مؤيد البصام: جحيم ما بعد الجحيم

من تستهويه الحرب؟ هذا هو السؤال الذي يوجهه حسين سرمك حسن في روايته ( ما بعد الجحيم (، الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب، دمشق. سوريا، في 158 صفحة من القطع المتوسط،  فيجيبه ليو تولستوي ( كان يجب أن يمضي الملايين من الرجال فاقدين التعقل مطلقين كل عاطفة انسانية، ومن الغرب الى الشرق ليقتلوا اشباههم، كما انحدرت جماهير من الرجال قبل بضعة قرون من الشرق الى الغرب ليقتلوا امثالهم هناك ) الحرب والسلام. المجلد الثالث، بينما يقول اريك ماريا ريماك ( لقد احببنا وطننا كما أحبوه، واندفعنا متقدمين الجميع بجرأة وشجاعة أثناء الهجوم )،  ولكن ما هو الهجوم ؟ ،(ان الهجوم، والهجوم المضاد، مجرد كلمات ولكن لو تدرون ماذا تعني هذه الكلمات على الجبهة واثناء القتال ؟…ان أدب الحرب كله لايمكنه تصوير مدلولها، وبشاعة هذا المدلول ) ، وقت للحرب. وقت للحب الجزء الاول ، اما سرمك ، فيضع استشهاداته  منذ البداية عنوانا وأهداء ومقتطفات ونهاية مفجعة، ازاء سؤال وجواب عسير، فهو لايجينا ضمن اختصاصه كطبيب معالج في الطب النفسي، برد علمي جاف، انما يوقفنا في الموقف ان كنا خبرنا الحرب او سمعنا وقرئنا عنها، ويسحبنا الى نقطة السرد، و يحاول عبر المتن الحكائي، يروي لنا  قصة من عشرات القصص التي سمعنا او قرأنا أو عاش بعضنا أحداثها، تزخر بها الحياة التي مرت وما زالت تمر على العراقيين، وعلى كل من عانى من ويلات الحروب والدمار والاحتلال  في بقاع الارض، الى بناء سردي، يحكي لنا عبر خطاب بصياغة جمالية ولغة سهلة وسلسة، ماذا تعني الحرب وبشاعتها،  ويسرد برؤية المحايد والموضوعي، اننا نرى ونشاهد فصل من فصول الجحيم من دون ان يفرق بين القاتل والقتيل، انه يروي دلالتها عبر الكلمات المتعثرة لبطل حكايته، عندما يستشاط العراقي غضبا فينسى دبلوماسيته ( لم يقرأ عن معركة دامت سبعة واربعين يوما بين الكلاب و سقط منها خمسون ألف كلب من الجانبين وسط الاناشيد الحماسية والهتافات الصاخبة والاوسمة والنياشين )،ص15، الرواية.
 فقد وضع الكل سواسية ضحية الحرب من دون ان ينحاز الى طرف، على الرغم من انه أهدى روايته الى( رفاق الشرف والسلاح والعقيدة اساطير كل العصور )، فهو يصور بكل واقعية من دون مبالغة، بوجدانه ولا يناقشها بعقله، تلكم الاحداث التي عاشها مع أولئك الرفاق، لم نلمح اي ميل تجاه فكرة معينة، او انحراف بالحقيقة نحو معسكر بالذات من المتقاتلين، انه يتحدث عن مجموعة من الشخصيات، مرتكزا على عائلة شامل، ليبث خطابه بما يعرفه، من دون ان يتخطى رؤياه الانسانية، شخص متنه الحكائي ثم عرضه بتفاصيله الدقيقة، ورسم شخصياته بعناية ودراية في نفسيتها وحركة حياتها وواقعها والمؤثرات الداخلية والخارجية، وكيف تتحرك قي احداث تفرضها على نفسها وتفرض عليها، من رؤية خبير مجرب،  تشده اواصر الحياة المشتركة مع الذين كتب عنهم في الصف الذي فرض أن يقاتل فيه دون أرادته، وتربطه العلاقة الانسانية مع الطرف الاخر، كونه انسانا بغض النظر في أي طرف يكون .
.
السارد والمسرود

حصر الكاتب شخصياته الرئيسية ولم يتشعب في متنه الحكائي، بالرغم من وجود ما يجعله يتوسع، الا أنه اراد حصر البؤرة، ومنحها حرية التحدث والتفكير من دون ان يفرض سلطته عليها ، وحدد من سلطة الراوي، وتركه ليوضح لا لينظر، وضع ارقام للفصول على قصرها، اذا جاز لنا التعبير باعتبارها فصول او الاكثر دقة، ممكن اعتبارها مشاهد، واضاف عناوين لثلاث مشاهد، 15 و 17 و38 ،  وهي المشاهد التي يورد فيها الكتابات القصصية لشامل وابنه احمد، ونص للراوي يضع فيه، رؤيته الفكرية التي لم يطلقها اثناء السرد، سماها ( سوريالية عراقية )، وعدد الاصوات التي تسرد عبر 41 مشهد، فالى جانب الراوي العليم، الذي اخذ 16 مشهدا، سرد لنا  شامل بطل الرواية، 14مشهدا منها، وصديقه زوجة شامل  6 مشاهد، واشترك الراوي في السرد مع شامل في المشهد السادس و العاشر ومع صديقة في المشهد 30 ، مستخدما بهذا كلا الضميرين الغائب والمتكلم .، ووضع في البداية اشارة الى ان الحكاية من الواقع، واستخدم المنهج الواقعي والرومانسي في المبنى الحكائي، على الرغم من استخدامه للاساليب الحديثة في السرد، الا أنه التزم بخطه، وبهذا فهو لم يكن بحاجة الى هذه الاشارة عن واقعية الاحداث التي اشار اليها في البداية، لان الحرب تفصح عن بشاعتها بمجرد ذكرها، ولكن ما يقوله المبدع له الاثر الفعال في التجربة الشخصية ، وهنا تتوضح القوى الكامنة في داخل النص وضمن التاويلات اللاحقة، هل كانت دراما الحدث واقعية ام تخييلية؟، ولكن الكاتب يبقي الخط على نهج كتاب القرن التاسع عشر في رواية الملاحم ، امثال بلزاك وستندال وموبسان….الخ وتجد هذه الاشارات، (ومرت أربعة أشهر وشامل يكتفي بارسال الراتب)، عبارات توحي بحيادية الراوي التي كان يستخدمها كتاب روايات القرن التاسع عشر، وهو ما يتوضح في نهاية الحكاية، هذه الدلالات الايحائية بحيادية الراوي نجدها مبثوثة عبر اسطر الرواية، وباعتقادي هذا هو السبب الذي جعله يطرح افكاره وتنظيراته، التي لم يفصح عنها اثناء الروي، بمشهد سماه فصل، ( سوريالية عراقية ) وبالرغم من كون المشهد جزء من المبنى الحكائي، الا انه جاء وكانه جزء مضاف .
.
سيرة ذاتية أم رواية حدث ؟

  اذا اعتبرنا أن الرواية سيرة لعائلة عراقية، نموذجها هذه العائلة المصغرة، فان احداثها ليس فيها تتابع سردي ولا تتساوى زمنا روائيا، أذ تنطلق بتفاوت في ترتيبها الزمني ولكنها تتوازى في نقاط ارتكازها، فان المشهد الاول هو مشهد التقديم الذي يعرض لنا به الاشكالية المركزية، أذ تبدأ الحكاية من لحظة الاحباط التي يصاب بها شامل، العسكري الذي جاء باجازة من الجبهة، في  لحظة الممارسة الجنسية مع زوجته صديقة، تذكر موت احد الجنود الذين كانوا معه في الجبهة، كاشفا عن العلاقة بين الجنس والموت، والفوضى التي تحدثها في نفسية الانسان وعلاقته بالاخر أثناء الحرب،( ليست فوضى انقاض عالم الخارج الذي قوضت اركانه القذائف ولكنها فوضى ركائز عالم الداخل التي حطمها الاحساس الوشيك بالفقد )،ص71، وهي العلاقة التي تجر ذهن المتلقي الى ان العقدة او المتن الحكائي، تروي اشكالية الحياة لانسان يعيش لحظات الموت كل ثانية في جبهة الجحيم، وهي أشكالية تخص عمق احاسيس الانسان، عندما يضع الموت أزاء الجنس عبر الاسترجاع والمقارنة، ليكشف لنا الهوة التي خلفتها الحرب في نفسية الفرد وانكساراتها، عندما يعجز عن ممارسة الجنس وهو القادم من الجبهة بلهة لتحقيق استرجاع رجولته والانتشاء، بعد المعاناة التي عاشها في الجبهة،  رجولة منكسرة من الخوف والرعب الذي يعيشه كل لحظة هناك، وحاول السارد أن يوهمنا ويجعلنا نعيش  الحكاية بأن كل الذين يرتبطون بشامل وبالذات زوجته هم العين التي ترسم الخط للهواجس والخوف من تلقي نبأ موته  الذي تجلبه الحرب في كل لحظة، ( سنوات وسنوات وانا اعتقد أن الموت يتربص بزوجي فقط  وأن على أن ادعو الله كي يحفظه ) ص129، الا ان الانعطافة الغير متوقعة تحدث، والتي تغير البعد الفكري الانساني للمبنى الحكائي، وتحيل القضية الى ما اراد الكاتب ان يقوله عبر الخطاب، ان الاقدار تفكر بغير ما نفكر نحن،( هل كان السؤال يغلفه الغموض، أنا الان أصعد في تلك الساعة الغائمة نحو الحجر الذي ربما يدحرج سنوات عمري الغضة الى عمق الوادي )،ص68، أي أن ما تخطط له وتفكر فيه، قد ياتي عكس ما يخططه القدر، وهذا ما يقدمه السرد عبر الشخصيات المرتبطة بشامل بطل القصة وعائلته المكونة من زوجته صديقة وابنه احمد وابنته سناء، وعلاقته بصديقه رؤوف الذي يشاطره متعة الغياب عن الوعي باحتساء الخمر كلما حضر في اجازة من الجبهة، ورفيق سلاحه سلام الذي يحط كمعادل موضوعي معه في القاطع ومن ثمة يتشاركان الموضع، وينتهي خبر سلام  بين الموت وبين الاسر، فالمتن الحكائي يروي لنا محنة شامل مع الحرب بين الواجب وبين العائلة والحياة، وهو ما ياخذنا اليه السرد، في توضيح الاهداء، للبناء والالتزام الاخلاقي والروحي، الذي تحدث لنا عنه ريماك في استشهادنا في المقدمة ( لقد احببنا وطننا كما احبوه ) ولكن ما لم يحسب له هو هذه الانعطافة الفيزيائية التي وضعها في فصل خاص بها، وجاءت وكانها مقطوعة عن الرواية ولكنها تمثل صلب الرواية وخطابها، بان الموت شئ آخر ليس هناك حسابات أرضية لمعرفة من اين ياتي ومن ياخذ، يتقدم نحو الزوجة بمرض السرطان وليس بموت الزوج الذي يختم القصة بنهاية قدرية لجميع الابطال من دون التي تنتظر لحظة ان يجهز عليها الموت بالمرض الذي اخذ يأكل جسدها ، سريالية كما اراد ان يقولها، لانه كان ينطلق في سرده، مجاورا الوقائع والافعال لشخوصه بالتحليل النفسي لهم، فهو يتبع في سرده خطين، سرد الوقائع وتحليل الخلجات الذاتية، التي يشترك بعض الاحيان في التعبير عنها، ( صديقة القديسة )، ص 158، وخط التحليل النفسي لردود الافعال .

              البطل ومحنة الوجود

            السؤال الذي تطرحه الرواية، هل هي رواية سيرة ذاتية روائية لشامل أو كما سبق واشرنا انها سيرة مصغرة لعائلة عراقية، عاشت احداث الحرب وانتهى مصيرها الى العدم، أم رواية تقتطع جزء من الملحمة التي خاضها الشعب العراقي، والويلات التي عاناها الفرد والمجتمع في الحرب التي عاشها، ان تعدد الرواة، عكس لنا ما اراد الكاتب ان يبرزه وهو تحليل الروح العراقية جوانيا بدقة في دخيلتها وواقعها الخارجي، فتناول السارد الشخصيات من دون مبالغات سوبرمانية، اعطاهم حجمهم الطبيعي، وعكس في سرده  ما رواه شامل او صديقة تحليلا وتفسيرا، صورة صادقة لطبيعة الانسان العراقي، وما حاق بالعائلة العراقية في تلك الفترة، ووضع بما يملك من معرفة بطبيعة الانسان العراقي كمبدع في مجال الدراسات النقدية وكطبيب معالج في بنائه السردي، فكانت صديقة مثال المرأة العراقية، مصورا ابعادها النفسية وقدراتها على التحمل والصبر والمكابرة من اجل الحفاظ على عائلتها داخليا و امام الاخرين، واخذ بشامل شريحة مهمة، شريحة المثقفين، تناوبت مع سلام الشخصية التي تمثل الطبقة البرجوازية او الارستقراطية العراقية (أذا جاز التعبير ) المنقرضة بتسلسل الاحداث التي مرت على العراق ( سلام، لماذا تكره السياسة ؟ / وعلى اي شئ أحبها ؟ على الخراب الذي نحن فيه ؟ على والدي الذي سحل في عام 1958، أم على خالي الذي اعدم في عام 1963 ، وحطم موتهما أمي . ) ص57، وضح لنا السرد طبيعة الفرد العراقي بشامل في تركيبته الاجتماعية وتاثيرات المجتمع عليه، سلوكه تصرفاته، احتدام داخله مع مؤثرات الخارج، والمدى الذي يتحمله لقمع وكبت الانفجار، وما يفعله هذا التوتر بعلاقته مع الاخر ، ومتى يحدث الانفجار في الشخصية العراقية لتخرج عن طبيعتها وتتناقض مع سلوكها العام، الذي يقف بعض الاحيان المرء عاجزا عن تفسير هذا التصرف الخارج عن اطار الشخصية العام، وهو لا يرغب بهذا التصرف ولكن لينفس عن الكبت الذي ما عاد  يحتمل، فيعطي للعقل أجازة أثناء الشرب ويفصح عما يعتمل في داخله، استطاع السارد أن يوظف قدراته المعرفية لايضاح طبيعة الفرد والعائلة العراقية سرديا من خلال النموذج المصغر لعائلة شامل، وشامل بالذات أذ قدم لنا شخص مشطور نصفين، وتعمد الكاتب ان يجعله من فئة المثقفين، والمجتمع الذي يتعامل معه مجتمع ثقافي، سينتج لنا أب وابن كتاب قصة، وحتى تتوضح صورة المعاناة، انه ليس اي شخص عادي، لاتهمه سوى القضايا الحسية في الحياة، انه الشخص الذي وجد نصفه المفقود او الضائع في وقائع الحياة اليومية في شخصية سلام، ولهذا فانه وجود سلام في تكوين بنية شخصية شامل مؤثرة، ويضغط حتى في غيابه على حياة شامل العملية والعائلية، الذي تطابق واياه وجره الى التخييل والحلم وكتابة القصة وقراءة الشعروحب الحياة وحب الاخر والتوجع مع الاخر بالامه كجزء من معاناته، وهذا النصف كان رفيق سلاحه سلام، عندما ظهر غلى مسرح الاحداث، عندها يبدأ تاثيره في احداث تحولات دراماتيكية لشخصية شامل، حتى عندما يعتقد شامل أن سلام هو الذي سقط على ارض المعركة ودفنوه، وتبدأ احتداماته النفسية، ولكن عندما تتوارد الاخبار بامكانية العثور عليه، فانه يتصالح مع ذاته ويتحرك بفعل ديناميكية الحدث  ( كنت في أمس الحاجة لصديق وفي وامين وشجاع ) ص53، سلام كان بالنسبة له اشراقة الحياة وصورة الحضارة التي يتوق لتحقيقها في بلده ومجتمعه في وجه الهمجية والبربرية التي تسود العالم، الجانب الروحي الذي يفتقده في العالم الذي يحيط به وما يرغبه ويتمناه ( سلام يحي كل فعل يقوم به جندي ويخلق له صلة انسانية، زراعة ورده، أص زهور، العناية بطائر، قراءة كتاب، سماع اغنية….الخ ويعتقد أن هذاالتصرف الذي يبدو بسيطا هو الذي يبقي آدميتنا وسط الموت والخراب )ص74، أن الكاتب كشف حقيقة الانسان العراقي في فهمه للصداقة التي تخلو من المنافع، ويتركبها الاخلاص حد التضحية، وهي مسألة نادرة الوجود في الشعوب الاخرى بينما تشكل الجزء المهم في الشخصية العراقية، ويتابع السرد ليكشف عن النصف الآخر، النصف الواقعي لشامل، البيت والزوجة والاولاد والواقع الذي يعيشه والواجب الذي فرض عليه، وعندما يفقد نصفه الذي يمنحه الجمال والحب والخيال يفقد التوازن وتختل حياته، فلم يعد هناك حلم، لايبقى سوى الخراب والدمار، فيتحرك بخلاف طبيعته،( برحيل سلام أنخلعت وصلة هائلة من أناه، أناه أعرج وكسيح، أناه مسكين مسحوق ) ص20، لقد عالج الكاتب هذه العلاقة، بمشاعره الحقيقة لمفهوم الصداقة ومن خلال القدرة التي يمتلكها كاختصاص، عرف عشرات الحالات التي واكبته في عمله، ولهذا فهو بكل دربة واتقان يلاحق الحدث، فعندما يدرك شامل اندماجه وتوحده بسلام الفكرة، يقوم بترميم واقعه من خلال التذكر و يعود له أتزانه بين الواقع والحلم (ساعيش الحياة يا سلام، ساعيشها وساصلح ما افسدته )ص129 .

                 مكان وزمان السرد

                                  تجاوزالكاتب زمان السرد ومكانه، وتلاعب بحركة السرد ليقينه من متانة الخطاب، فهو يخبرنا منذ البداية بمعظم نهايات شخوصه، من دون أن يحسب للمفاجاة او الدهشة، فهو يخبرنا منذ البداية بنهاية الابن احمد، وفي المشهد الثالث يخبرنا بموت صديقه سلام ، ولكننا نبقى مشدودين الى نهاية الحكاية بقوة السرد ووضوح الخطاب، ووضع لنا المفاجاة والدهشة في النهاية بالانعطافة الدرامية بمرض الزوجة صديقه، بالرغم من اللغة التي تتسم بالحماسة و السلاسة والبساطة لكنها مؤثرة برومانسيتها، وهنا كان سر قوة ومتانة الخطاب الذي اتبعه الكاتب، والبناء السردي الذي حاكى عقل وقلب المتلقي، وجعل من الاموات احياء ومن الاحياء اموات، او كما قال الواقع حلم والحلم واقع ، واحدث الدهشة والمفاجأة، وقد عمد الى تشويقنا، بجعل الرواية يتقاسم ادوارها السارد العليم الكلي الذي يشكل ادوات القص حسب رغبات ومزاج الكاتب، فهو المرتب للاحداث والذي يقدمها ويؤخرها ويفسر ويؤول، لكن حسين سرمك أوقف السارد عن ممارسة كل فعالياته ليشاركه في سرد الاحداث والوقائع ، ومنح شخصيتان هما شامل وصديقة زوجته متابعة السرد مع الراوي، ويحددان الكثير من الاحداث من دون الواسطة المتمثلة بالسارد العليم، ويتخذ السرد مسار تعدد الاصوات حتى في المشهد الواحد، اذ تتداخل العلاقة السردية بين السارد والشخصيتان المشاركتان، شامل وزوجته، وهذا التزاوج بين ( الرؤية مع) و (الرؤية من الخارج) الذي حددها تزفيتان تودروف في تجليات السارد في النص، باصنافها الثلاث ( الرؤية من الخلف، والرؤية مع، والرؤية من الخارج )، تعامل معها الكاتب ونجدها حاضرة في ثنايا النص، من خلال ابراز الوقائع والاحداث في حياة الشخصية الروائية الرئيسية والفرعية، وتفاعلاتها مع محيطها الخارجي، ولكن السارد وهو المهم في الجانب السردي، لايقدم معلومات اساسية عن نفسه بوصفه أحدى الشخصيات في الرواية، وهو ما يؤكد أن الكاتب أراد أن يترك شخوصه الروائية تتحدث عن نفسها بملئ ارادتها،من دون أن يفرض عليها وجوده السردي، وما كتبه في مشهد ( سوريالية عراقية ) هو جزء من تملص السارد من الاحكام، وقدم رأيه على انفراد ليتيح لشخصياته وللمتلقي الكشف من دون مؤثراته .
                                 حاول أن يقدم الزمن بتتابعه في المتن الحكائي، كما وقعت الاحداث، لكنه خالفه في المبنى الحكائي بمجموعة من الحوافز، حسب التتابع الذي يفرضه العمل، واستخدم الاستباقات والاسترجاعات الزمنية لتشويه الزمن، لان زمن الخطاب زمن خطي، في حين زمن الحكاية زمن متعدد الابعاد.
                                وفي تحديد الكاتب مصير شخصياته منذ بداية الرواية، فالمقاطع السردية التي يقوم عليها المتن الحكائي، ليس فيها تتابع حدثي، ولا تتساوق زمنا روائيا، اذ يتحكم بها وقائع متفاوتة في ترتيبها الزمني، والرواية ليس فيها قصة تروى، وقد وضحه السرد بتناوب الادوار، انما وضعنا في زمن تقابلت فيه الشخصيات تحت عباءة حدث مقلق ومدمر، فهي تتصرف على ضوء هذه العلاقات، ترتكز على حدث الحرب وما تفعله في حياة الفرد وتاثيراتها الاجتماعية، ولكنها تؤسس للحدث المركزي ( القدر ) وهو ما يعكس لنا تاثر الكاتب بروايات القرن التسع عشر القدرية ورومانسيتها الفاجعة وواقعيتها المحببة، ولكنه اغفل احدى الشخصيات المهمة في أحداث الرواية ( رؤوف )، ولم يمنحه قدرا كافيا من السرد الروائي للكشف عن علاقته القديمة بشامل، والتي هي علاقة ممتدة لاسرته التي تلجأ له وقت المحنة، وصندوق اسرار شامل والعائلة، وكذلك لم يتطرق ألا باشارة لعلاقة رؤوف بسلام، لحظة اخبار شامل رؤوف بموت سلام، هذه شخصيات لها مؤثر سردي، بخلاف علاقات شامل وسلام بزملائهم الجنود التي أختصرها ليمنح البؤرة التركيز في الاحداث، وهذا جانب مهم  لان الشخصيات مرايا عاكسة لتناقض الحياة وماساوية الحرب، على ا لرغم من كونها اسيرة قدرها.
                               في هذه الرواية التي هي الاولى في كتابات الناقد والمحلل الادبي على مناهج علم النفس حسين سرمك، يبرهن لنا عن قدرات كامنة في عالم الرواية، مبدعا كما عودنا في قراءاته النقدية، ويضع قدمه بقوة في ركب المنافسة .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *