمحَ فيها إلى عدم إمعانه النظر في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها البشرية في عموم أقطار الدُّنيا وتتوانى الدُّول والحكومات معا ً في استدبارها وإيجاد الحلول الناجعة لها , وتظلُّ هي السَّبب في ما نشهده من هذا الانقسام الخطير بين جانبي الأرض , ومفاد رأيه أنَّ طه حسين على انتفاضاته المتكررة بوجه الظلم والتعسُّف وامتهان الحقوق وسلب الحريَّات لمْ يكنْ حافلا ً بالأدبيات التي عَمَّتْ الأوساط الثقافية في كلِّ مكان خاصة بعد الحرب العالمية الأخيرة ,مُحَبِّذة ً للمجتمعات الإنسانية كي تـُصلِحَ شـؤونها وتتخطى أوضاعها المتردِّية وتصير إلى حالة من الرَّفاه النسبي وانتفاء الدَّرن والسُّوء من حياتها اليومية أن تنهجَ االإشتراكية وتعمل على تطبيقها بحسب ظروفها وخصائصها أمَّا أنْ يقتصرَ المؤلف على الوصف المجرَّد ويسترسل فـي شرح وسردٍ وتشخيص لما يلفيه حوله من فقر وجهل ومرض وإهمال في كلِّ شيءٍ , فهذا ما لا غناءَ فيه لتفتيح أذهان الناس وإغرائهم بالحياة الكريمة .
وأرى أنَّ في هذا الغمز إذا جاز التعبير تحميلا ً لطه حسين فوق طاقته أو لا يريد أنْ يتحمَّله ,علما ً أنـَّه كانَ يعاني من عقابيل العزلة والانكماش والتواري عن المحافل ممَّا فرضه عليه المتجبرونَ الذين تناهوا في تلفيق الأكاذيب والأراجيف وإلصاقها به نتيجة استهجانه ما ساد البلاد من فساد ورشوة واستهانة بأمور الناس , فنشر في الصُّحف وفي مجلته ( الكاتب المصري ) مقالات متنوعة يلفِتُ فيها أنظارهم إلى ما يمكن أنْ تصنعه الشُّعوب بحكامها إذا ما تمادوا في جورهم وإذا ما استعر فيها الغضب والاحتجاج،فلمْ يجدْ مندوحة عن هذا الحال غير أنْ يعود إلى فصوله المتناثرة ومقالاته المبثوثة في الدَّوريات القديمة ليطبعها في كتب متلاحقة :- ( بينَ بين , نفوس للبيع , وجنة الحيوان ) ، وغيرها إلى أنْ انجابَتْ الغاشية التي أظلتْ حياته في بداية الخمسينيات من القرن الماضي فرقي إلى منصبِ وزير المعارف حيث شرع بتجسيد أحلامه ومشروعاته للنهوض بالتعليم على صعيد الواقع العملي , وأرسل قولته المشهورة :- ( أقبلت فأقبلوا ) واصفا ًحالة غرمائه ومباينيه في الرَّأي والتفكير السِّياسي من ندمهم وتبكيتهم لذواتهم وضمائرهم ومقابلته لهم بالصَّفح والإغضاء .
ومن يومها تابعْتُ نتاجات حسين مروة في أوعيةٍ شتى , بلْ ظلـَّتْ كتبه نادرة لسرعة نفادها حينما ترد إلى المكتبات , فقد يقبل عليها الذين يستهويهم أسلوبه وطريقة معالجته للمعضلات والشؤون التي تحتويها , هذا إذا سمحَتْ الجهات الرَّقابية بها في عهودٍ ماضية اتسَّمَتْ بضيقها بحرية الفكر , ونفرتها من الاجتهاد في الرَّأي , على صعيدِ المبادئ السِّياسية والتقاليد الاجتماعية والمنطلقات الفلسفية , واستقريْتُ مجريات حياته ، فألمَمْتُ بكونه سليل المدرسة النجفية من طلبة العلم الوافدينَ إلى النجف من منطقة جبل عامل بلبنان , لتحصيل المعارف والآداب , والمشاركة فيما يشتجر بين التلامذة والمريدين من لدَدٍ وخصام يؤول إلى انقسامهم في طوائف وفرق متنافرة في اجتهاداتها وأنظارها , وعصارة ذلك أنْ تزدهر الثقافة في المحيط المقفر القاحل المتطلع دوما ً صوب ما ينعش حياته ويضفي على آدابه ميسما ً من إبداع وطراوةٍ وتجديد , فلا مراء أنْ يُدعَى الشَّيخ حسين مروة وقد حاكى علماء الدِّين في أزيائهم وهيئاتهم واصطنع ما يلزمون به ذواتهم من السَّمْتِ والوقار , إنْ لمْ يَرْبُ على جماعات منهم في إدراكه وفطنته , وانهماكه في الدَّرس والاستيعاب , ومن ذلك ما رواه جعفر الخليلي أنـَّه قصد ذات يوم دائرة شرطة النجف راجيا ً إمهال الشَّيخ حسين مروة بعض الوقت وتمديد فترة مكثه في المدينة وأنْ يكونوا من الليونة والمهاودة في اتخاذ الإجراءات الواجب اتخاذها عند هذه الحالات من تجاوز مدَّة الإقامة بحيث يراعون ظروفه ويستأنون قبل أنْ يعجلوا إلى تنغيص الشَّيخ وتكديره مخلين بآداب الضِّيافة .
( 2 )
انتهى إليَّ عام 1957م ، كتابه ( قضايا أدبية ) وهو مجموعة من المقالات الأدبيَّة الرَّصينة مما أوحَتْ بها شؤون وشجون وملابسات مختلفة , وكلـَّها ينبي عن تأثر وجدان الكاتب بها , وأنـَّه لا يملي من فراغ بلْ يكتب لأنـَّه يجد في خاطره فكرة ورأيا ً ووجهة نظر تحوج إلى إعلانها وتجسيدها , وكذا اشترط عامل الصِّدق والجدية وتحاشي التعمل والتكلف أوَّل ما يحسن بالكاتب انتهاجه وترسُّمه , وكأنـَّه مشروع لما اختطه بعد سنين وصار إليه من الواقعية االإشتراكية التي على ضوئها استغرق في تحليل معطيات بعض أعلام الشِّعر العربي المحدثينَ وأقطاب الفكر والفلسفة والسِّياسة البارزينَ في عصرنا والمؤثرينَ فيه في إستشرافاتهم وتطلعاتهم الإنسانية , وضمنها كتابا ً ضخما ً بعض الشَّيء في النقد الأدبي إبَّان ستينيات القرن الفائت وقد كافأته دولة لبنان بجائزة أحسن كتاب يؤلف لهذا الغرض , إذ جاء مشتملا ً على منهج لا يضيق بالرَّأي الآخر بل يتحاور معه ويصغي لمنطقه وذريعته , شريطة أنْ لا يكونَ ذلك على حساب التفريط بالقضايا الأساسية المتعلقة بحاضر الوطن والشَّعب ومستقبلهما , وجاء رأيه البدع وقتها بخصوص ما يوغل فيه من الرَّمز والضَّبابية والتعتيم بعض من يتعاطون الشِّعر الحديث , ممَّا يكرِّس انعزاله عن هموم الناس علما أنَّ اولاء يلغطون باستجابتهم لنداء الحياة كلَّ مرَّة وتبنيهم مرامي وأهدافا ً من شأنها أنْ تـُصلِح أحوال البشر وتحسِّن أوضاعَهم من ناحية السَّكن والمعيشة , فتطلبهم أنْ لا يبخسوا سابقة جهابذة الشِّعر والبيان ويهوِّنوا من شأنهم وطريقتهم في صياغة الشِّعر الفني المطبوع وتطويعه للمهام الوطنية والشَّأن الاجتماعي , فهم من هذا الوجه متبنو رسالةٍ وأصحاب قضيةٍ عبَّروا عنها بما وسعهم من البراعة في النسج وقوة البيان وأحيانا ً يميلون إلى رشاقة التعبير وسهولته , وفي كلتا الحالتين نلفيهم مبتعدين عن الرَّكاكة والانتحال , فأينَ هذهِ المخاريق في تهافتها وترخُّصها بشأن الأصول والقواعد اللغوية من أشعار حافظ ، وشوقي ، والرُّصافي ، والكاظمي ، وبشارة الخوري ، وبدوي الجبل ، وعشراتٍ غيرهم ممن درجَ وهو يتملى آثارهم ويشيد بدورهم في إذكاء حماسة الجمهور وشحذِ حِسِّه الوطني , ومن هذا النزوع والتوجُّه أتتْ دراسته الضَّافية لشعر الرُّصافي بمناسبة مهرجانه المقام بعد ثورة 14 / تموز , وقد نشرتها مجلة ( الثقافة الوطنية ) بلبنان محيطة بمقارعته العسف التركي وشرح حاله اثر عودته من فلسطين لبغداد وتشاؤمه من الحكم الوطني الذي ظنَّ أنْ لا خير يرجى منه لنهضة البلاد ,مدللا ً على ذلك بلقياتٍ من شعره في تقريع ولاة الأمر .
( 3 )
قصدَ الأستاذ حسين مروة العراق ثلاثَ مرَّاتٍ في سنيِّه المتأخِّرة , كانتْ الأولى بطواعيةٍ ومن تلقاء نفسه لتجديد آصرته بالمناضلينَ من شغيلة الفكر ورفقته القدامى للتهنئة بثورة 14 / تموز حين سافر إلى الديوانيَّة وألقى خطبته في مهرجان السَّلام ثمَّ مكث ببغداد مدَّة وشغل بمعاونة الجَواهِري في إدارة صحيفته ( الرَّأي العام ) وتوجيهها , والثانية ربيع عام 1968م ، ملبيا ً دعوة لجنة تأبين الوطني البارز كامل الجادرجي حيث احتفتْ به جمعية الكـُتـَّاب والمؤلفينَ بعد ذلك وحاضر فيها علما ً أنـَّه يعرف مسبقا ً كيف ظهرَتْ هذه الجمعية إلى الوجود كبديل لاتحاد الأدباء غير أنَّ ظروف ما بعد يوم حزيران الدَّامي كفيلة أنْ تهيبَ بالمفترِّقينَ في اتجاهاتهم وميولهم ان يطامنوا مـن غلوائهم واختلافهم , كما أنَّ توالي الأيام يلجئ المتزمتين من البشر إلى مجانبة المكابرة ويضطرهم إلى التسليم بحق غيرهم في الاعتقاد , لذا لمْ يحسْ بغربته وسط هذا الجمهور , وأمَّا الثالثة فكانتْ استجابة لحضور المربد الأول في مستهل نيسان 1971م ، والذي تواطأ فيه بعضهم بالاتفاق مع الدكتور الرَّاحل محمد النويهي على الإزراء بشعر الجَواهِري أثناء تصديه لنقد قصائد الجلسة الشِّعرية الأولى فكانتْ كلمة المفكر العربي الكبير والناقد الحصيف الثبت هي الحاسمة والقول الفصل في الرَّدِ والتعقيب على هذا الهراء المسيء لأصحابه قبل أنْ يَشِيْنَ الجواهري وينتقص منه , ليس عندي عليكم موتوريَّة أو ثأر , معليا ً مطنبا ً في الظاهرة الجواهرية .
( 4 )
وكذا كانَ حسين مروة مفكرا ً موسوعيا ً مطلعا ً على التراث العربي , محيطا ً بنتاجات أفذاذه ونبغائه من المتنبي ، والجاحظ إلى المعري ، وابن طفيل , مكذبا ً هذا الافتراء الباطل حول زهادة الأدباء اليساريينَ وجنفهم عن تصفح مأثورات اللغة العربية , وحسبه أنْ أسلفَ لنا مقالة مبتسرة نشرتها مجلة ( الطريق ) عن المعركة بين القديم والحديث في الأدب العبَّاسي , تغني عن كتابٍ تفصيلي في هذا الباب , استعرضَ فيه التحولات السِّياسية والاجتماعية والفكرية التي حدَثتْ أيَّام العباسيين وكيف أنَّ الأدب واكبها بالتدريج حيث أنَّ الأدب القديم عايش الأدب الجديد أولا ً ثمَّ دخل معه في صراع وكانتْ الغلبة للقديم في البداءة ثمَّ ضاهاه واستـوى معه حتى تجاوزه وانتصر عليه , لون طريف من التحليل الموضوعي والدلالة على ارتباط أدبنا القديم بالحياةِ الجارية بما يستجدُّ فيها من عسر ويسر , وفاقةٍ وغنىً , ورخاءٍ وحرمان , وسماح بحرية الفكر وضغطٍ عليها .