
( الى إيقاعات القصيدة الموسيقية Capriccio Italien لجايكوفسكي )
عندما فتحتُ عيني هذه المرّة .. وقعَ نظري على نور ٍ مغبش كان يدنو منـّي بتؤدة ثم يَخبو ببطء ، فأحسستُ بأن رأسي كان مطروحا ً بإتجاه ِ نافذة ٍ ما …
حدث هذا بعد ظلام ٍ دامس لا أدري كم من الآيام إستمرَّ لذا حاولت ُ بكل ِّ جهدي أن أستجمع َ شتات َ ذاكرتي فلم أقدر ، كانت الصور ُ تهرب ُ منها بسرعة ِ البرق على الرغم من إصراري العنيد بالإحتفاظ بها أطول فترة ممكنة ، فإنزلق َ رأسي عن الوسادة وهوى على كتفي ثم سال َ شيء ٌ دافيء و لزج من طرف ِ شفتي فوق صدري الأيسر …
إمتدت أصابع ٌ رقيقة لتمسح َ السائل المندلق من شفتي بقماشة مبللة بالدموع ولتعدّل َ وضع َ الوسادة تحت رأسي ، إنقطع َ الضياء ُ الباهت لفترة ٍ طويلة و بدأت ُ أنبش َ الحلكة َ بأجفان مثقلة فترآت لي أشباح ُ نساء متلحّفات بالعباءات تجمـّعن متفرّقات حول سريري ، نقلت ُ ناظري اليهنّ واحدة إثر أخرى فلم أتذكر أي ّ منهن ّ إطلاقا ً فإنقطع َ اللغط ُ المضخّم في سمعي وتحوّل َ الى وشوشات ٍ هامسة ، وَحده ُ أنين ٌ متراتب و متداخل مع هديل ِ حَمام ٍ بعيد كان جاثما ً فوق أطرافي الهامدة فتعالت بهدوء و ببط ء ٍ شديد من فوق ِ صدري ملامح ُ إمرأة تنسدلُ على جبينها خصلات ُ شَـعر لمّاعة و جدائل ُ صغيرة نافرة من جديلتين سائبتين تعلوهما فوطة ٌ سوداء تغطي نصف رأسها ، إقتربت تلك الملامح ُ من أساريري الجامدة ولم تبقى منها سوى عينان واسعتان شفيفتان تدورُ في مآقيهما آثار ُ دموع ٍ جافـّة من خلل ِ بياض ٍ ما إنفك ّ يتوسع ُ أمام ناظري بإطـّراد …
– تلك كانت زوجتي …!!
رفـّت ستائر ٌ بيضاء في أعماق ِ ذاكرتي ، تداخلت مع ضياء ٍ آت من مكان ٍ غير محدّد ، هَفـّت ومَاجَت في أرجاء ِالغرفة المعتمة فأيقنت ُبأن رأسي سقط َ مرّة ً أخرى بإتجاه نافذة ٍ ما … إشتد ّ الوهج ُ فوق أجفاني ، أغمضت ُ عيني التي لبثت في أديمها دوائر ُ النور والظلمة ِ تتوالد ُ من عالم ٍ مجهول ، فجثم َالانين ُ المتراتب ثانية ً فوق صدري مع نحيب ٍ متواصل هيمن َ على الغرفة فجأة ً ، فإنبثق َ من بين تلك الآصوات النادبة صوت ُ تساقط حبّات مسبحة لصق َ إذني تماما ً مع تلاوة ٍ متواترة و رتيبة من الآيات بصوت ٍ أجشّ …
– إنه صوت ُ جارنا ( السيّد ) … !!
حاولت ُ أن أتمثـّل َ عمامَته السوداء و لحيتـَه المشذّبة والمخضـّبة بالحنـّاء ِ
ولكن ستائر ُ الأصوات ُ كلها إنسدلت أمام سمعي و بدأت ُ أغيب ُ في منحدر ٍ مظلم .. !!
– مات ْ ..!؟!
– لا .. .. يَحتضر .. !!!
بصراحة ، كنت ُ في تلك الفترة بالذات أتحســسُ جسدي من الداخل
و أخمّنُ من سديم حلم عابر أو نثار ِ كابوس ٍ مخيف بأنني لازلت ُ على َقيدِ الحياة أرقد ُ وراَء َ غلالة ِ الأشياء الغارقة في روحي ، وكان الزمن يتعطّن ُ فيَّ مع إنسلال ِ رغائب ٍ مدفونة من ماض ٍ بعيد إنبرى يتنفس ُ بصعوبة بالغة مع أنفاسي الشحيحة الغارقة بدفء ٍ غريب ينزوي في أرجاء بيت ٍ عتيق يتوهج ُ فيه موقد الشتاء الحزين وأحلام ُ طفولة مركونة في زوايا الفزع و الرعب ، ولم يخطر على بالي في تلك الفترة ِ بأن للكآبة ِ لون ٌ و طعم ٌ وحتى إسم ٌ آخرلم تخلقه قواميسُ الارض أبدا ً لأنني بدأت ُ أعيش ، لا بل أسح ّ ُ، مع تلك الكآبة قطرة ً فقطرة تحت َ مسمّيات جارحة الى حدِّ النـَزف ِ ، كنت أشعر ُ بمرارة ِ إنزلاق كفـّي من أصابع الحياة وبالسقوط ِ المريع لأقبية الظلام وكنت ُ أتلمّس ُ بوضوح إفتراقي الأزلي من نزق ِ الأشياء ِ التي أحببت ُ و شهقت ُ من تلافيفها بهجة َ الزمن من أعماق ِ قلبي النابض ِ بضراوة ِ اللحظات السعيدة …
– هل أنت ميتٌ حقا ً ..!؟!
راودتني تلك الفكرة اكثر من مرة طوال مرضي الذي لا أتذكر تأريخه بالضبط ، كل ما أتذكره ُ بأنني تحولت ُ فجأة ً بدون سابق إنذار الى دوائر ألم ٍ صارخ ٍ ينهش ُ ساحة جسدي .. ألم ٌ مغلق ٌ على ذاته ِ مثل صندوق ٍ قديم محكمة ُ الاقفال ِ لا أستطيع ُ الإفلات منه ومن خيوطه العنكبوتية العتيقة و نكهة ِ ازمانه المتعفـّة التي أخرستني نهائيا ً ، لا بل فاجأتني بالشلل ِ التام في كل ِّ أطرافي التي تحوّلت الى جثـّة ٍ تخنقني نتانتـُها ، كنت ُ أستل ُّ روحي من أنقاض ِ ما تبقى من جسدي المتهالك على السرير المتأكل كلـّما تتربصني أنياب ُ الزمن ِ التي تداهم ُ تفاصيل َ وجعي بموجات ِ التعرّق ِ و الارتعاش و بـ هـ د و ء داخلي يبعثرني في غياب ٍ ممضّ أقاوم ُ إمتصاصَه لحشرجتي الأخيرة بالصُور ِ المشرقة عن غيمة ٍ مضيئة أتعلق ُ بأهدابها في يوم ٍ مؤتلق سوف ينفلق ُ حتما ً كالبذرة ِ ليتعرّى أمام الشمس فأنغرزُ مثل سكين جارحة في قلب الزمن …
ففي تلك اللحظات الضاجة ِ بالقوة و العنفوان كنـَبتةٍ تباغتـُها عاصفة ٌ من الضياء ِ ، يخيل ُ اليَّ بأنني أرى سريان َ سُمّ زعاف يسري في أحشائي ببط ء …!
فأنتفض ُ صارخا ً ….
لا أحد يسمعني ، ولا أحد يتحرك ُ قبالتي من الوجوم في ذلك السكون المعتم الهادر ، فتتساقط ُ ملامح ُ الموت مثل أنداف ِ القطن فوق صدري ..
فأسبل ُ أجفاني و أنقل ُ رأسي المتصدّع الى جهة ِ الضوء الآتي من نافذة ٍ ما …!!
———
الآن أجزم ُ بأن ولادة الاشياء لا تتمُّ أبدا ً إلا بمخاض ٍ يجرح ُ قشرة َ واقع الإنسان ، وهذا بالضبط ما حدث َ معي من خلل ِ دَمامل ٍ بدأت تتوسع ُ في داخلي كيما يجهدني البحث ُ عن علـّة ِ وجودي و إنخطافي أمام حقيقتي العارية ، فبعد عشر ة ِ أيام أو عشرة قرون ، لا فرقَ ، على إغماضتي المتكررة لجُرحي و كبريائي على المقاومة إنزويت ُ متكورا ًعلى ذاتي برهبة ٍ شلـّت قدرتي حتى على الرؤية الواضحة للأشياء وذلك حين أبصرت مثل أضغاث الاحلام بين عباءات النسوة إبنتي الصغيرة ذات الأعوام الثلاثة الغضّة قابضة ً على دميتِها المصنوعة من خرق ِ قماش ٍ ملوّن تتفرّس ُ ببراءة لإصفرار ِ وجهي و إمتقاع ِ لوني بعينيها الواسعتين و بثغرِها الدقيق المزموم وكأنها قطعة ٌ صغيرة منحوتة من المرمر ِ الناصع ، كان وجهُها مجلـّلا ً بالدهشة والانبهار لا تصدّق ُ ما يحدث ُ أمامها من رعب ٍ ما تـَوقعتـُه يوما ً في مجريات أيامها الغير الملوثة ، كان شَعرُها منفوشا ً و جسدُها النحيل يرتعش الى أخمص قدميها الصغيرتين الحافيتين و حين إلتقت عيونـُها الوجلة بعيني ّ الذابلتين سحبت أحدى النساء طرف َ عبائتها حول وجهها الأملس الصغير و دفعتها برفق خلف َ النسوة المحتشدات حولي وهي تهمس ُ لها بصوت ٍ أشبه الى فحيح ….
– إذهبي .. وإلعبي في الخارج ….!!
فغامت الغرفة ُ في سحابة ٍ داكنة و إختلط َ تفكيري بهاجس ٍ أبى مبارحتي طوال إرهاصات الغيبوبة ِ والصَحو … كنت ُ أتساءل بمواجع ٍ مثلومة … كيف يزرعُ الإنسان غرسة َ الحياة في جذور ِ أطفال ٍ يترك ُ الزمن ُ كل َّ يوم ٍ في خلايا أجسامهم بـِذارَ الفناء ..؟؟! فها أنا الآن أرقد ُ على حافة الموت مستعيدا ً في ذهني ماهية َ تلك البـِذار في دميَ الفاسد الذي تناهى الى سمعي اكثر من مرة ٍ بأنه كان تسمّما ً بالسكـّري الذي سيزحف ُ قريبا ً الى قلبي ليخنق َ نبضاتـَه الى الابد ، وعلى الرغم من هذه الصورة القاتمة لحالتي فإن في أعماقي متسع ٌ من الإضمحلال ِالتدريجي يجعلني أرى ما حولي بدون كلل مُلتهما ً بنظراتي أدقَّ تفاصيل فَنائي و بالأخص ّ في هذه اليوم الذي أتذوق ُ فيه بلهفة رائحة َ شمس ٍ دافئة تختبئ وراء َ أستار ِ نافذةٍ وهاجة لتغمر َ نصف َ جسدي المشلول إبتداء ً من قدمي و إنتهاء ً بأصابع ِ يدي المفتوحة التي لا أقدر ُ على تحريك ِ أصبع فيها …!!
تنهّدت ُ بحرقة ٍ مسموعة و رفعت بصري الى شرخ ٍ عميق فوق زاوية ِ باب الغرفة الموارب والى بقع ِ رطوبة ٍ غامقة تنحدر ُ بإتجاه الملابس المتدليّة فوق َ مشجب ٍ خشبي أبصرت ُ عليه بدلة َ عملي الملطـّخة بالدهون ، فتذكرت ُ على مراحل ٍ مضنية و عصيبة بأنني دفنت ُ في ثنايا تلك البدلة ِ آخر َ راتبي الذي طويتـُه بعناية داخل منديلي الأزرق المطرّز برسوم سعفات ِ نخل ٍ صغيرة مشغولة بالبريسم الناصع و ذلك قبل أن أسقط صريعا ً للمرض بساعات فحاولت ُ بكل ِّ جهدي إفهام زوجتي بهذا الامر لكي تقوم بمصاريف الدفن والعَزاء ِ ولكن صوتي إختنق َ في صدري ولم يصل الى حنجرتي إطلاقا ً …!!
وفجأة ً ، عم َّ العويل ُ واللـّطم أرجاء َ الغرفة فأخذت زوجتي تجر ُّ جدائلها المفتوحة بعنف وتندب ُ حظـَها العاثر بصرخات ٍ أليمة حين ولجَ جارُنا ( السيّد ) بصَخب ٍ الى الغرفة يتبعُه رجل ٌ أحدب ٌ يواري تحت إبطه ِ لفائفَ قماش أبيض و كان واضحا ً من سيمائهِ وتجاعيده الصارمة بأنه سيقوم ُ بعملية ِ غـَسلي و تكفين ِ جُثتي …!!.. ففي تلك اللحظة العصيّة على إدراكي الخامد إمتد َّ ذراع ُ طفلتي الصغيرة من خلف ِ جدار العباءات بإتجاه صدري المختلج بقوّة …
– بابا … !؟!…
فغاب َ الصَخب ُ والعويل ُ عن سَمعي بتأن ٍّ وهدوء وإشرأبت العَتمة ُ من أعماقي لتدفن آخر ومضة في داخلي ، ولكن َّ رنينا ً متواصلا ً و خافتا ً ظل َّ يطن ُّ في رأسي بألحاح …!!… لماذا لا تتركـُني هذه الأًصوات لأموت بسلام …؟؟
أفقت ُ في المساء ، وبالحلكة ِ الشديدة ، لأستنشق رائحة المسك ِ وماء الورد المخلوط برائحة ِ البخور النفـّاذة تفوح ُ من مكان ما من الغرفة ، وكانت بقـُربِ رأسي تتحرك ُ ذؤاباتُ فانوس شحيح ُ الضوء وكنت ُ أحس ُّ بآلام ِ الدقائق ِ التي تخنقني تحت أثقال ِ صخور ٍ صمّاء صلدة وبشراييني وهي تعصرُ أحشائي كلـّما تتسرّب ُ أصواتُ المسبحة ِ والتلاوة المتواترة للآيات التي يلقـّمها الصوتُ الناشز لجارِنا فوق مسامعي ، كان صوتـُه يتهدّج مع هزّات رأسه الذي يلتصق ُ في أساريره نصف ُ لحية في ضوء ِ الفانوس ، تحرك َ شبح ُ قامته القصيرة الضخمة ووقف الى جانب ِ ظلال زوجتي الباهتة ، أبقيت ُ نظري طويلا ً أنظر ُ اليهما من خلال فتحتين مزروعتين في جثتي الخرساء ُأوهِمُ فيها بصري مراوغا ً بأن طيف َ الأحدب الغائم كان متسمّرا ً ورائهما مباشرة وإن الغرفة في ذلك َ المساء الرابض ِ على السَواد خالية ٌ إلا من ظلال ِ أشباح ٍ ثلاثة تتداخلُ أطيافـُها وتتثاقل ُ في أركان ِ الغرفة لتحتل َّ زواياها بالتعاقب ، كان شبح ُ ( السيّد ) متوفـّزا ومتوترا ً يبسط ُ يدَهُ تارة و يتراجعُ عن هامة ِ زوجتي المنتصبة طورا ً، كان مضطربا ً يقبض ُ عمامتـَهُ بكلتا يديه و كأنه ينتحب ُ ، ثم يغمغم ُ بشيء غير مفهوم و يهمس ُ لزوجتي كلاما ً لم أتبيّنه ُ تماما ً في حين ظل َّ رأس ُ زوجتي يتحرك ُ يمنة ً و يسرى وكأنها تأبى او تـَنفي تهمة ً ما … !!
إشتدّ كربي الأخرس حين تذكرت ُ هذا ( السيّد ) الذي حاول َ في الماضي مرارا ً طلب َ يد زوجتي فلم يفلح والذي راودَها بالمغريات
وحتى بالطلاق من زوجته التي إمتصّ بنهم ٍ عودَها الغضّ و أغلق َ عليها تابوت َ رغباتهِ المميتة ، فها هو الآن قاب قوسين من تحقيق ِ آماله الجامحة القديمة .. سرت قشعريرة ٌ في بدني وبدأت تطحن ُ و تطيح ُ بما تبقى من إستسلامي المصيري المجهول ، كنت ُ أصرخ ُ من قعر ِ أعماقي و بصوت ٍ عال ٍ ولكن صرخـَتي الجارحة كانت تمزّق ُ جدارا َ داخلي الملتهب ، ولم تصل الى أحد …!!
وفجأة ً ، إقترب َ ( السيّد ) من زوجتي و دس َّ براحة ِ يدها رزمة ً من الأوراق …!!
– هذه مصاريف ُ الدّفن ِ والجنازة ..!!
فوقفت زوجتي مترددة ً صامتة تنظر ُ الى النقود بحيرة ٍ و تلبـُّك ، فتشظـّى صوتي من خلايا بدني لأول مرة ٍ مسموعا ً صارخا ً و جليّا ً يشق ُّ أستار َ ذلك المساء الخانق …
– لا تأخذيها …!!
بهتت زوجتي ، و رَمت رزمة َ النقود تحت قدمي ( السيّد ) و ركضت تلقي بنفسها فوق صدري و تحتضن ُ رأسي بقوّة …
– ماذا ُقلتْ ..؟؟!
– لا تأخذيها ..!!
فأومأت ُ برأسي الى بدلة ِ عملي الملطخة بالزيوت فوق المشجب ، ففهمت زوجتي ما قصدت ُ فورا ً وهرعت الى البدلة ِ تنبشُها و تفتح ُ منديلي الأزرق المطرّز برسومات السعفات الناصعة لتفرد َ نقودي المخبأة فوق أصابعها ….
وفي اليوم التالي ، فتحت ُ عيني على ضوء ٍ باهر ٍ لأسمع بجانبي كركرة َ طفلتي الصغيرة تتداخل ُ بوضوح مع هَديل ِ حَمام ٍ بعيد …
فإرتعشت عضلات ُ ثـَغري و إختلجت ْ …
كنت ُ أبتسم ُ …!!!
فاضل ناصر
كوتنبرغ – السويد
akbar.fazil@yahoo.se