مرت قبل ايام الذكرى الثالثة لرحيل الفنان الكبير مكي البدري الذي عرفه الجمهور العراقي ممثلا بارعا ومبدعا في ادواره المسرحية والتلفزيونية والسينمائية مثلما عرفه زملاؤه واصدقاؤه فنانا ملتزما ويتمتع بخلق رفيع وطيبة وهدوء كسب خلال عمله ود كل من عمل معهم من مخرجين وفنيين وممثلين ، ووعرف الراحل بهدوئه حتى انك لم تسمع له صوتا عندما كان يحضر الى المسرح او التلفزيون وكان يعشق الهدوء والخلوة حتى ان البعض من اصدقائه اطلق عليه بالمهموم والمنطوي على النفس بالرغم من انه كان يتمتع بروح مرحة من خلال احاديثه وقفشاته التي كان مشهوراً بها بين الفنانين
ولد الفنان المؤسس مكي كميت البدري في مدينة العمارة 1925 ، ينتمي الى عائلة اشتهر رجالاتها كونهم علماء دين ، وكان اخرهم والده الشيخ (كميت) الذي ذاعت شهرته بين الناس لتقواه وورعه ونزاهته. اضطر الفنان الراحل مكي البدري الذي توفي قبل ثلاثة اعوام في مدينة يوتبري السويدية التي يعيش فيها ، انهى الراحل دراسته الثانوية الى العمل معلماً عام 1974 . لعدم استطاعته السفر الى بغداد والحصول على شهادة الجنسية العراقية بسبب فقر حاله، ثم عين معلما على الملاك الدائم ، بعد دورة تربوية قصيرة ونقل الى قضاء (جصان) ثم (بدرة) من اعمال الكوت ، بعدها نقل الى بغداد في سلك التعليم.
قرى الكوت
عن مسيرته الفنية تحدث الفنان مكي البدري: بدأت رحلتي الفنية منذ الخمسينيات بقرية (جصان) احدى قرى مدينة الكوت ، قدمت هناك عملين مسرحيين هما مسرحية (عودة المهذب) تأليف شهاب القصب ، وفصل من مسرحية (قيس وليلى) للشاعر احمد شوقي عرضناهما في مقهى واستخدمنا رحلات الصفوف لمدرسة ابتدائية لعمل مصاطب للجمهور وخشبة للتمثيل ، وتم رصد ريع العملين لكسوة طلبة المدارس الفقراء ثم قدمنا مسرحية ( في سبيل التاج ) تأليف مصطفى لطفي المنفلوطي بمنطقة (بدرة ) داخل مدرسة مهجورة، رسمنا المناظر على الحائط وقدمنا الريع للطلاب إيضا. بعد ذلك قدمنا مسرحية (البخيل) للكاتب الفرنسي موليير إخرجها رشيد قسام، تلك الاعمال كانت قبل ستينيات القرن المنصرم ، بعد التحقت بمعهد الفنون الجميلة، فرع التمثيل ، وانتميت الى النشاط المدرسي فيه ، شاركت بالتمثيل بمسرحية (الجوكر) التي اخرجها الاستاذ جاسم العبودي) وهو طالب في المعهد انتمى الى تجمع نجوم المسرح عام 1958 ، التي يرأسها الفنان ابراهيم الخطيب ، وهذا التجمع يضم اضافة الى مكي البدري كل من :طه سالم ، منذر حلمي ، خليل شوقي ، وداد سالم ، محسن العزاوي ، قاسم محمد ، سعدون العبيدي وبعد قيام ثورة 14 ثموز عام 1958 اجيز التجمع باسم فرقة الشعلة للتمثيل وبقي فيها مع نفس كادر التجمع السابق . انتمى الفنان مكي البدري بعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة في العام الدراسي 1960 _1961 ، الى فرقة المسرح الفني الحديث عام 1966 التي أسسها الفنانين ابراهيم جلال، سامي تيلا ، وخليل شوقي بتاريخ 13 حزيران عام 1966 ، وساهم في التمثيل بمسرحية (مسرحية في القصر ) تأليف فيرنك مولنز ، واخرجها محسن السعدون ، وقدمت على المسرح القومي في بغداد ,من ممثلي المسرحية ، فاروق فياض ، وداد سالم ,منذر حلمي كريم عواد ، وعلي فوزي ، وللفرقة ذاتها مثل البدري في مسرحية (فواينس) التي كتبها طه سالم واخرجها ابراهيم جلال وقد مت على المسرح القومي في كرادة مريم واعيد تقديمها في الكويت . في فرقة اتحاد الفنانين التي تأسست في 6 آب 1967 وكانت للفنان مكي البدري جولات ..غير انه لم يمثل في المسرحيات الكثيرة التي انتخبتها الفرقة ، دون ان نعرف سبب ذلك هل يعود الى رغبته الذاتية ام الى قرار الفرقة وهو الذي لا اتوقعه ابداً لأن مكي البدري فنان كبير و موهوب ومشاركته في اي عمل مسرحي يضيف عليه الكثير من الابداع والتقدم والنجاح . وساهم الفنان الرائد مكي البدري مع العديد من الفنانين منهم جعفر علي ، ونور الدين فارس وقاسم حول ونجيب عربو وغيرهم في تأسيس فرقة مسرح اليوم عام 1969 وشارك معها في اعمالها المسرحية والتلفزيونية ، كما انه غذى الفرقة بآرائه وتوجيهاته التي كان الجميع يحترمها ويآخدها مأخد الجد ، لانها آراء وتوجيهات صائبة جاءت نتيجة تراكم العمل الفني والعمل مع عدد من الفنانين المتنورين والمثقفين ، هذه الآراء الأخد بها يؤدي الى تقدم الفرقة وتألقها. امتاز الفنان مكي البدري بإمكانيته العزف على العود بشكل جيد ، كما انه يمارس الرسم برسمه لعدد من الوحات التي ابهرت العديد من الفنانين التشكيليين كما يمتاز فناننا ايضا بأتقانه لبعض الصناعات اليدوية ، كصنع المطرزات ، والخرازة ، واعمال الخوص ويعد مكي البدري من افضل صناع علب الهدايا في العراق ، فضلا عن الديكور في محلات الصياغة خصوصاٌ .
دور الحارس
كان للفنان الرائد مكي البدري نصيب جيد في السينما العراقية حيث انه مثل دور الحارس في فيلم الحارس الذي كتب قصته قاسم حول وأخرجه خليل شوقي عام 1967 ومثل فيه قاسم حول وزينب وعلي فوزي وكريم عواد ، وحصل على جإزة مهرجان قرطاج في تونس عن دوره ، وجإزة تكريمية في بغداد، ومثل ايضا الدور الرئيسي في فيلم بيوت من ذلك الزقاق الذي اخرجه قاسم حول ومثل فيه ايضا علي فوزي وسعدية الزيدي وآخرون ، انتج عام 1977 ، ومثل في فيلم القادسية للمخرج المصري صلاح ابو سيف عام 1981 ومثله : شذى سالم وعزت العلايلي وسعاد حسني وغيرهم وفي عام 1985 مثل دوراٌ مهما في فيلم (العاشق) من اخراج فنري فزي بمشاركة الفنان جواد الشكرجي ، ومثل في فيلم (عريس ولكن) عام 1990 ,وفي التلفزيون مثل في العديد من السهرات التلفزيونية والمسلسلات منها مسلسل الحارس الذي اخرج الحلقات الخمسة الاولى عبد الهادي مبارك والخمسة الاخرى المخرج المصري ابراهيم الصحن ، كما مثل في مسلسل حكايات من الزمن الصعب ومسلسل ليالي الشتاء المرمع بهجت الجبوري وفاطمة الربيعي وبدعوة من فرقة المسرح الوطني التي تأسست في السبعينيات من القرن الماضي شارك الفنان مكي البدري للعب دور يتناسب مع قدراته الفنية.وطاقاته التمثيلة في مسرحية بطاقة الدخول الى خيمة من تأليف عبد الامير معلة واخراج بدري حسون فريد ، كان البدري ممثلاٌ مميزاُ في هذه المسرحية نال اعجاب المشاهدين والنقاد معاٌ ، ومع (فرقة مسرح الجماهير) جاءته فرصة جديدة للتمثيل في مسرحية الصرخة من تأليف الدكتور ابراهيم البصري وإخراج عبد القادر الدليمي وقدمت عام 1981 على مسرح بغداد ، ومثل ايضا في مسرحية تاجر البندقية لشكسبير واخرجها سامي عبدالحميد لحساب قسم المسرح في مصلحة السينما والمسرح وقدمت على المسرح القومي عام 1965.
كبار السن
من مذكرات الجزء الثاني من كتاب المسرح في العراق مؤسسون ورموز ، كتب عنه لقد كان الراحل يشكو انه لم يستلم آي دور في المسرح او التلفزيون او السينما منذ اكثر من 14 سنة ، ويعتب على الكثيرين من الذين بيدهم الحل او بعضه ..ثم يقول اليس في المسرح والتلفزيون توجد شخصيات كبار السن .. فلماذا أبعد اذن ..؟ ، وكان يقول ايضا انا لازلت قادرا على العطاء الفني .. عطاء ابداعيا .. ليجربو معي ، واذا لم يعجبهم ادائي لديهم الحق في اخراجي من العمل. اما أن يهملوني كل هذه السنين دون ان يلتفتوا الى عائلتي كيف تعيش وراتبي التقاعدي لا يكفي المعيشة والدواء نصف شهر .قاسم حول الفنان المعروف وصديق مكي البدري القديم كتب يقول (عرفته في معهد الفنون الجميلة بداية الستينيات ، اشترى ارضا ليبني عليها دارا، رسم بنفسه مخطط الدار ، وباشر بشراء مواد البناء ، وكلف البنائين لبنائه، وعندما اتم افتتحناها عائلته وأنا ، زرع فيها نخلتين، اصريت ان يمثل دور الحارس في الفيلم الذي كتبت قصته وساهمت في انتاجه كما أنني اعطيته الدور الرئيس في فيلمي الروائي الاول الذي اخرجته (بيوت في ذلك الزقاق) لانه يستحق هذا الدور ، فهو فنان موهوب ، ممثل من طراز خاص ، تلقائي الأداء ، وحنون في العلاقة ، لكن تعب الايام والسنين انعكس عليه وكنت أراه عصبيا وعاتباً في مقابلاته يعتب على المخرجين لأنهم لا يعطوه الفرصة التي يستحق . الوضع صعب يا مكي ، والحالة توحي بالاكتئاب، فعندما يقع الوطن مرة تحت وطأة الدكتاتور ، وثانية تحت وطأة الاحتلال ، ويجبر المبدع على ترك وطنه تقل فرص العطاء وفرص العمل ، والساسة يشعرون بأن الوطن صار مصرفاً مفتوح الخزائن والابواب ويبقى الفنان يرى البلاد عرضة للنهب والاغتصاب وهو غير قادر ان يقول كلمة في ما يجري امام عينيه ، عندها تصعب المعاناة وبشكل مضاعف ) وأخيراً كتب صباح الصائغ (لقد وصل الفنان الكبير مكي البدري وعائلته الى السويد واستقر فيها ,متمنين لهم طيب الاقامة والعيش الرغيد والسعادة الدائمة) وفي مدينة يوتبري السويدية التي يعيش فيها مكي وعائلته، التقيت به هناك ، حين قدمت محاضرتي عن المسرح بدعوة من (البيت الثقافي العراقي) في يوتبري في 7 ايلول 2013 حضنته وبكينا سوية . بكينا على حالنا وعلى غربتنا .. نحن ابناء العراق الغيارى على بلدنا ، والمضحون من اجله قدمت له كتابي الاول عن تاريخ المسرح العراقي هدية لفنان عراقي كبير اكن له كل الحب والاحترام والتقدير . هذا هو مصير المبدعين في العراق للأسف الشديد ، الجوع في العراق الذي يطفو على بحر من الذهب الاسود، والتهميش في العمل الفني ، والحرمان من العطاء والابداع . لقد اعطى مكي البدري الكثير لوطنه ولفنه ، وكان المفروض ان يكون معززاً مكرماً في بلده في شيخوخته ، لا ان يحتضن من دولة لا تجمعه بها آي جامع .. غير جامع الانسانية فقط ، شيء مؤسف ومؤلم في آن والاكثر ألماً وفاة الفنان الكبير مكي البدري في مدينة يوتبري السويدية التي يعيش فيها .. ودفن في مقبرة بعيدة عن وطنه واصدقائه ورفاق العمر ، وعن مسرحه الذي اعطاه كل عمره الخلود لأبي انور .. مكي البدري الذي توفي ليلة السابع على الثامن من ايار 2014 .. وداعاً.
*عن صحيفة الزمان