قلت ُ في نفسي ، دعه يمجد فوضى أسلافه ، إن لديه أكداسا من المخطوطات والمرتسمات التي تتقاطع فيها الأسباب وتندغم في شبكة من العلاقات المضطربة ، وهو لأجل ذلك سوف يحصي عدد السنين ، والملوك ، وينظر في إتساع حدود الأمبراطورية ، ثم أجناس السبايا ومآلهم حتى عهود متأخرة . ربما سأضطر أن أشرح له طبيعة تضاريس ألأرض بين المدن القائمة وتلك التي إندثرت .. ومرت عدة أعوام قبل أن يخبرني في أواخر أيامه قائلا :
– في تلك البلاد ، كانت أعياد الأنتصارات تزينها الدماء ويزينها الطين ، تقف الحشود على حافة النهر لتدفع للرب ضريبة المواسم الخصيبة ، ثم يتقدم الأحفاد وهم يرتلون الأناشيد ، أما الصبايا فعليهن رشق كل شئ بالورود وأوراق الآس .. بيد أني ألمح في ذاكرتي إحداهن ترسم بيدها دوائر في الهواء ، تبدأ كبيرة ثم تصغر حتى تصير بحجم الكف ..!
نظرت ُ إلى كفي وأبصرت ألأصبع المزين بالخاتم المحلى بقطعته الحجرية التي أهداني إياها لمناسبة زواجي من إبنته ؛ أدقق في تفاصيل الرجال الثلاثة المنقوشين على وجهها تحت علامة ثلاثية ! ومر التساؤل في خاطري .. تراه كان قائد ثلاثة جيوش ، أم وزير ثلاث مدن ، أم هو الحفيد الثالث ؟ رحت أمعن في الحجر وأنكر بابليته ، دهشا بتلك اللحى الطويلة والتيجان العالية ، بتلك السيقان وهي تنبي عن رجال جلدين صلبين وأزياء غير ما أعتاد عليه سكان بابل ..! لكن وفاة زوجته المفاجئة إضطرته لفتح حقيبة إحتفظت له فيها بأحجاره ومخطوطاته التي أوصى بدفنها في لحده عند وفاته . قال لي متحدثا عن المكتشفين ألأول ونحن في زحمة العزاء بعويل النساء :
– رافقتهم إلى ظلمات ( حمرين ) قبل بدء الحرب العظمى ، وعند حافتها الشمالية إدعى أحدهم أن هذه آقصى حدود بابل ولا معنى لتوغلنا أبعد من ذلك ، فكل ما سيأتي هو أرض طغاة خسفها الرب كما تقول أسفار العهد القديم .
قلت ُ :
– عماه ، أتحاول إخفاء حزنك بهذا ؟ لتنتهي مراسيم العزاء ونعود بعدها لحديث اسلافنا كما تشاء .
بيد أنه هز رأسه قائلا وهو يخلط النحيب بالكلام :
– ولدي .. لقد كانت هي المرأة التي تصنع الدوائر في الهواء ، إن وجهها مرسوم على كل أوجه النساء في هذه الأحجار ..
ومنذ تلك اللحظة أدركتُ معنى الحب برائحة البخور في طيات الحقائب ، وعرفت أن ((الموت قد يجلس أمامنا كرائحة السوسن أو يجري مثل مجرى الماء العذب)) .. وبقيت أرقب في وجهه وعقاله وغطاء رأسه الممحل لمح ظلال غريبة ، تأكدت يوما ما بصرخته ( لا تأمنهم ) .. وأرعبني أن تكون تلك صيحة مخافات بدأت من حقائق على وجه الأحجار ، وعناءات خلفها زيف الوثائق التي تحفل بها دارات إخوتنا اليهود في محلاتنا العتيقة .. قال :
– أخبرتني رفقة بنت دانيال أنها مغادرة الى فلسطين وتاركة لي كل شئ ، قالت سأترك لك إبنة عمك لتنعم بها كما تشاء ، لقد آثرت َ أن تحفظ أحجارك لديها ، لا بأس ، هناك من سيحصل لي على أثمن منها أيها الوغد .
وأردف َ :
– كنت ُ سأحبها أيها الولد ..!
فتشت في مخطوطاته ووجدت أن العلامة الثلاثية على وجه الحجر في الخاتم الذي أودعته لدى زوجتي أخيرا كانت قد وردت في الكتابات القديمة بالطريقة نفسها ، وهي العلامة التي تكتب بها المدينة السومرية ، غير أنها كانت تشير إحتمالا الى معبد آشوري ، ثم صارت على ما يظن ديرا أو كنيسة مسيحية ، ثم جامعا إسلاميا ، قال :
– رفقة .. ، ياه ..! ، كانت بارعة في معنى العلامات ، ولولا أنها تأول رموزها بطريقة مريبة وترسل ما يحلو لها منها الى أولئك الأنكليز ثم تخفي الباقيات لكانت هي حماتك اليوم ، ألحمد لله أني استرجعت منها تلك القطع النفيسة بثمن فراقها .
تساءلت ُ ، إن كان قد تمرد على تلك الفتاة الفريدة الحسناء لولاءاتها المريبة فلا بد إذن مما يقف خلف ريب كل ذلك لديه .. مفاجأة أو مفارقة لم يكن علي التمادي في حسبانها لولا أن كثيرا من المزاعم ، وما يقترن بها من أساطير كانت قد تهاوت لدي بفعل ألقراءات وسحرها . تكشفت ْ لي مشاريع من التقصيات إبتدأت من علامة الخاتم وآستمرت برغبتي كراوية أو مفسر بالأضافة الى ما يستجد أمام ناظري من خيالي الخاص بإزاء الضباب الذي يطوقني . وضع َ خطا أحمر تحت كل سطر من سطور هذه المخطوطة التي أخرجها من إسطوانة نحاسية زاعما أنها ترجمة رقيم طيني أهداه له ألأنكليز الذين إبتاعوه من صياد كان يجفف السمك على ضفاف نهر الغراف في الناصرية :
((عندما في ألأعالي لم تكن هناك سماء
وفي ألأسفل لم تكن هناك أرض
لم يكن من آلآلهة سوى آبسو أبوهم
وممو وتعامة التي حملت بهم جميعا
يمزجون أمواههم معا ..
قبل أن تظهر المراعي
وتتكون سبخات القصب
قبل أن يظهر للوجود ألآلهة ألآخرون …))
أي سر يكتنف ألأسم وهو يشير بفراسته المعهودة إلى العلامة الثلاثية على الخاتم قائلا :
– لقد فتحت ُ لك فتحا مبينا .. !
وأيقنت ُ أني حين شبكتُ دوائرها التي تصغر الى حجم الكف بذاكرته الفراتية ومخطوطاته التي تكشف أسرار الخليقة السومرية وألأسرالبابلي ، إنتميت الى هذا الرجل الذي يشبه الضفاف وفصمت ُ بقواه الخرافية التي راح السحر فيها يغور بي إلى بطون ألأسطوانات النحاسية والحقائب العبقات برائحة البخور ، قلت ُ من علم ( منعم فرات ) أسرار ألآلهة القديمة ؟ من أتى بذلك النقيب ألأنكليزي من أصقاع إنكلترا إلى زقورة أور ليظهر على الطوفان ؟ وتسللت ْ إلى ذاكرتي أوجه رجال أنقذتهم مصادفات غفلة من ميتات محققة ، إستعدت ُ ملامحها ، ووفرت ُ على نفسي شتات إنتماءاتهم ، وإقتنعت ُ فقط بالجذور ألإول .. ثم أحصيت ُ ميتاتي المؤجلات معهم بعدد القذائف التي تساقطت ، وكنت عندما أفتح حافظات الصور أقول لزوجتي :
– لا تحصي عدد الصور ، بل إحصي عدد ألأشباح فيها .
ورأيت ُ ولدي الصغير في تلك اللحظة يقلد عواء الكلاب ليطرد الثعالب عن قن الدجاج تاركا خوذتي الصدئة ملقاة في فناء الدار الخلفي بعد حرب خاضها مع أبناء الجيران ..
حاولت ُ أن أجمع عناصر هذا المشهد المغطى بسواد ثياب زوجتي على والدتها ، وبقاء النسوة معولات أربعين يوما على معنى التفاصيل التي يعدن بعدها إلى حياتهن اليومية من غير ما ذاكرة منثلمة .. ما آستطعت ُ !
إذ عدت ُ بعد تلك ألأربعين إلى دكانه الصغير في سوق الحلة الكبيرة لأخبره أن إبنته قد أضاعت الخاتم … !!!
ما أجابني ، وآستمر يبيع للنسوة المزدحمات على بقالته ، عقاقير للحمل ، وعقاقير للعقم ، وعقاقير لأنزال الحصى وهوى جوى ً .. ثم إقترب مني هامسا ً بعد حين :
– لقد أضعت َ أول َ حجر ٍ خط عليه ألأسلاف إسم .. نينوى .
1994