شخصيات وبصمات سعدي المالح
الحضور الموصلي في رواية عمكا
سامر الياس سعيد
قرات رواية (عمكا )للكاتب والاديب الراحل سعدي المالح لمرتين وفي كلتاهما كنت اكتشف شيئا مهما يحظى بالكتابة عن تلك الرواية السير مكانية مثلما وصفها النقاد باحتفائها بالامكنة من حيث ما تمثله تلك الاماكن من ذاكرة وراهن ومصير ..ففي المرة الاولى التي التفتت فيها للرواية كانت الايام السود قد حلت بمدينة الموصل من خلال سقوطها بيد تنظيم الدولة الاسلامية ومنحتني وقتا واسعا للمطالعة والالتفات لكتب اقتنيتها دون ان احظى بفرصة مطالعتها فطالعت (عمكا) في ظروف صعيبة كانت فيها حرارة الاجواء والاوضاع تتجاوز الدرجات الاعتيادية في ظل مصير مبهم وتوجس دائم الا ان سطور الرواية اعانتني على استشراف ما كان قد دونه المالح الذي لم يكن قد مضى على رحيله سوى اسابيع قليلة خصوصا بما يتعلق بمدينتي (الموصل ) وحضوره المتواري والمعلن ضمن تلك السطور لاجد تاليا وبعد ثلاثة اعوام عن تلك القراءة الاولى من ان ادون محطات موصلية تركها المالح في سياق روايته لاتوقف مليا عندها واتامل مدى التقارب الذي يجمع ما بين تلك الايام وايامنا الحاضرة حينما اصبحت عنكاوا تلك التي كتب تاريخها وبدايات تكونها والعوائل التي سكنتها الروائي الراحل سعدي المالح ليمد اليها جسور التواصل ما بين ماضي عميق وحاضر تبدو فيه صور الحضور الموصلي ايضا غاية في التالق بعد ان اصبحت الاخت الكبرى الموصل مدينة لمحض ذكريات فحسب وافلت عنها شمسها التي كانت ترسل باشعتها لكل المدن القريبة والبعيدة لتشارك بتلك الاشعة فواصل التمدن والتقدم والتطور والذي كانت الموصل رائدته وقائدة سرب ابداعه والذي لم تتمكن من الحفاظ عليه بسبب انغماسها بمجموعات سلفية ادركت ان العيش في الماضي افضل سبيلا من استشراف المستقبل وادراكه فبقيت الموصل تعيش راهنها فحسب دون ان تدرك اي بصيص امل يقربها لمستقبلها بعد ان دمرت كل جسورها واصبح الانتقال عسيرا وبقلب يحمل الكثير من التنبؤ يدرك المالح مصير الموصل فيقول في نهاية احد فصول روايته بان عنكاوا وحدها بقيت قائمة للان بقلب متفجع على اخواتها تنشد المراثي على اوردتها وشرايينها ..
بصمة موصلية
اعود لرواية (عمكا ) ومحطاتها التي عني بالكتابة عنها الاديب سعدي المالح لاسلك واياه اي طريق يؤدي بنا الى الموصل او ادراك اي بصمة موصلية كانت وراء ما عاشه ماضي تلك البلدة والتي وصفها المالح في سياق تعريف اولي بالبلدة الصغيرة التي تتنفس اجواء التمدن لصق اربيل والمعنية بالرواية و من سلسلة فصولها التي تجاوزت العشر فصول في الرواية المذكورة فكانت الموصل حاضرة في بعض تلك الفصول ففي الفصل الاول والذي كان تحت عنوان دركا نجد حضورا موصليا بقدوم احد الاشخاص المنحدرين من عائلة بويا قاشا لعنكاوا من اجل تعليم الاطفال القراءة والكتابة وذلك حسبما اورده المالح في الصفحة 24 اما في الفصل الثالث والذي جاء بعنوان قصرا فنجد توصيفا لتلتها في الصفحة 93 والتي كانت في اواخر القرن الثامن عشر مقبرة للنساطرة وفي عام 1879 جاء مطران من الموصل اسمه يوحنان هرمز وحول اهل عنكاوا من النسطورية الى الكثلكة على وفق الطقس الكلداني ومنذ ذلك العام اضحت المقبرة كاثوليكية .. كما لايكتفي المالح بايراد مدى علاقة الموصل بعنكاوا من كونها مصدرا دينيا فحسب بل يشير في سياق ايراده لمعلومات عن بعض سكان البلدة من خلال الافاضة في سيرة عبدالاحد شيشا شابو كوندا والمولود في عام 1883 حيث كان لعبد الاحد دور بارز في التربية والتعليم في عنكاوا من خلال التحاقه في عام 1895 بمعهد مار يوحنا الحبيب في الموصل وتعلمه للغات السريانية واللاتينية والتركية والايطالية والفرنسية وفي عام 1906 سيم قسا وعين معلما للغة الفرنسية في مدرسة شمعون الصفا في الموصل لسنتين.
افتتاح مدرسة
وبعدها تنقل في عدد من المدارس ليعود الى عنكاوا ويصبح اول مدير لاول مدرسة مفتتحة فيها وتوفي في الموصل عام 1934ومما اورده المالح عن مجلس القس والتربوي عبد الاحد بانه كان يجمع الشمامسة والمتعلمين ويقرا عليهم كتبا تاريخية ودينية واجتماعية واخبارا من مجلات كانت تصله من الموصل وفي محور التعليم فقد ذكر المالح الى حضور موصلي في سلك التعليم من خلال افتتاح اول مدرسة حكومية رسمية في عنكاوا عام 1921 حيث تالفت هيئتها التعليمية بحسب المالح من قسين اثنين وشماس ومعلمين احدهما يدعى الكسيس والاخر من الموصل دون ان يذكر اسمه وذلك في الصفحة 150 .. كما تحدث المالح في سياق هذا الفصل عن مقبرة البلدة والتي انشات في اوائل الستينات مشيرا بانه اول من دفن فيها كان احد المسيحيين الموصليين الذي استشهد في الموصل عام 1962 وقد كتب ذلك بوضوح على قبره ويضيف المالح بان هنالك اعتقادا بان هذا الشهيد قد قتل ابان الاغتيالات التي تعرض لها المسيحيون في الموصل بعد حركة الشواف الانقلابية في اذار 1959 .. وتواصلا مع البصمات الثقافية والفنية للحضور المسيحي الموصلي فقد اشار المالح في سياق الفصل الرابع من الرواية والذي عنونه بمحلة الخواجة سبي بزيارة دورية لبائع جوالكان يفد من الموصل ويدعى وديع حيث كان ياتي من الموصل ويعرض صوره على حائط مقهى العم كوكا في ساحة محلة دركا الى جانب المسابح والصلبان والاناجيل ومثلما كانت هنالك عوائل تاتي من الموصل لتستقر في عنكاوا خوفا من غياب الامن والاستقرار في تلك الاماكن كانت هنالك هجرة عكسية من عنكاوا نحو الموصل ومن ضمن ما اورده المالح في هذا السياق ذكره لاحد العنكاويين ممن تركوا عنكاوا وغادروا للاستقرار في الموصل بعد الزواج وذلك في الصفحة131.. اما في الفصل الخامس والذي حمل عنوان الارض فهنالك اشارات موسعة حول المسافة الفاصلة بين عنكاوا في تلك الايام السالفة عن مدينة الموصل من خلال محاورة ضمنها الكاتب مع جده الذي اعلمه ببعد المسافة والتي تستدعي قضاء يومين او اكثر للوصول الى الموصل سيرا على الاقدام وهذه الطريق تقع غرب عنكاوا وسمي بطريق الموصل وتنتهي هذه الطريق في الوقت الحالي عند المقبرة الحديثة وتحديدا عند سياج مطار اربيل الدولي.
وصف طريق
ويصف المالح تلك الطريق بكونها جزءا من طريق الحرير او الطريق الملكية الكبيرة منذ العهود القديمة وعبر هذه الطريق كانت جميع القوافل تتجه نحو الزاب الكبير لتعبر جسر الملك القديم المبني عليهعند البلدة التي تسمى الان خبات (اسكي كلك) ثم تقطع الخازر عند نقطة التقائه بالكومل ومنها تتفرع الى فرعين احدهما يتجه نحو الموصل .. هذه بعض من تفاصيل الحضور الموصلي الذي ابرزه المالح في روايته عمكا والتي وثق من خلالها فترة زمنية قد تقارب مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم ولكنها كانت فترة ذات دلالات بالنسبة للموصليين خصوصا من خلال انعكاس الاحداث السياسية وتذبذب الاوضاع في ابراز رحلة هجرة للمسيحيين للبحث عن افضل مكان يحطون رحالهم فيها وهذا ما يمنح الانطباع بان عنكاوا في بدايات تشكيلها وبروزها استقطبت الموصليين لينسجوا فيها رحلة عمل وعلم وهذا عينه ما ابرزه راهنها الحاضر حينما اوت عوائل خشيت على مستقبلها في اتون مدينة غرقت بالسنة التصفيات والاستهدافات المتكررة لاسيما في الفترة التي تلت حرب التغيير والسنوات التي كانت محملة بالالام مسيحيي الموصل وهم يستقرون في تلك البلدة ليوطدوا علاقات اوسع ويرسموا حاضرا لماضي كان ولايزال حافلا بالحضور الموصلي فارتبط المكانين بشرايين واوردة لتعيدنا عمكا لزمن لم يخفت فيه بريق الكثير من الاسماء التي لم تنعكس عليها محنة النزوح وترك مناطقها الاصلية فحسب بل عكست تلك المحنة الى واقع علم وعمل مهمين ليبرزا اذا ما اتيحت الفرصة لتكون هنالك رواية جديدة بمستوى عمكا توثق ما حظيت به هذه البلدة في سنواتها السابقة من ان تؤطر مثل هذا الحضور وتتحدث عنه باسهاب وتفصيل لامحدود ..
*عن صحيفة الزمان