علي عبد العال أديب ومغترب عراقي في السويد ، حـيث أقام فيها سنواتٍ طوالا ً ، بعد أنْ فرَّ من مدينته الديوانية ، مبتغيا ً الخلاص والنجوة من الملاحقة والوقوع بأيدي مَن لا يرحم من رجال الأمن والمخابرات ، وانضوى لفصائل الأنصار المقاتلة إلى جانب تشكيلات الأحزاب الكردية في الشمال العراقي ، بأمل زعزعة النظام السابق وإضعافه ، نتيجة خلق المشاكل والصعوبات أمامه بمرور الأيَام ، وليس بالضرورة أنْ تكونَ جماعة الأنصار ذات الارتباط والاتصال بالحزب الشيوعي مندمجة وملتحمة بجموع الكرد ، وتذعن لإمرة قادتهم الميدانيينَ ، وتعمل بتوجيههم ، بل تمارس فعاليَّّاتها لوحدها وفي ناحية من أراضي كردستان قد تكون نائية عن مواقع يوالي منها الكرد صولاتهم على عساكر الحكومة المركزيَّة المتصرِّفة بمقدَّرات الجميع ، ولا أدري لمَ لمْ يُسَمِّ المؤرِّخونَ والعسكريونَ المنصرفونَ للتأليف في الشؤون الحربية والمهتمُّونَ برصد تحرُّكات الجيوش نحو الجهات التي يعمُّها الاضطراب وتسودها الفتن والقلاقل ، ويُحرَّم السكان في البلاد عامة من نعمة الأمن ومزاولة الحياة الاعتيادية ، قلتُ لا دري لمَ ونوا لحدِّ هذا الوقت في إطلاق صفة الحرب الأهلية على الاحتدامات التي نشبَتْ في شمالي البلاد منذ أيلول عام 1961م ــ لغاية آذار عام 1991م ، تخللتها فترات توقفٍ فمساومات وتفاهمات مفتعلة ، يستردُّ فيها الطرفان بعض الأنفاس ، ريثما يحين الأوان ليجهز كلُّ على خصمه ، لكن انتهَتِ المواجهة والتشاحن بينهما على تلك الشاكلة المعروفة إثر أحداث الكويت ، وشخوص القوات الدولية وعلى رأسها عساكر الولايات المتحدة الأمريكية مثل حاجز يفصل المنطقة الكردية عن سائر الديار العراقية ، وينهي سيادة الحكومة فيها وسيطرتها عليها ، ليؤسَّس فيها حكم يمثل شعب كردستان بمؤسَّساته وتنظيماته المتحضِّرة والمتطوِّرة والراقية نسبيا ً إلى جانب السلطات التنفيذية المدركة الواعية والمتفهِّمة لحاجات الأهالي ورغائبهم ، حتى إذا أديل من النظام المركزي السابق بتدخُّل أمريكي أيضا ً ، استجابة وصدعا ً بانتخاء زمر من أبناء البلاد واستنجادهم به بشتى المزاعم والادِّعاءات ــ منها الحقيقي وغير الحقيقي ــ واصلت الحكومة الوليدة في الإقليم مضفية هذه التسمية عليها بعد أنْ أمِنتْ من أنْ تمنى بالتصويح والاستهداف من غارات الداخل والخارج ، قلتُ مضَتْ قدما ً في تنفيذ برامجها وخططها في البناء والإعمار وتجديد الحياة وتحديثها ضمن الوطن الواحد ، وكأنَّ مَن هم على رأس السلطة فيها من الذوَّاد والقادة الساهرينَ ذوو خبراتٍ وتجارب متراكمة في التحديث وإرساء مقوِّمات الازدهار والحضارة وإنعاش حياة بني جلدتهم جميعا ً ، بعد أنْ نعموا بالصفو والدعة وتذوَّقوا طعم الاستقرار والحياة الرخيَّة ، دون أنْ تروِّعهم جائحات الخراب والدمار ويفزعهم الهلع والذعر ، بحيث لا تدري نفس بأيِّ أرض تموت ، ومتى تحين ساعة مغادرتها الدنيا لتستريح من أنكادها ومتاعبها ، وما عليها بمَن تدنيها منهم صلاتٌ وروابط والتزامات ، كما حصل لبقيَّة السكان القاطنينَ في حواضر العراق الأخرى عُقيْبَ الاحتلال ، قلتُ تمَّ هذا وتيسَّر للقيادة الكردية بنتيجة الصدامات الشرسة والمواجهات العنيفة بين أجناد الحكومات المركزية المتعاقبة ،
بدأ ً من حكومة عبد الكريم قاسم وانتهاءً بحكومة صدام حسين ، مرورا ً بسلطة الأخوين ِ عارف ، وأحمد حسن البكر ؛ سَئِم فيها الأهلونَ في وسط العراق وجنوبه من كثرة توافد جثث الضحايا والإتيان بها من أقاصي شمالي البلاد ، يخالهم الثوار الكرد معتدينَ وقتلى لقوا جزاءهم وعقابهم ، وينظر لهم أسيادهم ــ المتربِّعونَ على كراسيِّ الحكم ــ شهداء دافعوا عن استقلال الوطن ، ولقنوا المتمرِّدينَ والخارجينَ على القانون والنظام دروسا ً لا تجحَد في الذياد والإباء ، دون أنْ ينزعوا لتوعيتهم بكونهم لا يقاومونَ عدوا منتهكا ً حرمة البلاد ، لأنـَّهم لا يحبِّذونَ ذلك أصلا ً ، ليستديم جبروتهم وسلطانهم ، وهنا أستذكر قولة ( آرنست همنغواي ) حين دخل أسبانيا أوائل عام 1937م ، مراسلا ً لصحيفةٍ أمريكية فشهد بعض المعارك التي تمزَّق لها قلبه ، وصار الكلُّ عنده موتى ، فحيَّا مَن رأى أشلاءَهم من الإيطاليينَ مبعثرة على الصخور في أسبانيا بقوله : (( لقد ماتوا ميتة الشجعان )) ، رغم أنَّ موقفه مع الجمهوريينَ ، ومدلول هذه القولة في مِلـَّةِ كاتبنا أنـَّه (( يحكي الفرق بينَ مَن يرونَ الإنسان في أعدى الأعداء ، وبين مَن يرونه في أصدق الأصدقاء ، دون أنْ يغضَّ ذلك من كفاحه ضد الفاشية ، وهؤلاء لا يقاتلونَ بقوَّة الحقد الأعمى ، لكن يقاتلونَ بقوَّة الحب الأسمى الذي خلق الله به الوجود )) ، كما يستقري ذلك الدكتور لويس عوض في كتابه ( الاشتراكية والأدب ) .
ولنعد إلى مغامرة الأديب علي عبد العال الاضطرارية في النزوح والتجواب بين الأمصار وديارات العالم ، والتي أسعفته بمعاناة التجارب الأدبية والتمكن من الصنيع الفني بمهارة وإتقان ، لا سِيَّما بعد أنْ نصل من ارتباطه بشلته الحزبية وتحلل من الانصياع لتوجُّهاتها وما تلزم به الأدباء من التعامي عن الإيماء للخطأ والتصدي لمناقشته واكتناه الدواعي التي أوجبته والمضار الناجمة عن الامتثال لها ، ذاما ً ومنتقدا ً ومستهجنا ً تصرُّفات كبرائها في التنظير والتوجيه ، ليتجه صوب لبنان فبلغاريا ومنها إلى ستوكهولم بالسويد ، مريحا ً ركابه من أين ٍ ومن عثر ٍ كما يقول شاعر العصر ، ويغتنم فرصة عمل مجزية بمكتبة بلديَّتها العامة ، ممَّا يلائم مزاجه وشغفه بالكتب ، ويستوي هو ونزوعه الأدبي ، واستغرق غيابه وضياعه بينَ معاشر لا يجانسها ولا يمتُّ لها بعرق ٍ ولغةٍ ودين ٍ ، قرابة ربع قرن ، وآبَ بعد هذه السنين العِجاف الطوال للديار مبتغيا ً لقاء أمِّه في الديوانية ، فأبصر من مشاهد الخراب والدمار في أرجاء البلاد التي ألمَّ بها عُقيْبَ زوال الكابوس وسقوط النظام وتعريس القوات الأجنبية في ربوعها ، ما زهَّده في المكث والبقاء ، مستيقنا ً أنَّ كلَّ صنيعة يسديها الأجنبي الواغل وتتمُّ على يده ، لا خير يُرتجى منها ، إنْ لم تكن مجرَّد منة يطالبنا دوما ً بردِّها وتوفيتها ولو بالانتقاص من كرامتنا وسيادتنا الوطنية ، فأظنـُّه أدار ظهره وقفل راجعا من حيث أتى ، شأنه في ذلك شأن الكثيرينَ من الذينَ عادوا فصُدِموا ، وربَّما تشوَّق لمراتع لهوه وتكيُّفه لمألوفات بيئته ــ التي ألف ويألف ــ مرتجيا ً من الرحمن علام الغيوب ــ وفي قرارة نفسه ــ أنْ يمنَّ على موطنه المرزوء والمنكد بالفرج السريع وانقشاع الغمَّة عنه .
كتاب ( الفردوس المشؤوم ) الصادر عن دار الينابيع بدمشق 2011م ، من تأليف الدكتور حسين سرمك حسن ، يتضمَّن دراسات ومداخلات شتى في بعض أعمال الأستاذ علي عبد العال الروائية ومجاميعه القصصية أو واحدة منها راقته ووقع اختياره عليها لمصادفتها هوىً في نفسه ، وتصاديا ً وما يعتمل في وجدانه من خطرات وأحاسيس ، ويختلج في أعماقه من تأمُّلات في المفارقات الحياتية المشحونة والزاخرة بالأعاجيب ، لذا أسماه ( حكـَّاء المنافي ) ، مستلهما ً في جوسه وتقرِّيه واستقصائه ومعرفته بعلم النفس ، وإحاطته وإلمامه بموروثات ( معلـِّم فينا ) ومأثوراته من الذخائر العلمية والكنوز المعرفية ، وهو ليس غير ( فرويد ) ، الذي استقصى غرائز الفرد الإنساني وأشاع في محيطه الثقافي مسمَّيات : العقل الباطن ، والكبت ، والغريزة الجنسية ؛ وذي الأخيرة هي العامل الأهم والأجسم والأخطر في تسيير سلوك الأفراد العاملينَ في الهيئة الاجتماعية ، وانبرى أنداده وأضداده من العلماء لمناقضته ومخالفته في إيلائه الغريزة الجنسية كلَّ هذه الأهمية والخطورة .
قلتُ احتكم الدكتور حسين سرمك حسن إلى مذخورهِ الجمِّ من هذه الحصائل والمعارف ، واستند إليها في تحليلاته الموفقة ونظراته الممعنة في ثلاثة من منجزات علي عبد العال الأدبية ، وهي : قصة ( المهاجر ) ، وقصة ( رسائل ميِّتة إلى الفردوس المفقود ) ، ورواية ( رحلة في الباخرة إلى ستوكهولم ) ؛ ربَّما ليجتلي من مجمل هذه النصوص واللقيات الأدبية أنَّ الغربة في بلاد الناس حيث تختلف عادات أهليها وأطوارهم عمَّا فتح الإنسان عينيه عليه من أعراف وتقاليد ولغة وديانة ، ولا بُدَّ من أنْ تداخله وتساوره الوحشة ويستغرقه الحنين والتشوُّق إلى مَن نأى عنهم وباينهم وتقطـَّعَتْ أسبابه بهم من أهل وجيران ، حتى وإنْ تحمَّل منهم ما تحمَّل من الأذى والنكال والتكدير ، من هنا لا يعني الوطن في ملـَّته شوارع وساحات وحدائق ومعاهد ، فهذه ربَّما تكون في البلاد المنزوح إليها أبهى وأرقى وأبهج للنفوس وأخلب للعقول ، بل يعني عودة إلى الرحم واتصالا ً بالجذور الأولى ، حتى لو رَحِبَتْ أكناف الوطن الجديد والمُستقبـِل أو المُضَيِّف بما وسعها من الحماية والضمان والأمن ، وأغدَقتْ عليه بالنعيم والسعادة ، وصانته من الملاحقة والمطاردة التي صار لا مَناص من أنْ تتعرَّض لها أجيال العراقيينَ بالترادُف والتعاقبِ المزمنين ِ .
حسنا ً ، لكن ما عسى أنْ يكون وقع هذه المعاني في نفوس كثير من اللاجئينَ العراقيينَ العائشينَ اليوم بسوريا لعوامل وأسباب مختلفة ؟ ، منها شعورهم بالاضطهاد زمن النظام الشمولي السابق ، حتى إذا أديل منه بتدخُّل خارجي لم يحصلوا على أدنى حقوقهم في ظل العهد الجديد الذي أحسن مَن أحسن مماشاته ، بعدما استهجن غزو الأمريكان لربوعنا عشيَّة تأهُّبهم وشروعهم به من خلال مقيلاتٍ نشرتها صحافة العشرين يوما ً ! ، وطواها النسيان ، بينا لو جنح للسكوت بعدها لكان أحجى به وأرزن من أنْ يغدو حُوَّلا ً قـُلـَّبا ً ؛ ومن هؤلاء اللاجئين مَن نجا بجلده من تخويف الميليشيات والإرهابيينَ وإقلاقهم عيشه في البلاد ، وينعى هذا النفر المتشائم على الشعب العراقي غفلته واستنامته ويبلغ منه النظر الساخط حدَّ أنْ يصمه بالتخبُّط والنكوص والعماية ، بلْ يلومه على مسارعته للانتخابات غير مكتنهٍ سرائرَ مَن انتخبهم ودوافعهم للتصدُّر على رأس العملية السياسية ، مغضيا ً عن مقدار مردوداتهم ومدخولاتهم وامتيازاتهم وهو خاوي الوفاض ومحروم من أبسط متع الحياة ، بعد أنْ بَعُد عهده بأيَّام الكفاح الوطني الصحيح ، أو اندرس أفراد ذلك الجيل المتمرِّس بالنضال المستميت ، ويعرف ماذا يريد وبماذا يطالِب ، وبغيته أنْ تنصلح ألأمور بحكمة أهل الرأي ودرايتهم ؛ قلتُ ما عسى أنْ يكون مردود هذه الآراء والأقوال القادحة بهجران المَوَاطِن والترحال عنها والانتشار في الديارات وبلاد العالم في نفوس المتردِّدين يوميا ً بالعشرات على المفوضيَّة السامية لشؤون اللاجئينَ بدمشق ، عارضينَ عليها ترحيلهم إلى بلادٍ تخلـِّصهم من العراق أو تخلـِّص العراق منهم ــ إذا استعرنا عبارة علي عبد العال ــ وتناشدها توطينهم إمَّـا في البلاد الأمريكية ، وإمَّا في كندا أو أستراليا ؛ والقبول والاستجابة مستمرَّان ، والنظر في الطلبات وتعرُّف الموجبات والأسباب ، والتدقيق في صحَّة الدوافع أو افتعالها واختلاقها ، قائمان على قدم ٍ وساق ، وكلا الطرفين ِ من طالبي اللجوء أو إعادة التوطين ــ الصادق العذر ، والمُدَّعِي الباطل الحُجَّة ــ توحِّدهما الرغبة في انتجاع أنحاء أنأى وأبعد .
فإلى الله يشكو العراقيونَ (( شقاءَهم وعناءَهم من التغاضي عن حقـِّهم في الانتفاع بثمرات البلاد ، وإلى الله نشكو الغربة في الوطن الغالي ، ومنه نستمدُّ العون على مكاره الزمان )) ، كما يقول زكي مبارك .
فاتني ذكر أو التنويه بأنَّ المؤلف الفاضل استهلَّ كتابه بإهداء إلى روح الأديب العراقي المغترب والمنتحر مهدي على الراضي ، الذي ذهب ضـياعا ً ضحيَّة عذابات الغربة وجحيم المنافي ، فقد حسِبَه يمزح معه في الصباح حينَ أنبأه أنـَّه سينتحر ليلا ً ، فنفـَّذ قولته وبرَّ بوعده فعلا ً ، فما أوجعَ الصدمة وأمَـضَّ ألألم في نفسه .
MahdiShakerAlobadi@Yahoo.Com