أمضيتُ عطلةَ أسبوعٍ في مدينة مراكش الرائعة، لعلَّ هواءها الربيعيّ العليل، وشمسها الدافئة، ومناظر جبالها ووهادها الخلابة، تبعث الراحة في فكري المُتعب، ونفسي المُنهكة، بسبب ما أتابعه من أخبارٍ مأساويّة مُحزِنة مثبِّطة عن فلسطين والشيشان والعراق. وهناك هاتفني الأستاذ عبد القادر الساري، المسؤول عن جمعية الشعلة الثقافية في بلدة آيت أورير، يدعوني لإلقاء محاضرة في دار الشباب صبيحة يوم الأحد.
كنتُ على وشك أن أعتذر إليه متذرِّعاً بأنَّني في عطلة، حينما تذكّرتُ أنّ من واجبي أن أنقل ما تعلّمتُ إلى الآخرين من أبناء الوطن، “فزكاة العِلم إنفاقه”، وأنّ على المهنيّ، طبيباً كان أو مهندساً أو معلّماً، أن لا يكتفي بالقيام بوظيفته في العيادة أو المصنع أو المدرسة، بل من واجبه أن ينشر معرفته المهنيّة بمختلف الوسائل بين أوسع شرائح الشعب، ليسهم فعلاً في تحقيق التنمية البشريّة. ومن ناحيةٍ أُخرى، شعرتُ أنّ القرى والأرياف لم تحظَ بالأنشطة الثقافيّة والتربويّة والصحيّة والاقتصاديّة اللازمة، مما حمل كثيراً من أبنائها على الهجرة إلى المُدن بحثاً عن حياة أفضل.
لهذا كلِّه قبلتُ الدعوة شاكراً، وتوجّهتُ صباح الأحد إلى بلدة آيت أورير التي تبعد عن مراكش حوالي 30 كيلومتراً في اتّجاه ورزازات. ورافقني بعض الأصدقاء منهم مستشار اتحاد كتّاب المغرب فرع مراكش الصحافي الشاعر مصطفى غلمان، والمؤرِّخ أحمد متفكِّر، والشاعر إسماعيل إزويرق، والناقد إبراهيم أولحيان. واهتدينا بدون صعوبةٍ إلى دار الشباب في تلك البلدة الصغيرة.
كانت دهشتي وخيبتي بالغتَيْن، عندما دخلتُ قاعة العروض في دار الشباب، لأنَّ القاعة كانت غاصَّةً بأطفالٍ صغارٍ لا تتجاوز أعمارهم عشر سنوات، لا بُدّ أنّّهم من الصفوف الأوليّة في المدرسة الابتدائيّة، بل لمحتُ بينهم طفلةً وضعت رضّاعة الحليب في فمها. ولكنّني كنتُ أمام الأمر الواقع، ولم يكُن في وسعي العودة أدراجي.
وعندما قدَّمني أحدهم بكلماتٍ أدبيّةٍ بليغةٍ رفيعةٍ، تحدّث فيها عن مؤلَّفاتي في علم المصطلح وصناعة المعجم والتنمية الاقتصاديّة، بدت لي وجوه الأطفال فارغة من أيِّ تعبير، كأَنَّها لا تدرك ما يُقال، أو هكذا خُيّْل إليّ. فهمستُ في أُذن الخطيب أنْ أوجز.
وأخذتُ الكلمة عازماً على أنْ أخاطب أولئك الأطفال بأسهل لغةٍ ممكنة، وأنْ لا أتناول إلا الموضوعات القريبة من أفهامهم واهتماماتهم الطفوليّة. ولهذا اخترتُ مجموعتي القصصية “رسالة إلى حبيبتي”التي تشتمل على قصص قصيرة عن طفولتي. وقلتُ لهم إنّني في طفولتي كنتُ أعيش في قريةٍ صغيرة في وسط العراق، هي أصغر من بلدة آيت أورير، وكنتُ أحلم أن أُصبِح كاتباً، وإنّني أتمنّى أن يكون منهم كتّابٌ في المستقبل وكثيرٌ من المهندسين والزراعيّين والحاسوبيّين والأطباء، لأنّ تطوير البلاد وتحسين الحياة يحتاجان إلى العلميِّين والتقنيِّين.
وأخذتُ أسرد لهم بعض قصص المجموعة مثل قصّة يومي الأوَّل في المدرسة عندما عثر المعلِّم بعتبة باب القسم فسقط أرضاً بكرشه الكبيرة فضحكتُ عليه ببلاهة، ولكنَّه سرعان ما نهض ورفع عصاه سائلاً عن الذي ضحك، ولم أتمكَّن من السكوت فاعترفتُ، فما كان منه إلا أنْ رفعني بكلتا يديه فظننتُ أنّه سيرميني أرضاً عقاباً لي، ولكنّه أوقفني على المنضدة، وطلب من التلاميذ أن يصفّقوا لي، لأنّني قلتُ الحقيقة. ثم أخبرتهم عن قصَّة أُخرى في المجموعة، تدور حول بطَّةٍ صغيرةٍ اتَّخذتُها صديقةً لي في طفولتي وسمّيتها “وفاء”، وكنتُ أصطحبها كلّ يوم بعد المدرسة إلى النهر القريب لتسبح فيه قليلاً، ثمَّ نعود إلى المنزل. وذات يوم مرّ سربٌ من البطّ البريّ في النهر، فلحقتْ به بطّتي ولم تَعُد إليّ، غير آبهةٍ بندائي، فرجعتُ باكياً إلى المنزل.
وكنتُ وأنا أروي للأطفال هذه القصص، أشاهد في وجوههم وعيونهم وعلى شفاههم التجاوب معي، أو هكذا خُيِّل إليّ. فداخلني بعض الزهو والعُجْب، والعياذ بالله منهما. وبكلِّ ثقةٍ بالنفس، فتحتُ باب الأسئلة. فرفعت إصبعها طفلةٌ صغيرةُ لا يتجاوز عمرها ثماني سنوات وقالتْ بأدبٍ ولطفٍ:
“شكراً، أستاذ، على إخبارنا عن المُعلّم الذي ضحكتَ عليه وعن بطتك التي أضعتَها، ولكن ماذا كتبتَ لأطفال العراق الذين لا يجدون الحليب ولا يتوفرون على الدواء؟ ”
أصابني الذهول. لم أصدّق ما سمعتُ. طفلةٌ صغيرةٌ تطرح هموماً كبيرةً، كبيرةً جداً. لو كانت الطفلة تقرأ من ورقةٍ، لقلتُ إنَّ أحد المعلِّمين كتب لها السؤال. بَيدَ أنّ الطفلة ارتجلتِ السؤال بعفويّةٍ وتلقائيّةٍ أمام ناظريّ. حاولتُ أن استجمع شتات فكري المندهش، وألملم أشلاء نفسي التي انفعلت وجدانيّاً، لأتمكَّن من الإجابة.
تذكرتُ، في تلك اللحظة، أنَّ أطفال اليوم أذكى من أطفال الأمس، وأوسع معرفة وأعمق فكراً، بفضل وسائل الاتّصال الحديثة كالفضائيّات والحاسوب والفيديو والسينما وغيرها، وبفضل المناهج المدرسيّة الحديثة وطرائق التدريس المبتكرة. وقدّرتُ أنّ عمر تلك الطفلة العقليّ يفوق عمرها الزمنيّ، كما يقول علماء النفس التربويّ. وشعرتُ بالخطأ الذي اقترفتُه حين أسففتُ في مستوى الخطاب، وأدركتُ صواب زميلي الذي ارتفع بمستوى اللغة، وخاطب الأطفال بجدّية خطابََ البالغين كامليّ الأهليّة، لتدريبهم على احترام الذات وتحمُّل المسؤوليّات.
لم أُرِد أن يتضمّن جوابي إخبار تلك الطفلة عن المقالات التي كتبتها عن فلسطين والشيشان والعراق. ولم أشأ أن أبيّن لها أنّ عنوان المجموعة القصصية “رسالة إلى حبيبتي “هو رسالة إلى الوطن، ولم أتقصّد إبلاغها عن رسائلي بالبريد الإلكتروني إلى كثير من أصدقائي ومعارفي من الأدباء والمثقَّفين في أمريكا وأوربا وآسيا وغيرها وما تحمله من وجهة نظري في السياسات الأمريكية الخاطئة في فلسطين والعراق وبقية البلاد العربيّة، تلك السياسات التي تسيء إلى الصداقة بين الشعوب وتشجّع المشاعر العدوانيّة المتطرّفة.
أردتُ أن أتقبّل ملاحظة تلك الطفلة، وأكافئها على ذكائها وشجاعتها الأدبيّة ولباقتها، فوقفتُ لأجيب احتراماً لها، وخاطبتُها كفتاةٍ ناضجةٍ بقولي:
“آنستي العزيزة: أعترف أنّكِ على صواب، وأعترفُ أنّني كاتب بلا خيال، تنقصني القدرة على التخيُّل. فأنا لا أستطيع الكتابة إلا عن تجاربٍخبرتُها بنفسي وانفعلتُ بها. ولمّا لم يكُن لي طفل رضيع يصعب عليَّ شراء حليب له، ولم يكُن لي طفلٌ مريضٌ بالسرطان يلفظ أنفاسه بين ذراعيّ دون أن أتمكّن من توفير الدواء له، فإنّني لم أكتب عن أطفال العراق. ولكنّني أعِدك ـ يا آنستي العزيزة ـ أنّني سأبذل جهدي لأكتب في المستقبل عن أطفال فلسطين والعراق والشيشان، وعن جميع الأطفال البائسين والمنكوبين والمشرَّدين في كلِّ مكان.”
ــــــــــــ