إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ بنشر ملفها عن الروائي والقاص المبدع الأستاذ “حنّون مجيد” الذي أثرى المكتبة السرديّة العراقية والعربية بالأعمال الروائية والمجموعات القصصية المميزة التي مثّلت إضافة نوعية وكبيرة إلى الفن السردي العراقي والعربي. تدعو أسرة الموقع الأحبّة الكتّاب والقرّاء إلى إغناء هذا الملف بما يتوفّر لديهم من مقالات وصور ووثائق.
القاص والروائي حنون مجيد في ضيافة النور
الحوار :
حاوره : علي حنون العقابي
كنا فاعلين في هذه الحياة مهما كانت نسبة الفشل ومهما كانت نسبة النجاح وحياة أيّ منا تستحق التدوين
الأديب العراقي مهما كان لونهُ كان ضحية الواقع الإجتماعي بهذا القدر أو ذاك
كان يمكن أن تطوى هذه التجربة لولا إصراري الشديد على إظهارها الى الوجود
القاص والروائي حنون مجيد من مواليد محافظة ميسان ناحية المشرح عام 1939- بكالوريوس في التربية وعلم النفس .رئيس تحرير الموسوعة الثقافيةفي دار الشؤون الثقافية. خبير في دار ثقافة الاطفال. كتب القصة القصيرة والرواية والمسرحية وقصص الاطفال.نشرت قصص في الصحف والمجلات العراقية والعربية كالاداب اللبنانية وافكار الاردنية والرافد الاماراتية والكاتب العربي السورية وغيرها وصدرت له الاعمال التالية:- تعاقب الفصول – البحيرة – الطائر- العراف- لوحة فنان – رواية المنعطف – تاريخ العائلة- مغامرة في ليلة الغابة قصة مصورة للاطفال -وله رواية تحت الطبع بعنوان مملكة البيت السعيد وقد ترجمت العديد من قصصه الى العديد من اللغات الحية عقب الاحتفالية الكبيرة التي اقامتها كلية اللغات في جامعة بغداد تكريماً له- التقيناه في حوار مفتوح وتوجهنا اليه بالسؤال الاول:-
* كيف تنظر الى تجربتك الأدبية بعد تقديم هذا المنجز المهم في كتابة القصة والرواية ، خصوصاً بعد ترجمة أعمالك الى عدة لغات ؟
ـ ليس من شك في أنني أنظر الى تجربتي باعتزاز ، لكنهُ اعتزاز الأديب المتواضع الذي ينظر الى تجارب الآخرين باحترام ويدرك مدى تعالق دورهُ معهم في رسم لوحة القصة والرواية في العراق .
بيد إن هذه التجربة ، كما ذكرت في إجابات سابقة ، كان يمكن أن تطوى كما طويت تجارب كانت حينها واعدة وناضجة لمبدعين اعترضت طرقهم عوائق صعبة ، فصمتوا التماساً للكرامة ، أو ماتوا حسرة ، وخلفوا آثارهم مكتوبة بدم قلوبهم وعِظم نفوسهم .
ويمكنني في هذا المجال ، إن ذكرت نموذجاً حياً لذلك ، فلن يكون غير صديقي الراحل حسني الناشئ الذي أول من كتب رواية عن هرب السجناء السياسيين من سجن الحلة ، أسماها (( النفق )) وكان ذلك منذُ ما يزيد على ربع قرن من الزمان ، وظلت مركونة في الأدراج هي وروايات ومجموعات قصصية كتبها على مدى الأربعين عاماً ، لم تكتحل عيناه برؤيتها مطبوعة الاّ واحدة طبعت على نفقة أهله حتى وافاهُ الأجل قبل دخول قوات الاحتلال بغداد العزيزة بسنتين..
كان يمكن أن تطوى تجربتي هذه لأسباب منها النفي شبه القسري عن بغداد الى العمارة وأنا طالب في الصف المنتهي من دار المعلمين الابتدائية في الأعظمية وتعييني هناك معلماً في أقصى الريف، ثم الملابسات السياسية وما جرتهُ على الناس جميعاً من إعتقالات وسجن وتشريد وأخصهم الأدباء وغيرهم من مثقفي العراق …. كان يمكن أن تطوى هذه التجربة لولا إصراري الشديد على إظهارها الى الوجود ، ولولا سعة علاقاتي بالأدباء من شتى الأطراف .
إن الدخول في التفاصيل الحادة و العميقة لتجارب معينة ومنها تجربتي المتواضعة ، لن يكون في صالح الأديب الذي يتحدث عن تجربته في مساحة ضيقة مثل مساحة أية جريدة ، إنما كل ما يمكن قولهُ أن الأديب العراقي مهما كان لونهُ كان ضحية الواقع الاجتماعي وبهذا القدر أو ذاك ، وهنا يحاصرني هذا السؤال: هل أعطى قاص كبير مثل موسى كريدي كل ما زخرت به تجربتهُ الحياتية والثقافية ؟ وهل عبر عنها تماماً ؟ بل ما مقدار الحرية التي كان بوسعهُ أن يتحرك فيها ؟ الأمر ينطبق على تجارب مماثلة لعلّ أقربها الى الذهن تجربة القاص والروائي نعمان مجيد الذي ترك وراءهُ إرثاً ليس هيناً لم يكن بمقدورهُ آنذاك عرضهُ على النشر.
أما ما يتعلق بترجمة بعض أعمالي الى اللغات الأجنبية فهو مصدر سعادة كبيرة, لقد ترجمت واحدة من قصصي الى الانكليزية والفرنسية والألمانية والروسية والتركية والفارسية واليونانية والعبرية السريانية وهكذا ، وما يزال أحد الأساتذه الأجلاء في كلية اللغات وهو الأستاذ الدكتور موفق محمد المصلح رئيس قسم اللغة الألمانية هناك يواصل ترجمة بعض قصصي الى الألمانية ويبعثها الى جهات ثقافية في ألمانيا بعد أن وجد استجابة هذه الجهات لنوع من القصص التي أكتبها وكان الأستاذ الدكتور موفق يختارها بعناية فائقة … لم تكن هذه الترجمة الأولى من نوعها بل عززها وأكسبها الصفة الواسعة. الأستاذ الدكتور عبد الواحد محمد الذي كان عميداً لكلية اللغات الذي أعتمد إسلوباً لم يسبقهُ اليه أحد يقوم على ترجمة عمل لأديب ما الى مجموعة لغات ، ثم الاحتفاء بهذا الأديب للتعرف عليه والتعريف به ، يتبع ذلك طبع الترجمات مع الأصل العربي في كتيب يوزع على مرافق ثقافية عربية وأجنبية . ولعل من المؤسف أن ينقطع هذا الاجراء بعد تجربتين الأولى حصلت مع الشاعر العراقي عيسى حسن الياسري .
* لقد أثارت روايتك (( المنعطف )) الكثير من ردود الفعل ، وقد كتب عنها النقاد كثيراً ، فهل تعتقد بأنك سوف تتجاوزها في عملك الروائي القادم ؟
ـ نعم ، أثارت هذه الرواية الكثير من ردود الأفعال تجســـدت في عشـــرات المقالات والدراسات التي تناولتها من زوايا عديدة ، وما تزال الدراسات المختلفة تكتب عنها بنوع من الاهتمام الذي يجد في نفسي تقديراً لا حدود لهُ ، وآخر هذهِ الدراسات عنها ، الكتاب الذي أصدرهُ الناقد الكبير عبد الرضا جباره عن اتحاد أدباء النجف . والكتاب المعد للطبع للناقد المبدع زهير الجبوري بعنوان (( الرواية المدينية )) جمع فيه مجموعة دراسات شملت روايات (( المقامة البصرية العصرية)) لمهدي عيسى الصــقر و ((الطاطران)) لعبد الستار ناصر و (( دومة الجندل )) لجهاد مجيد .
و انهُ لمن المسعد والمفرح أن نرى النقد التطبيقي يسترد عافيته ويأخذ حيزه المهم في مساحة الأدب القصصي والروائي . نجد ذلك في أسماء كثيرة مثل فاضل ثامر وياسين النصير ود. محمد أبو خضير ود. سمير الخليل ومقداد مسعود وصادق الصكَر وعبد الرضا جباره وعبد العزيز ابراهيم و ناجح المعموري و جاسم عاصي و حسن سلمان وزهير الجبوري و د. جاسم محمد جسام وجمال جاسم أمين وبشير حاجم واسماعيل ابراهيم عبد ومحمد قاسم الياسري وعبد علي حسن و آخرين لم تسعفني الذاكرة على ذكر أسمائهم جميعاً وأعتذر منهم ولهم.
أما سؤالك إن كنت تجاوزت في روايتي التي أنجزتها قريباً ، رواية المنعطف فأعتقد أن نعم لأسباب منها سعة مساحة الرواية الجديدة وتنوع أحداثها وألوان شخصياتها و حساسية موضوعها الذي لم أكتب فيه من قبل ، ولعل أهم ما ينبغي الاشارة اليه في هذه الرواية ، أنها ناقشت في فصل من فصولها توزع الشخصية العراقية وانقسامها في بعض الحروب و الملمات ، وهو ما لم تتطرق اليه رواية أو قصة قبلاً ، وهو ما لم يحصل لشعب أوجماعة أخرى على العموم..
* كيف تنظر الى الحركة الأدبية عموماً في العراق بعد مرحلة سقوط الصنم؟
ـ في الاجابة على هذا السؤال قد أخالف الكثير من الاراء و الاجابات التي سبق أن تصدت لهذا الموضوع ، إذ أعتقد جازماً بأن الحركة الأدبية في العراق الآن في أجلى صورها نشاطاً وتنوعاً وتجلياً ، مع ما يرافقها أحياناً من اختلاطات و تداخلات لن تكون في الأخير إلا من الزوائد التي غالباً ما تطرحها الثقافة الأصيلة في تفاعلاتها الحية و العميقة . وقد حصل هذا في تجارب عديد من البلدان و الشعوب التي وجدت نفسها وجهاً لوجه مع متغيرات عميقة كان من جرائها أن كثرت دور النشر و ازداد المطبوع وراجت الكتب وبرزت أسماء جديدة كانت الى ما قبل ذلك غائبة وخافية ومخفية وقد أحيلك الى المدارس والحركات الفنية التي برزت جديدة الى الوجود وكانت صدى لمتغيرات اجتماعية حصلت في هذا البلد أو ذاك من البلدان الأوربية تحديداً .
ستؤكد السنوات القريبة القادمة هذا الاعتقاد و ستبرز أو تؤكد هويتها الثرية أسماء لامعة تضفي على الثقافة العراقية طابعاً جديداً يليق بها و يعوض ما فقدتهُ أثناء تاريخها الطويل .
* ماهي المدن والقصبات التي تركت أثرها في نفسك ، وتحـــــــب أن تتردد عليها دائماً ؟
ـ لقد امتدت خطواتي على أكبر مساحة جغرافية من العراق ، سواء مـــــــن جنوبهُ أم شماله و كنتُ أرى في سفري وترحالي مع صديق أومفرداً مع كتاب ، كيفية من كيفيات زيادة المعرفة والترويح عن الذات وآلية ربما كانت خفية من آليات العمل على إطالة العمر وكذلك التشبث بالتأريخ لما يزخر به هذا البلد العظيم من آثار وشواهد محل فخر واعتزاز ، لذلك كنتُ أزور ديالى لأجلس في مقاهي بعقوبة وأتملى نهرها الصغير الذي يخترقها ، وأتطلع الى بساتينها الكثيفة ، ولن أنسى اليوم الذي زرتُ فيه أحد أصدقائي هناك ودخلت بيته الذي كان داخل بستان يثير الشعر . لقد خلقت تلك اللحظة في عقلي أجمل صور الخيال . كذلك الأمر مع سامراء التي أعدها أكثر المدن التي كررت زيارتها ، ولعل قصتي (( الأعالي )) التي ضمتها مجموعتي القصصية (( البحيرة )) هي القصة الوحيدة التي كتبها قاص عن ملويتها الخالدة . وهكذا الأمر مع الحلة والموصل وأربيل والسليمانية والرمادي ودهوك والنجف وكربلاء وغيرها . وأكثر الأماكن التي تركت في نفسي أثراً لن أنساهُ هو مدينة (( شيخ سعد )) التي قضيت فيها أياماً لن تنسى …. كان ذلك منذُ ما يزيد على الأربعين عاماً .
*ما الذي يشغل حنون مجيد في الحياة غير هموم الأبداع بالكتابة ؟
ـ الرياضة أو الألعاب الرياضية بتعبير أدق ، ولكن أهم نماذجها ، كرة القدم والتنس ، وعلى المستوى العالمي وعلى عينات من ذلك وليس كلهُ وفي فترات ليست طويلة جداً تأخذني من الورقة أو الكتاب وهما غاية حياتي . ولا أكتمك أن قلت أنني كنتُ رياضياً بدرجة ما.
* لقد كتبت للأطفال قصصاً ذات طابع تربوي ، فكيف تتعامل مع الطفولة إبدا عيا ً ؟ وهل تجد صعوبة في ذلك ؟
ـ كتبتُ للأطفال قصصاً طويلة وقصيرة ، وهي كما تفضلت ذات طابع تربوي ، وهو أهم ما ينبغي أن يدرجه في أهمياته كاتب قصة الطفل ، لذلك أشار أحد النقاد الى ضرورة إدخال قصتي المطولة (( مغامرة في ليل الغابة )) في مناهج الدراسة الابتدائية ، لما حسِب أنها توفرت عليه من دعوة الى الشجاعة وتحدي المصاعب والإعتماد على النفس وتذليل العقبات.
وكتابة قصة الطفل ليست بالسهولة التي قد يظنها بعض الكتاب . فلكي تكتب قصة للطفل عليك أن تنزع نفسك من حجمها لتعود أدراجك الى محطات طفولتك ، وأولاعها ورغباتها ومشتهياتها ، ومشاهداتها الحية والعميقة وما وقف أمامها أو يسّر سيرورتها ، ثم لتعود الى وعيك كاتباً ينبغي عليه أن يعرف كيف يكتب ذلك . كيف يدونه بشخصية الطفل ومشاعره ولسانه وأداة الكاتب الكبير ، وهنا تكمن الصعوبة حين نقرأ قصصاً للأطفال ، موضوعاتها لهم وأسلوبها ولغتها للكبار وهذه مفارقة كبيرة . وأعتقد أن أبرز من يكتب للأطفال في العراق الان هم صلاح محمد علي ، د. شفيق مهدي ، عبد الرزاق المطلبي ، زهير رسام ، محمد حسن جبار ، جليل خزعل ،جواد عبد الحسين ، فاضل عباس الكعبي ، وغيرهم كثير .
* هل جسدت شخصيتك في أعمالك الأدبية ؟
ـ نعم … وأكثر ما حصل هذا في ((المنعطف)) التي كنتُ فيها المعلم سـليم ناصر مرة وطالب عبد الحق مرة ثانية ونديم ضاري مرة ثالثة ، لكن التجسيد الأكثر مباشرة كان في قصة (( إستئصال عقل )) التي ضمتها مجموعتي الأخيرة (( تأريخ العائلة )) فلقد كنتُ موضوعها مضافاً اليه خيال القاص.
وكأي كاتب لهُ تجربة عميقة وحساسة في الحياة تجدهُ مبثوثاً في أثناء قًصصه ورواياته بهذه الصورة أو تلك وبهذا القدر أو ذاك ، وهو أمر تحدده فاعلية شخصيتك في الحياة ومشاركتك فيها والدور الذي تحملته في أعطافها ، ولو لم نكن حديثي العهد بكتابة السيرة الذاتية في عمل روائي لرأيت أننا كنا فاعلين في هذه الحياة مهما كانت نسبة الفشل ومهما كانت نسبة النجاح ، وحياة ايّ منا تستحق التدوين ، وحياة مَنْ أكثر غنى من حياتك ليدونها وتصبح مثار إعجاب القراء ، أنت المناضل الذي أوى الى الجبل وأكل لحم بغلهِ العزيز في حالة من حالات الجوع الشديد وشحة الزاد كما لو كان لحم غزال ؟
وأي دليل هذا على غزارة التجربة وتلاحم حياة الكاتب العراقي بحياة شعبهِ إن لم يكن هذا امتيازهُ العظيم؟.
*عن مركز النور