هشام القيسي: صلاح فائق، صاعدا من مكان.. بين (أيام ومقاطعات وأحلام)

شاعر من جماعة . وهو وجماعته ظفروا في تقديم بديل متجاوز ومفتوح في استلهامه وأبعاده ، تبلور فيما بعد بنمط متحول فسح مجالا لعملية خلق جديدة . نمط  ارتد عن واقع سائد بثورة على المبنى والمعنى وسط أجواء مشحونة بانحياز إلى التقليدية ومساراتها
    من هنا فأن تبني الشاعر وجماعته (( جماعة كركوك)) لمشروع تجديدي تطبيقي غير مألوف شكل تحديا لطموحات وهواجس شعراء وكتاب الجماعة من جهة ، وإيغال بلا تردد أو توجس في الغوص بتجربة لم تكتمل هويتها ونظريتها بعد ، أو هي في البدايات على صعيد أدب كركوك / العراق من جهة أخرى . تجربة تناغمت فيها عملية هدم النمطية المألوفة ، والسعي إلى بناء مساحات حديثة بمعان متفجرة غير مقيدة .
   هذا الشاعر هو صلاح فائق  ، المولود في مدينة ضوئية جميلة ، تشابكت وتداخلت وتفاعلت فيها ثقافات وقوميات وديانات . كركوك المدينة التي شهدت ولادة صلاح فائق عام 1945 مثلما شهدت من قبل ولادة فاضل العزاوي وجليل القيسي وجان دمو ومؤيد الراوي . في هذه المدينة ابتدأ مشواره الأدبي مع اقرأنه ، ومن الطبيعي أن يكون الأقران في تباين بين التحصيل والثقافة والانفتاح وإجادة اللغات الأجنبية
بيد أن هاجس التحول والتغيير كان ديدن الجميع ، وهاجسهم المشترك .
   وبين غربة الحضور وحضور الغربة ، بين وعيها وإرهاصاتها قدم صلاح فائق نمطه لمشروعه عبر مجاميع شعرية تالية :-
1- رهائن . من منشورات اتحاد الكتاب العرب . دمشق / سوريا 1975
1- تلك البلاد . لندن 1978
3- Another Fire Befitting acity Poems by Salah Faiq
Published in 1979 by Melmoth, a group of surrealists in England
4- طريق الى البحر . عن مجلة (( النقطة )) . من منشورات المجموعة السوريالية العربية . باريس / فرنسا 1983
5-مقاطعات وأحلام . ط 1 لندن 1984
   وسبب تناولنا الشاعر بين قصيدة أيام /1974 وديوان مقاطعات وأحلام / 1984 يكمن في محاولتنا لرصد اتجاه وآلية التطور الفني في قصيدة النثر لدى الشاعر اولا ، ولكون نتاجا ته تقاربت من هذين التاريخين ثانيا ( 1975 ، 1978 ، 1979، 1983،1984 ).    فقصيدة أيام التي كتبها بداية عام 1974، في مجلة الكلمة- العدد الثالث ( أيار ) 1974 – السنة السادسة
     أما ديوان مقاطعات وأحلام / ط لندن 1984 فيتضمن خمسة قصائد هي:
1- ضرير يبحث عن هاتف . كتبت في 18- 20/9/1982 لندن . وهي مهداة الى سركون بولص .
2- مرة توقف القمر . كتبت في 1/7/1977 لندن
3- صنعاء . كتبت في 28-29/9/1983 وتتكون من عشرين مقطعا وهي مهداة إلى عبد العزيز المقالح.
4- شحاذ يكتب قصيدة . كتبت في لندن 24/10/1982
5- مقاطعات وأحلام .كتبت في لندن 1980 – 1983 وتضمنت ثمانون مقطعا و( 12 ) رسما بطريقة الكولاج قام الشاعر نفسه بعملية التشكيل . ومابين ( أيام ) و ( مقاطعات وأحلام ) ثمة ظواهر مشتركة منها أن هذه القصائد هي من النماذج التي تنحو نحو الطول النسبي رغم تعدد المقاطع . وان ثمة لغة تنساب في أديم القصائد تقترب من الاسترسال بين جزئي وكلي . وأيضا عبر منهج استدلالي ( لكولاجيات ) الشاعر يمكننا قياس معاناته وتطلعاته، همومه واهتماماته، وإسقاطات ذلك في قصائده عبر تموجات سوريالية غارقة ، حادة وصاخبة أحيانا ، وفانتازيا هادفة أحيانا أخرى .

(2)
    إن الثورة الشعرية الجديدة لجماعة كركوك ، بحساسيتها وتشابكاتها ، رسخت تجربة بشكل وحجم جديدين ، منحت الشعر في العراق وهجا تناغم وصيرورة التطور الشعري . ولهذا فأن مشروعها انطلق من مهارات واستلهامات حداثوية كانت لها زمنها وفهمها الخاص ، مثلما كانت لها خصوصيتها ومعطياتها .
   ومن هذا المنطلق ساهم صلاح فائق في تعميق دعوة كركوك التحررية ، التي اتخذت من التحولات والتشابك العصري وبياناته في السرد دلالة لها على نحو ساحر في الإيحاءات والآليات .
      إن السطر الشعري المنساب بصيغة شعر منثور، بتداعياته وتجريداته ، يجسد نزوع الشاعر ومخيلته ، ولهذا فأن المعاناة لديه هي حقيقية ، وإيحاءاتها في الإبداع والولادة لاتكون بعيدة عن القارئ . من هنا ترشحت غربته في الحضور بتموجاتها ومعاناتها ، وهي وحدها تكفي لتفجير طاقاته وتوظيفها في تشكيلات سحرية تأخذ مديات من الحدة إلى الهمس:
        (( أي فصل لم يترك شقاءه حين رحل ؟
           كنت اجعل قهقهات الضيوف ملاذي
           كنت أفر من المدن، كنت اجرح أصابعي
            هذه نزهة الأعوام الأخيرة : مخلب يطفو
ثم يختفي .
           واحد يلمس الجدران
           لا أحد يتسلق الليل
           لا أحد يفهم براءة النهار
          والمظهر الأنيق إنما هو محض جثة ))
                                       أيام / المقطع الثاني
    واستخدامه للصور، سواء كانت حية أو غير ذلك ، أو سواء أ كانت ذهنية أو وضعية تركيبية لامعقولة ، وكذلك مفرداته المستخدمة ، تشير بل وتأخذ مستويات من الواقعية :
1) (( رجل تعب من الأسفار
          انه ، الآن ، شاهد صامت لما رآه ))
  والسريالية:
2) (( عائلة مشردة تفكك الضوء الأبيض وانعكاساته على أنقاض قرى، تفكك راية منصوبة في قبو قديم . هل تتسللين هكذا أيتها العائلة المزججة،
هل تخلقين إشارة فقط ؟
– سؤال ارهب العصافير
فنهض ذلك الرجل وأمحى أشياء كثيرة، لكنه أبقى على أنقاض القرى . قال: بهذا افصل بين الزمن والوقت ….))
                                 أيام / المقطع الرابع
      وتراه أحيانا بعيدا عن الإيقاع ، قريبا من تدفقات صورية لها نمطية من التعبير ومن الحركة تقوم على أساس إثارة مخيلة القارئ:
                         (( شاعر في غرفة
                             سبات لانهائي:
                            له مذاق اللاهوت .
                            في سواحل بعيدة
                            كان يقلب قوارب ومصطلحات
                            هاهو
                            يرتدي معطفا من حرير
                            في رأسه بداية عاصفة
                            ذكرياته مغطاة بخيالات
                            خيالاته مغطاة بذكريات
                            أحيانا ينظر إلى القمر
                            يتذكر يتيما يقف أمام مخبز))
                        قصيدة ضرير يبحث عن هاتف
        في حين أن لمفرداته سحرية، وتكرارها يكسب القصيدة أحيانا جمالية وفنية :
                  (( أليس للصدفة مقاطع أخرى ؟
                      الحقيقة شقة
                       كل طائر يقتحمها في المساء
                       ليخفي صراخه …))
                                وأيضا
               (( إنها حقيقة – لاشئ يدهش
                   فلتفتح نفسك، أذن، أمام هذا البحر
                   حدق في النجوم ، مسكن الزانيات
                   وامزح بحرائق أشجارها العالية ))
                                  قصيدة مرة توقف القمر
    إن صلاحاً يعيش ضمن واقع نازف تحت مخالب القهر ، لايستنفد العذابات ، ولا يفرغ من الهموم . ولذلك نجد أن قصائده تميل الى سيول صورية تتيح لها حركة مناسبة وحرية تعبيرية دالة لاترتبط بمحدد يقيد نزعة الشاعر ، وهذه حالة تثير جدلا في مساحة التقييم عند القارئ :
            (( في لحظات كهذه
               ماذا يعني ارتياح العاشق في عزلة ؟
              في أمسية
               عائدا من غابة
               أحمل فوق ظهري حزمة حطب
              الدروب خالية إلا من مجنون يجمع قواقع
                وبراعم جفت …
              أصل مدينة
               شوارعها خالية إلا من سكارى
               قهقهات
              كلاب ضالة
               أحجار وأحرف ملقاة في أزقة
               كوارث تركها زلزال…
               هذه الرحلة
               تراقب مؤذنا يسقط من مئذنة
               يقوم
               يتسلق نخلة قريبة
               ينزل …))
                               قصيدة شحاذ يكتب قصيدة
      وما يلاحظ على العلاقات في بنية النصوص ميلها  إلى مباشرة أحيانا :
              (( حقل
                 فيه أطباء
               وفيله
              كل فيل يحمل مئات الكتب
              بعضها يحترق
              خلف الفيلة والأطباء
 عجوز تقضم تفاحة
              أمامها صدوق خشبي جميل
              يحوي رفات ابنها
                    قصيدة مقاطعات وأحلام / المقطع 1
 مثلما تميل إلى تناقضات :
             (( في كل بياض أحصنة صامته
                  تراقب مقبرة
               في كل بياض
                مجنون يركض نحو منجم
               في كل بياض
               خنزير جريح
               يطارده في التلال
               أحد الرعاة
               في كل بياض
               شاعر في غابة
              يلقي على وحوشها
               خطبة قصيدة ))
                   قصيدة مقاطعات وأحلام / المقطع 7
     والى ضربات حادة ومتفجرة أحيانا أخرى :
            (( أسيجة
               خلفها رعاة:
               مشهد طلاب
               وراء قضبان ))
                   قصيدة مقاطعات وأحلام / المقطع2.
          (( جزيرة
             تتدافع فيها الجاليات
             الجنود
             الحيوانات
             والقصائد ))
                   قصيدة مقاطعات وأحلام / المقطع52
 وفي كل هذا وذاك نجد أن موسيقاه متموجة إلى حدما تعكس نمطية مشاعره في الزمان والمكان عبر طاقة نثرية حاضنة لعناصر فنية وتخيلية وباتجاه تجسيد بنية متجددة ومتفاعلة تسجل له ولجماعته .
مختارات من قصائده
أيام
ابتعد الطائر الاخير
ابتعد العشب الذي لا يطاق
ابتعد مطر غزير
وابتدا عقاب المسافرين
ابتعدت العربات الاخيرة
اني في سنة تراقب عقلي
اني سارق الدمى
اني الذي كان يقرع
الطبل وفي القتال كنت انا الذي يوزع النبيد
اذ اكتب الان
ذلك لان الافق يمتد
اكتب لان الحقول لا تقول ما تريد
وفي كل مرة حين يعود ذلك الضجيج الغريب
ضجيج الزمن الزاحف بمعطف رخيص
حين اسمع اسئلة غير بهيجة
وحين التقي في المنعطفات
بموتى قدامى مزدانين بالنياشين
يبسمون ابتساماتهم الموروثة وقد وضعت الارصفة تحت تصرفهم
في الليل افقد قبحي واخرج من غرفة
لاالتفت للمواكب.لا اهتم بملك نائم
احتفظ بأحداقي مفتوحةواستمع‘ احيانا‘ لمن يسرد آلام الزوجة
لا يريحني الطقس ولا الحفلات

 والحضور يكون مسافةً كماالشوارع أرملاتٍ يبحثن عن اشجار الحور
انما اتمدد في حديقةٍ و أتأمل نفسي في ثلاثة مقاطع :
(1)
رجل تعبَ من الاسفار .
انهُ ‘ الآن ‘ شاهدٌ ‘ صامتٌ ‘لما  رآه .
(2)
موتى ينقبون عن الآثار ‘ مرئيون في شقةٍ مزدحمة .
اذهبُ نحوهم ‘ فأفاجأ بعازف كمان .
(3)
عائلة مشردة ٌ تفكك الضوءَ الابيض وانعكاساته على انقاض ِ قرى .
تفكك راية ً منصوبة ً في قبو ٍ قديم .
هل تتسلين هكذا ايتها العائلة المزججة ‘ هل تخلفين اشارة فقط ؟
– سؤال أرهب العصافير .
فنهض ذلك الرجلُ وأمحى اشياء كثيرة ‘ لكنهُ أبقى على انقاض القرى .
قالُ : بهذا افضلُ بين الزمن ِ والوقت ‘ بهذا أجربُ الاكتفاء ببر كان.
وحلمَ لو يستطيعُ ‘ فوق ذلك َ ‘ إضافة (احلام الشتاء) لتشايكوفسكي ‘
بحيثُ تخرج منها الارواحُ وهي تطير.
ثم سمعَ صراخ الولادة ‘ فجلسٌ وقامَ و ركض يبحث ممن وطأ القرن
أقسم ُ نفسي على الاشجار مثل رجل ٍ مشبوه
ولا يبقى لي سوى آخرالحوانيت
لايبقى غير زهو السجون ِ بأملاكها
لايبقى إلا ماض ٍ مَرصدٌ كجريمة .
” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ”
أي فصل ٍ لم يترك شقاءهُ حين ً رحل ْ ؟
كنت ُ أجعلُ قهقهات الضيوف ملاذي
كنت أفرُ من المدن ِ ‘ كنتُ أجرحُ أصابعي .
هذه نزهة الاعوام الاخيرة : مخلبٌ يطفو ثم يختفي .
ولا أحد يلمسُ الجدران
لا أحد يتسلقٌ الليل
لا أحدَ يفهم براءة َ النهار .
والمظهر الانيق انما هو محض ُ جثة .
” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ”
بعد هذا ‘ هل انسل الى احلامي
هل اصيرُ الصوت المهذب َ هل اقول لا شراشفَ لا أفواه ؟
أوشكت ان الاثمَ
أوشكَ انتباهي ان يصير َ ثكنات ٍ ومتسابقين :
يهبُ الهواء و يرجعُ وصوتُ المرآةِ في المباني
يهبُ الهواء ويرجعُ وصوتُ المرآة ِ في الجسور
يهبُ الهواء ويرجعُ وموعدُ الموت ِ في المساء
و رآى منظر طفل ٍ في الفضاء ‘ ورآى انعكاسه ٌ فوق مياه ٍ قريبة .
سمعهما يرفضان ِ المجيءَ ‘ التطابق ٌ لأن الكلام لأن المسدس …
” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ”
تلك تفضيلاتٌ ضرورية ٌ لأبرر إفتتاحيتي ‘
لأفتتح عهداً لهواة الطوابع ‘
لأجد نفسي مأهولة َ بأستعراض ٍ عسكري
لأرقص َ لأشربٌ الخمر َ الرخيص
ثم لأخرج َ وأرى كم من اعمدة الرخام سقطت تكسرت تفتتت اثناء القصف .
انما ‘ هنا ‘ على الامواج ان ترتفع
هنا ‘ علينا الاقتناع بأن سطوحَ المباني هي لأعتقال العذارى
هنا ‘ علينا ان نرى .
” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ”
أكثرُ ما أخافهُ هو الأمل .
اكثرُ ما أخافهُ هو ‘ أن إشوه طيرانًًً الغراب بمعزوفة ٍ موسيقية .
لذا ‘ سأتابع ُ اصطفاف المنازل ٍ فقط
سأجعل الخادمة َ تضحك أمامً حيرة عصفور ٍ عجوز
سأسقط دعواتي وبطاقاتي في عمق الاشباع .
غير اني ‘ بين حين ٍ وحين ‘ سأفرح ُ بثرواتي الباقية : جداول ُ تصرخ ‘
سفوحٌ تسير ‘لا آفاق بل أسرى و ذكريات و تهماسَ أشجار
يصيرُ ريحاً خفيفة تتحركُ على ورقة .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| طلال حسن : رواية للفتيان – خزامى الصحراء

إشارة: بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال …

هشام القيسي: أكثر من نهر (6) محطات تشهد الآن

ينفتح له ، وما يزال يرفرف في أفيائه مرة وفي حريق انتظاره مرة أخرى ومنذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *