أهبط درجات السلم العباسي …
وجه المتوكل عليه بصمات العذارى الناعمات ,سياط الأتراك القاسية وروائح العبيد .
أدوسها بحذائي وأهبط نازلا إلى قصر البركة , سامراء فوقي , تتصاعد درجة , درجة وأنا أهبط وطه معي . وكما لو أن رسالة وردتني منه , من حفر الباطن أو … أهبط , ويهبط قلبي . رأيت إنني أغادر بريد العشار , كنت خارجه أتمشى , جدار واطئ يتراجع خلفي , أمزق حاشية الظرف وأقرأ …
خذ إليك رسالتي …
خذها ياصديقي لعلها ليست الاولى ولا الاخيرة , خذها إليك إن سلمت واجتازت البر بكثبانه المتحركات وبعطشه , وليسلمك الله وأنت تقرأ وتأمل ..
فستصلك_ أن وصلت _ بيضاء إلا من حبرها وإيحاءاتها , ممهورة بلغات شتى واختام حمر , عليها من غربة المخيم ألوان ومن حسراته بصمات , تطرزها خدوش الأسلاك الشائكة وحراب البدو والمارينز وتنز من بياضها العراقي الحزين , جراح الأسر وذرات الرمال .
وتمهل يا صديقي وانت تقرأ ..
كنت مسرعا مع إيقاع القراءة الراقص لهذه الرسالة , فتمهلت وانا أقرأ رسالة تطوي بأسطرها آلاف الرسائل وتخفي كلماتها تلالا من الكتب, وتحت حروفها أحد الحروف المنقطة تحديدا , تتحرك الأسرار , تحيا وتتنابض ’ تتداور وتموج حول نقطة لحرف ما , فيها يكمن السر البسيط , سر الرسالة وجوهرها …
فأنتبه وتأمل .. باء البسملة أم باء البصرة ؟
كدت أقع , وتعثرت , قال طه : إنتبه . فانتبهت وتأملت , السماء زرقاء لينة ونتف بيض غيمات صغار يمرحن فوقنا , وسامراء تتصاعد , درجة درجة , كلما أهبط , تنشد لسمائها وانا أهبط ’ وطه معي , قال : انتبه وقال : تأمل , سيظهر لك المعنى مرة أو يتجلى , ويختفي مرات يخف ويتخافت تتشربه حروفها ودلالاتها وتتكتم عليه , فتشبث به إن بدا , وإن توارى إسع كل السعي في طلبه …
وستقرأ وانت تقرأ …
وكنت أقرأ الرسالة ماشيا , لا أرى الرصيف المحاذي لحديقة الشعب ولا مشنقة ( الحاج جيتا ) أقرأ الرسالة وأرى المنابر مشنوقة في ساحة أم البروم . أنعطف تجاهها وأخترق الزحام إلى شارع الكويت وطه يطل برأسه من بين السطور , يطل ويكرر : وسترى وانت تقرأ , فترى الحبر لكنك لا ترى شقائقي ولن تشعر بقلبي وستجهر , ربما , بقراءتها او تخافت , إلا انك لن تسمع نحيبي لحظة الكتابة ولا تستحضر روحي , وستصلك رسالتي إذ تصل ..
ولم اصل البركة بعد , السلم طويل , وطابوقه عتيق ومتصخر , ومويجات تراب عباسي ناعم على زوايا درجاته , كأنه رمل.
وأزقة العشار تدخل في بعضها وتخرج , زوايا أرصفتها تراب , وجوه المارة عليها تراب و أحذيتهم . أقرأ خرائط الالم على وجوههم وأطالس الجوع . وأدخل شارع الكويت , عريض ومحدب فاخترقته الى سوق الهنود , يتعالى عطاسي وأنظر إلى الرسالة , إلى هنا وصلت ..
وستصلك حين تصل , عبر ايام من الرمل وايام من الحدود , صيفا تصلك , مادة وروحا , ولولا إنك قارئها الذي تريد , قارئها المرتجى لما وصلت إليك .
فخذ إليك _ يا صديقي _ رسالتي .
خذها جملا قصار راقصات وخذها كلمات أو قصصا , تهجدات خذها و آلاما , حرفا إثر حرف ونقطة تلو نقطة , خذها بمجاميع قلبك وأقاصيه وستجدني أجهد النفس بتذكيركم ولا أفلح إلا نادرا , أنتم أصدقائي الطيبون , لا أتذكر وجوهكم , وأهلي وأطفالي لا أتذكرهم , سبحان الله , بيتي , مكتبتي العزيزة , زوجتي , أنساها أيضا أو أكاد .
ظلام حفر الباطن يلفني , واسعا كان وعنيفا , وأسماؤكم أحرف ملونة ونقاط لينات , تطفو على ظلامه وتنبض , تشرح القلب بهجة والصدر ينشرح . ربما من فرح أو من خفة تطفون , وربما من ألم فانقبض تلتم روحي مختنقة ويتمزق الكبد لكم . أتضاءل حتى اغدو حبة رمل في مزارع الطماطة أو حنطة حين تجوعون . وأتضرع (( أمن يجيب المضطر .. )) وأبكي .. لكم الله يا أهلي , لكم الله , أمازلتم تجوعون , تأكلون أجسادكم وقلوبكم وتجوعون , أطفالكم جوعا ونحافة وأقدامهم حفاة ., أراهم وأراكم من فرط النحافة بلا ظلال ومن فرط المحبة تغوصون بوجوهكم السمر الممصوصة وبدمائكم . وأحيانا في غاية الثقل أراكم , بالغي الكثافة كثقوب سود , تغطسون حتى القاع القصي لقلبي , تلامسون طينه وتستقرون هناك . في الاعماق الحزينة تستقرون , تزيدوها حزنا وسوادا وبطمئنينة تسكنون . وكما لو كنتم شذرات فيروز أو عقيق أحمر حي تشعون تشعشعون الروح باخضراركم وتضيئون الذاكرة , إحمرارا ناعما ولطيفا , تضيئون جماعة وتشع أنت كلك تشع في ظل لا جاذبية فيه تشع , لايشدك شيء إليه ولا تنشد لشيء , طيفك وحده ألان يملأ المعسكر , يقطع الأسلاك يمسحها والأسر والبادية ويجيء , يمحوها فتأتي إليه تتماوج وحدك من دون الجميع , وتمضي , تنطفئ وتضيئ فأسألك : لماذا يا اخي ؟ اسألك واصرخ : لماذا ؟ وتحترق الذاكرة , رمال رفحا تحترق , الأسر أيضا , سياط الحرس الملكي ودم الجنوب , جميعا تحترق ويشب سؤالي , لا نار فيه , لكنه يحترق فأعطش , أعطش إليك أريدك , تغيب عني , أغيب أيضا وأمضي …
أسهو بأسري وغربتي , بألمي واغترابي , أمضي فتحضر , تحضر بقوة وتحضر بوضوح , ترجني وأراك , تحت ضريح مذهب أراك , تحت قبته , تقبل الأرض وتتضرع , تحبو وتحلق , تبكي وتتضرع , حتى لا أكاد أصدق إنك معي حقيقة وإنني معك , نقف معا او نتمشى وكنت امحو الأسر حينها , أمحوه تماما , بأسلاكه ومعسكراته كي أراك , أبعد الجنود والبدو والمجندات , أشطب وجوههم وبنادقهم لأرى حضورك , كنا معا يا صديقي وكنت مع الضريح تحت قبته …
تهبط الأرض إلى ما تحتها , على درجات السلم العباسي تهبط , تتذكر البصرة , زيد النار يحرق بيوت العباسيين تشتعل البصرة , تتمناه تشد الرحال إليه , تراه , وتصاعد روحك وتصاعد البصرة معك , أشعر بها معك بقلبك تنبض وبقلبي , كلانا ينبض لها ,لانتفاضة الزنج , لزيد النار , لحرائقه في البصرة ولضريحه على الفرات . تتذكره وسامراء فوقنا ومعنا , تتدحرج وتهبط , حولنا وأمامنا, وتحيط بناوتتدحرج بأجسادنا , تصبغ السلم تلون حوافه بالخضرة وتتكسر عليه , ترابها يتكسر والطابوق أصفر أصفر وخابط والسلم طويل , في انحداره طويل وفي صعوده , وفيه روح ما , نبض سري وجاذب , يسحرك ويأخذ بك , يأخذنا خفيفا الى عوالم أنقى ودرجات عالية . مقامات تذهل فيها , عن نفسك وعني وكنت أنا منتبها وكنت تختض , أنظر إليك , تهبط مأخوذا , جسدك ينزل وروحك تتعالى , درجة , درجة , تنزل بك قدماك ودرجة درجة تتعالى , يشدك الضريح المذهب فتهفو إليه , وأصبر , أنظر إليك ,تختض وترتعد , وجودك مغيب وهيأتك حضور , أمامك بركة المتوكل . تنزاح عن مكانها أو تترجرج , لا أعرف كيف , تغادر حوضها مقتربة منك , تنهض إليك , بمائها الغائب وإمائها الغائبات , ويتحرك القصر العباسي تحت سامراء , سامراء تتحرك والارض كلها تجاه قبة الذهب ,والبركة أمامك ومقاصير الجواري ,ولكن , لا أتراك ولا خلفاء , وحده الطابوق المتصخر والتراب , عطش وأحمر , والبركة تقترب فتذكرت ابن السكيت والمتوكل , احسست بك تتذكرهما , فقد نظرت إلى نعلك وسكت , تنهدت وسكت , كأنك تنظر إليه وهو يقول ( إن شسع نعل قنبر خادمهما احب إلي منك ومن ولديك ) كأنك تنظر ولسان ابن السكيت يلون السلم العباسي بدم شهيد , يقطر ويقطر حتى الان وأنا أنظر إليك وقد نسيتني على الدرجة الأخيرة من السلم تركتني مرتبكا ونسيت , أين كنت ؟ وإلى أي زمان مضيت ؟
لعلك خارج كل أين ووراء كل متى . ولعلك لم تكن انت ؛ ولكني حقيقة أراك وأشعر بك , بأنفاسك , أحاطني المعسكر بوحدته وحدوده وأنت قربي , تحرر وحدتي وتطلق الحدود هادئا تسبح كنت أراك , لينا وملونا تغادر القصر , البركة , إلى أين ؟ البصرة تحترق قلت لي , والجنوب نار , تعال معي . قلت ورفعتني من إبطي فطرت , رفحا بحراسها البدو تحتنا , والبصرة أيضا , حراسها البدو , وساحة سعد , زخات رصاص ورشات دم , ومنهم من ينتظر , قلت لي , سمعتها منك , ونظرك شاخص تحتك حي الحسين , تشب حرائق وعلى المصلى سجدت المنارة مع الشهداء , قلت لي : ستقتل إن لم تغادر , رأيتك تغادر , وأنت تقف قريبا مني , وأي قرب كنت ذاهلا عن كل شيء , عن ذاتك ووجودك وعني , عن الأرض وعما يحيط بنا , كلمتك , لم ترد . وربت على كتفك وكنت تعلو وتبتعد , طيرانك نور , منجذبا إلى نور , قلت لي نور على نور . تراءى لي أنك قلت شيئا كهذا : نور على نور . فأخفتنى , ما بك ؟ ما دهاك ؟ سألتك بفزع وهززتك . فتوقفت عن القراءة , قراءة رسالتي , رأيتك تتوقف وتبكي …
توقفت عن القراءة , سبحان الله , أحدهم هزني طه قربي , شعرت به والتفت إلى الأعلى , نحو بداية السلم ورأيتهم قادمين , بأرديتهم الزيتونية وبرشاشاتهم , وأنا على الدرجة الأخيرة من سلم القصر العباسي ,هل كنت أقرأ شيئا ؟ رسالة ربما ؟ أمامي كانت بركة المتوكل , تحت سامراء وأذيال الماء ترش ساقي تبلل الحذاء والجلد رديء تمسني الرطوبة فأقشعر ؟ شط العرب قارس أواخر شعبان _ قال طه وأقشعر _ أنظر إلى حذائي لحظات , وإلى الماء أتذكر نعل قنبر على وجه المتوكل , أتذكره وأراهم ينزلون مسرعين ولسان أبن السكيت يقطر دما , تتورد البركة بألوانه , تحمر , تغدو نارا وهم ينزلون قفزا , قفزا ينزلون , أرديتهم , رشاشاتهم , وأنا على الدرجة الأخيرة والبركة ملأى , دامية وملأى , تغص بالخليج وبشط العرب , ناعما وأزرق ’ باردا ومميتا يقول طه في رسالته _ شط العرب قطعة ثلج , تقرص بقسوة وانا اعوم , صاحبي يعوم , أمامي يموت , شط بارد وعريض , وورائي الموت . حرس وسلاح . والحي يحترق البصرة كلها , بيتا بيتا , والجنوب نار . أعرف أنهم سيأتون فقصدت الشط , أعرفهم , الصدور المطرزة بالرصاص أعرفها ’ أعرف الجدران وأعرف شط العرب , المد عالي وبارد والحرس يقتلون أية حركة ولو ليمامة أو سمكة , أعرفهم _ يقول في رسالته_ وأعرف الجرف الأخر فأعوم , أكتم الصوت وأسبح , أضرب الماء الشط وأسبح وصاحبي ينهار , يسبح وينهار , يكاد يغرق , يصرخ يغرق ويصرخ , والمد قوي وصاحبي ينهار , أعود به ؟ أعود , أعوم به وأعود والحرس ينتظرون رأيتهم يقتلون أي حركة , أية حركة ولو ليمامة أو سمكة وينتظرون _ صوبوا رشاشاتهم وكادوا , لولا أنني رأيتها ,شقت الظلام فرأيتها , كأنها فجر, وشقت الشط وأنا أسبح وصاحبي يغرق , يغرق بالرصاص وانا أسبح , كأنها فجر , رأيتها , سفينة من بياض , بيارقها خضر خفاقة والظلام من حولها نور . فتذكرت _ يقول طه في رساته _ تذكرت قصتك ( الرجل الغريق ) وتذكرت (طريدون ) باخرتك البيضاء أو كتابك القصصي , تذكرتهما وتمنيت لو أنك كنت معي , والمد قوي وسفينة النجاة تقترب , الفجر يقترب ,أسبح تجاهها وتقترب بيضاء , قبة الذهب فوقها , سامراء فوقها وهي تقترب , بيارقها خضر والحرس على الجرف يقتلون أية حركة ولو ليمامة وأنا اقترب من الفجر … وتمنيتك معي .
فأغقلت القراءة _ رسالة طه أغلقتها , ونظرت إلى اعلى السلم العباسي لقصر البركة , كانوا يقتربون , الحرس العباسي يقتربون بأرديتهم السود
_ بضع درجات _ وبرشاشاتهم ورأيتها , سفينة النجاة , تعترض الأمواج ترد ارتطاماتها وتنتفض , على قلب الحمرة المشرقية رأيتها قبة من ذهب وبياض , قلت : من ركبها نجا , وقرأت على صاريتها ( صدر الزمان ) بأحرف من رضا , قرأتها وقفزت إلى الماء …
ك1 _ ك2
98 / 1999
البصـــرة
ملاحظة :ـ
بعد 9 / 4 / 2003
كتب الناقد مقداد مسعود في صحيفة الوحدة البصرية مقالا بعنوان( جابر خليفة- الشجاعة في حينها )تحدث فيه عن الجرأة والشجاعة ( وحسب وصف بعضهم التهور ) من نشر هذه القصة في العدد 11 من اصدارات (البصرة اواخر القرن العشرين ) الذي صدر عام 2001 !
ملاحظة2
هذا النص الرئيس لكتاب قصصي عنوانه صدر الزمان وثمة نصوص قصيرة اخرى معه لكن لم استطع اكماله لتورطي بالنص السياسي الكبير-من عناوينها- تبارك تشرب الشاي-هؤلاء هم اهلي(اقصد الشهداءاصدقائي واحبتي) –كانوا يحتفلون-بيتنا خارج الباب(عنوان قصة او كلمة لبورشرت حين عاد من الحرب ووجد بيته مهدما) وغيرها سازودك بها تباعا ان سمح ظرف الانتخابات الثقيل
جابر خليفة جابر: زيد النار ..
تعليقات الفيسبوك