إشارة:
يسر أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ بنشر حلقات هذا الملف عن المبدعة الكبيرة القاصة والروائية العراقية “ميسلون هادي”. واحدة من أبرز سيّدات السرد العربي، ولا نبالغ لو قلنا السرد العالمي، بل النوبلية بامتياز لو توفرت الترجمة لنصوصها الفريدة. أكثر من 35 نتاجا في الرواية والقصة وأدب الأطفال. هذه الطافية بحذر بين الواقع والخيال، وبين الحلم واليقظة، الفيلسوفة الشعبية لمحنة الموت والحياة، الأمينة على خيبات محليتها التي ستوصلها حتما إلى العالمية المتزنة المحترمة. تدعو أسرة الموقع الأحبة الكتّاب والقراء إلى المساهمة في هذا الملف المفتوح بالمقالات والصور والوثائق. تحية للمبدعة الكبيرة ميسلون هادي.
القصّة : إلتمام
ميسلون هادي
أصابته الشوارع بالدوار .. واخترقت لافتات المحال التجارية عينيه كشظايا متلاحقة ، أما الأشجار فكانت تركض إلى الخلف بانتظام، والمارة يركضون معها بلا توقف ليتركوا خلفهم فراغات مبعثرة سرعان ما يملؤها مارة آخرون . انه الرجل الذي يجلس خلف السائق مباشرة ويرتدي قمصلة خاكية من النوع الذي يرتديه مدنيون كانوا جنوداً ذات يوم .. وهو أيضاً بطل هذه القصة واليه فقط سنشير بكلمة الرجل ودون توصيف آخر خلافاً لشخصيات القصة الأخرى من الرجال والنساء .
رأى قطة قرب الملجأ فاستغرب وجودها في هذا المكان الشاق من الحجابات الأمامية ثم عندما استفاق من حلمه كانت دعائم المقعد لا تزال تموء بصوت معدني مائع وكل راكب يقف يتململ متوقعاً في كل لحظة هبوط راكب جالس فيفوز هو بمقعد فارغ . صاح رجل من كعب الحافلة بصوت فيه حشرجة :
– نازل .
تجاهله السائق وواصل سيره السريع في الشارع المؤدي إلى نفق النسور .. انضم إليه صوت آخر أثخنته بحة الفتوة فصاح :
– نازل .
لكن السائق لم يستجب وظل يقود السيارة بلا توقف غير مكترث لما يسمعه من نداءات متتابعة تطالبه بالتوقف للنزول. أبدى الركاب تذمرهم لهذا التجاهل وقال بعض منهم انه يتوقف لكل صاعد حتى اكتظت السيارة بالركاب، فلماذا لا يتوقف للراغبين بالنزول .. بعض الركاب الآخرون، وهم أكثرية، كانوا ينظرون إلى خارج النوافذ بثقوب ميتة وساهمة تطفو على أفواههم ابتسامات أكيدة هي ما تخلفه تداعيات الأفكار على وجوههم . ولم يكن ما يدور داخل الحافلة يعنيهم أو يثير فضولهم للتدخل…… أحدهم ، وهو كهل يقترب من الخمسينات ، كانت تلك الأفكار تثقل عليه وتأخذه إلى رئيسه في العمل فيهز رأسه قليلاً ويحرك شفتيه بتمتمات مسموعة يلعن بها شخصاً آخر ثم عندما ينتبه إلى نفسه يشعر بالخجل ويصمت .
ازداد لغط الراغبين بالنزول واهتاج الرجل الواقف في كعب الحافلة فتقدم حاملاً حقيبته، كان يبدو محامياً، واتجه إلى السائق رافعاً يديه بالنداء والشكوى كما لو كان يتجه إلى منصة القاضي ليترافع عن متهم . حسم الأمر صوت نسائي ناعم انطلق من خلف السائق بمكان قريب ليقول بإيقاع منغم :
– نازل .
فأطلق السائق ضحكة متقطعة وقال بصوت مرح :
– صار .. يابة .. صار .
ثم ضغط على دواسة الكابح وتوقف بشكل شاحط ومفاجئ فحل في الحافلة فجأة هدوء عميق والتفت الركاب بعضهم إلى بعض وهم يظهرون خشيتهم وقلقهم من احتمال كونهم قد ركبوا الحافلة مع سائق مجنون .. قال المحامي وهو يهبط :
– كان يجب أن اهبط في دائرة الأحوال .. عندي معاملة يا أخي .
وقال الفتى بصوت منكسر قليلاً:
– مدرستي قرب تمثال البكر .. انظر أين أنزلتني !؟؟
ثم سار الاثنان إلى الخلف وهما يغدقان الشتائم على السائق ويلعنان قسمتهما في الركوب معه، أما الفتاة فقد ارتبكت واحمر وجهها لأنها وجدت صعوبة في اختراق الحشد للنزول فقالت لأحد الواقفين الذين يعترضون طريقها :
– من فضلك أريد أن انزل .
التفت الرجل إلى تلك الفتاة التي نهضت من مكانها بجواره وطلبت النزول فانتبه إلى أنها قد سببت التأخير والتذمر لمن هم خلفها بسبب تباطؤها في النزول. جلست محلها فتاة محجبة تضع في حضنها مجموعة كتب فوقها أوراق ملفوفة بشكل اسطواني .. الرجل فسح لها مجالاً مبالغاً به ثم رمى عينيه إلى الشارع مرة أخرى وانشغل عن السيارة بالحقيبة التي بين قدميه .. إن لم يصل في الموعد المحدد إلى بغداد الجديدة فستذهب خالته الصغيرة إلى الموصل بدون النقود وستوبخه العجوز كثيراً وتقول له (انك تتأخر دائما وانك لا تبالي وقد قلت لك إن هذه النقود إن لم تصل في موعدها فلن تتمكن خالتك الكبرى من إجراء العملية … وربما تزعل أو ترفض أخذها بعد ذلك أو تضرب عن إجراء العملية وتموت )… المبلغ الذي معه لو حمل أضعافه الآن لما استطاع أن يجازف بالصعود إلى سيارة أجرة … فهذه النقود لم تعد تأتي بالرفاهية لأحد حتى وإن تكدست في أكياس ألازبال .
الفتاة المحجبة كانت تلملم نفسها بين الحين والآخر .. وتواصل التحديق في كتاب مفتوح أمامها بلا تركيز تقريباً .. وكانت عندما تتوقف الحافلة في تقاطعات الإشارة الضوئية تشارك الرجل الجالس بقربها التفاتهُ إلى الشارع بهيام وتبدو نظراتها إلى الخارج بلا تركيز أيضا ثم تعاود الجلوس بوضع غير مريح تقريباً، وهي تنظر بامتعاض للستارة القذرة الممزقة المتروكة على النافذة .
بعد قليل كان الازدحام قد خف قليلاً، فلاحظت امرأة تقف بقرب الفتاة المحجبة ، إن الرجال لم يعودوا يتنازلون عن مقاعدهم للنساء، فقالت لها بصوت خفيض :
– لا يقومون للنساء .. عمت عينهم !
المرأة كانت تنورتها مرتقة من الأمام بخيط يختلف لونه عن لون قماش التنورة .. فجعل ذلك الفتاة المحجبة تشعر بالإحراج، ثم انتابها الخجل الشديد لأن المرأة قالت بصوت عال هذه المرة :
– اويلاه .. الدنيا راح تنقلب .
ابتسم أحد الجالسين ، وكان يبدو طالباً، ثم نهض وتبرع لها بمقعده فلم يخفف ذلك من غضبها، وإنما ازداد هياجها وقالت بألم :
– صار لي قرن .. وأنا واقفة !
ثم التفتت إلى أحد الرجال الجالسين، وقالت له :
– أنت هم خال فلوسك عند سامكو ؟
سرت ضحكات بين الركاب وانطلقت تعليقات مرحة ملأت جو الحافلة باللغط وأصبحت لفظة (كو) تنتقل بالعدوى من فم لأخر مثل أغنية شائعة يصفرها الجميع بمرح احتفالي :
قالت المرأة وهي تستوي في مقعدها :
– أن الله شديد العقاب .
وكأن الله استجاب على الفور لدعوتها الصريحة تلك، فهبت سورة هواء مفاجئة ضربت زجاج الحافلة بالنفايات المتطايرة وأكياس النايلون الفارغة و أوراق الأشجار ثم هدأت السورة فجأة مثلما هبت فجأة فمدت المرأة يدها إلى الطالب الذي وقف وتناولت كتبه، وقالت له بصوت حنون :
– جيب خالة جيب .. تعلمنا على القهر .
لاحظ الرجل أن تلك المرأة قد استعملت كلمة (قرن) كشيء لا يخصها ولا يليق بها وإنما يليق بطلاب الثانويات وشباب الجامعة .. مع ذلك شعر بان ذلك ظريف ومحبب ويبعث على الابتسام . كان مقعده يقع خلف السائق مباشرة وعندما ترفع جارته الفتاة المحجبة وجهها إلى أمام تسقط عليها عيون بعض الجالسين على مقعد جلدي معكوس مجاور للسائق فتشعر أن هذه النظرات تلسعها فتنكس نظرها إلى الكتاب المفتوح في حضنها مرة أخرى .
استدار السائق باتجاه الكراج فانقذفت الفتاة المحجبة إلى داخل المقعد من قوة الاستدارة، وعندما استوت في مقعدها اضطرت إلى الانسحاب خارج المقعد ثم فتحت حقيبتها بارتباك ووضعت فيها فئة نقدية كانت موجودة طوال الوقت في يدها . انتبهت إلى أن قدم الرجل أصبحت موضوعة فوق قدمها وان الرجل يواصل تحديقه إلى الخارج بهيام ولا مبالاة وعلى وجهه يبدو التجاهل التام لما يحدث . اخترقها الخجل وراح قلبها يرتجف بعنف وخافت الالتفات إلى الرجل والنظر إليه بغضب، كما لم تكن تجرؤ على فتح فمها لتطلب منه رفع قدمه عن قدمها … اعتقدت الفتاة المحجبة إن أية كلمة تقال في هذا المكان قد تتسبب لها بفضيحة … فآثرت سحب قدمها من تحت حذائه وهي تشعر بان قلبها ينخلع من صدرها من شدة الخوف .
ظل الرجل سادراً في استغراقه ، وبدرت منه آهة ضجر فرك بعدها جبينه بقوة وكأنه يطرد بأصابعه شيئاً ما يزعجه… انه يستبعد من رأسه شكل الشاهدة التي قال حارس المقبرة أنها تخصه ومنقوش عليها اسمه وعمره وتاريخ استشهاده … لم يذكر الحارس له رقماً صحيحا.. وكل ما تفوه به هذا الكذاب مشكوك به .. فرك جبينه بأصابعه مرة أخرى ثم راح يتململ في مكانه ويحاول لملمة نفسه استعداداً للنهوض .
الملامسة التي حدثت قبل قليل جعلت الفتاة المحجبة تتأهب للنزول حال توقف الحافلة في الكراج ، وقد قررت التنازل عن بقية النقود التي تناسى إرجاعها محصل السيارة … وعندما سقطت أوراقها الملفوفة على حقيبة الرجل لم تنتبه إلى ما حدث خلفها، وهرعت تتلقف الباب بيدها لمغادرة هذا المكان بأسرع ما يمكن . التقط الرجل أسطوانة الأوراق من الأرض، وطلب من أحد النازلين اللحاق بالفتاة المحجبة ليعطيها إياها وعندما انتهى خط النازلين، أو كاد، نظر الرجل إلى الحقيبة فبدرت منه آهة ضجر أخرى، ثم هز رأسه بضيق وهو يرى أن رجله قد تحركت من مكانها وأصبحت معلقة إلى ركبته بدون إحكام .. لم يكن ثمة متسع أمامه لإصلاح ما تخلخل فانحنى على رجله اليمنى وخلعها ووضعها فوق المقعد الذي كانت تجلس عليه الفتاة المحجبة .. وبعد أن تمكن من الوقوف بصعوبة انحنى مرة أخرى ليلتقط عكازاً ممدداً على الأرض بمحاذاة المقعد الذي كان يجلس عليه نفسه . نظر إليه السائق بشيء من التفهم ثم قال :
– ها .. هل تحتاج إلى مساعدة ؟
فقال الرجل :
– كلا .. فأنا مستعجل .
ثم وضع رجله تحت أبطه وهبط من الحافلة حاملاً حقيبة النقود … وكان آخر من فعل ذلك .
من مجموعة لا تنظر الى الساعة
1999