في البد ننوه الى ان الضباب ماء وهو والماء بلا لون كونه مادة الحياة وتغيّر الحالات , لذا سيكون العنوان (ضباب ليس أبيض) مظلةً لانزياحٍ يخص جميع مشاهد الكتابة الشعرية للشاعرة غرام الربيعي في مطولتها الشعرية هذه . ثمة جملة من المؤهلات لشعرية (ضباب ليس أبيض) , منها ما يخص جوهر اللغة كأدوات لعب متعدد الأغرض . ومنها ما يُرَتِّب ماهيّات الدلالة , وثالثة تأخذ بحرية القول لتكون ” الشعرية ” بجمالية مطلقة بين حدي التنظيم والفطرية. ثمة ملاحظة بدئية أُخرى هي أن الضباب الذي ليس بأبيض لم تتكلف الشاعرة بوضعه لفظاُ , إنما جعلته تعويضاً قيمياً لمأثورات جزئية مائية هي الغيم .
أولاً : بعض من أزاهير القراءة الشاعرة (هنا) هي من أكثر الشاعرات تولهاً بالوطن وعلى هذا المنوال وضعتْ للمواطن (القارئ) حيزاً حقيقياً للمشركة في إنتاج المطوّلة الشعرية في (ضباب ليس أبيض) . تسويغ ذلك يكمن في الآتي : 1 ـ وضعتْ له فراغات بيانية هو من سيملأها وهي ترضى بما سيملأ من كلمات ومعاني. مثلما سأقوم به لملء الفراغات في النص الآتي : الى : : : ….. والتأريخ غرام الى : الوطن الى : اولادي الى : الوالدين الى : الحقيقة والتأريخ غرام ( ) 2 ـ عدّته الزهرة التي تتناسل بجمالها كلما تكرر وجودها . مثال ذلك ما يمكن تقدير البداية له بكلمة (نحن) ثم النص الآتي : [ (نحن) أغنيةٌ .. كثّةٌ … قصصُ حربٍ بنصفِ وجهٍ وزهرةُ نسلٍ أنجبتنا … يكسوها الآجر ـ ضباب ليس أبيض , ص13] 3 ـ خاطبت ذوقه بلغة أنيقة خالية تماماً من كل ما يخدش حياءه أو يستفز خلقه . تؤشره صراحة في : [ نجيدُ عزفَ الأحزانِ بكلِ أناقةٍ بهدوءٍ صارخٍ نشتمُ رؤوساً خاويةً ـ ضباب ليس أبيض , ص137] 4 ـ أوجدتْ فخاخاً عدة ليجرّب عندها ذكاءه , حتى أنها أوزعت ببعض ما يجعله يتماحك معها معارضاً أو مؤيداً لما تبث إليه , مثلما توجهه لقارئها في النص الآتي : [ لا توقدْ أسئلتكَ على مدخنةِ الأغبياءِ لتحصل على إجابة بلون الفحمِ ـ ضباب ليس أبيض , ص71] 5 ـ نوّعت الشاعرة فنون اشتغالها لتضعَ الذائقةَ القرائيةَ بمواجهةٍ مباشرةٍ مع مؤهلاته الثقافية في الشعر والسرد والمسرح . في الشعر , المطولة كلها تصلح لشعرية وشاعرية الشعر , أما في السرد فنورد الآتي : [ ولدنا من حبٍّ يومَ التقى آدمَ بأُمي ليلةَ إكتملَ العمرُ كنتُ خمركَ المدللَ أيقظتنا الحربُ فصرنا رماداً من عشقٍ ـ ضباب ليس ابيض , ص 78 , ص79] . والمسرح يتمثل في الحركة المشهدية الآتية الخاصة بإيماءات الميلودراما : [ أيقظَ ذاكرتي نشيدُ الدلّلول بحثنا عن أُم لم تُكْمِل عبورً الجسرِ لأنها على موعدٍ مع الماءِ عندَ توقيتِ الخيانةِ على الجسرِ المتآكلةِ حروفه عبرتْ كلماتي … .. يومَ تمرغتْ سبابتي بالندم ـ ضباب ابيض , ص 11 , ص12]
ثانياً : في تلقائية الجمال الشعري لأجل أن يصير الفعل القرائي بعيداً عن أية وصاية يستلزم ذلك أن تكون الكتابة الشعرية متواصلة ومتصلة بطرفي التعبير(اللغة المضمرة الدلالة , واللغة المباشرة) فلابد من أن تتصف العبارة بنوعين من ضوابط الاستثمار هما التنظيم المنضبط , والتلقائية شبه الفطرية. ونرى ذلك مستوفياً شروطة عبر التسويغات الإعتبارية الثلاثة الآتية : أ ـ السلامة النحوية والتحريك الدقيق على مستوى الكلمة والجملة [ الدخانُ .. يملأُ الوصفَ والأسئلةُ تتأوّهُ إصراراً مصابةً باللا أجوبةِ … أجنحةٌ حلمٍ بعفويةِ الماءِ عبارةٌ صادقةٌ في أسطورةٍ كاذبةٍ ـ ضباب ليس أبيض , ص94 , ص95 ] ب ـ الضبط الدلالي يتضمن السيطرة على محددات المعنى على وفق فكرة مقصودة بذاتها , حتى وأن كانت شيفرة ما . لتوضيح ذلك نورد المقطع الآتي : [ في سنينٍ مثقوبةٍ … لا يأبهونَ بفراشاتي العطشى وقلمي الممتصُّ ذائقةَ الانتظارِ يؤرِّخُ حفنةَ أسئلةٍ موهومةٍ في مواسمَ تطاردُ قميصي قميصي الذي .. (قُدَّ من دُبرٍ) ـ ضباب ليس أبيض , ص46] فالدلالة العامة للمقطع تسير باتجاه تأكيد عقدة الاضطهاد الاجتماعي للأنثى . والمقطع مع جميع الاحالات الدلالية لا يخرج عن دلالته الأساسية هذه على الرغم مما فيه من مناورات اسلوبية وقولية على مستوى دلالة المفردة والجملة , إذ أن تلف السنين وعطش الفراشات وقلم الانتظار ومطاردات القميص والتبرؤ من الفساد , وعلى الرغم من دلالات التهجيس الجنسي , فكلها تنويعات للفعل الاجتماعي الذي يغبن شرف وجدية المرأة المثقفة التي تريد التعبير عن أنوثتها بمثل ما تمليها عليها إرادتها . ج ـ الحرية شبه الفطرية وفيها تكون الكلمات في خدمة الجملة ذات الإيحاء البيئي العفوي المنساب (كصوغ جملي) بفطرية قدرية .. قد لا تحتاج الى التأويل على ما فيها من جمال مطلق .. لندقق في الآتي لعله يوظب القصد للقصد المفترض : [ كان الحلمُ .. على مقاسِ وطنٍ في ذاكرةِ الماءِ والنخيلِ حُزَّ من قفاه على مقربةٍ من حروفٍ ثلاثةٍ والذكرى مقاماتُ تهجّي تفضُ بكارةَ الوطنِ لينزفَ موتى .. موتى .. خافتين ـ ضباب ليس أبيض , ص29] يتضح المؤدى الدلالي من ظاهر القول وباطنه معتمداً على تأريخية وحميمية الوطن , من ثم حرية الصوغ الوجداني المنساب قولاً ودلالةً ,بتلقائية لها جمالها المتحرر من متصفات الشروط البلاغية على ما يتحقق منها بشكل عفوي.
ثالثاً : ضرورات ثيم من ضرورات أي عمل أن تكون ثيمته وقيمته مستلّة من حاجة حقيقية للإبداع والإسهام برقي التحضر الذوقي . بمثل هذا المنطق يمكن جس بعضٍ من الثيم الضروية التي تمتثل لقيم سامية تخص موجهات الشاعرة الثقافية المنتمية لقضيتي الفن والحياة , منها / أ ـ ثيمة الماء تؤكدها عشرات المقاطع في المطولة الشعرية , لنورد لها مثالاً : [ عددُ نبضات العطش النهر يتنهد بالصلوات يضل المصبات يشتري ماءً مستورداً ليبلِ شفاهَهُ كي لا تموتَ قصصَ العاشقين .. ظمآنةً ـ ضباب ليس أبيض , ص68] ب ـ ثيمة الحب الحب لا يأخذ القيمة الفردية إنما القيمة الثقافية المتعلقة بموضوعتي الوطن وكرامة الفرد , لننظر بما يناسب ذلك / ـ في حب الوطن يمكن النظر في : [ على جسدِ الاصغاءِ قطعتُ حبلهُ السري واختزلتُ البكاءَ لألفِ عامٍ ـ ضباب ليس ابيض , ص61 ] ـ وفي تسامي كرامة الفرد يمكن النظر في : [ مثلَ نقطةِ بدءٍ على الارضِ ستنتهي إليَّ أمهلكَ عمراً وأُقسم بالتفاحِ ياااا كم أُحبُّكَ .. ستنتهي إليَّ ـ ضباب ليس ابيض , ص62 ]
ج ـ ثيمة غيوم الاتساع كأن للغيم سعة أو ضيق كالأماني وتراجيديا في الفضاء الذي تصوره الشاعرة مثل رغبات اشتهاء في : [ ليسَ في الغيومِ متسعُ لتمطرَ أماني تستنشقُ الفراغَ وجهكَ باردٌ ما دمتَ تقرأ المسلات على جسرِ الذنوبِ … معاطفُ ترتعشُ .. برداً والخرابات مازالت شحّةَ وعودٍ ـ ضباب ليس ابيض , ص93] د ـ ثيمة الليل الشاعرة تربط هذه الثيمة بليل القطط وما يثير هذا التوصيف من إيماءات تثير جدلاً , ولغطاً أحياناً , لنوفي الفهم هذا عبرتلك الايماءات في : [ القططُ وحدها تعرفُ معنى الليل ـ ضباب ليس ابيض , ص115] هـ ـ ثيمة الحزن بمقابل الارادة : كأنهما قيمتان متخالفتان لكن الشاعرة تجيد الدمج بينهما للنظر ونتأكد : [نشتري النخيلَ كي تستظلَ بها حسراتُنا ـ ضباب ليس ابيض , ص136]
رابعاً : شعرية اللعب على الجمل نرى هذا الاشتغال من أبرع تقيات جمال جوهر الكتابة , فهو متنوع ويشكل تسطيراً شكلياً يقترب من تقنيات الرسوم على الأختام والرقم الطينية .. لقد رصدتُ تسعة من هذه الرُقُم ( ). 1 ـ اللعب على تقطيع الكلمة الواحدة : عنده تكون حروف الكلمة الواحدة متفرقة لتصير بديلاً عن الدلالة : [ ما الضيرُ لوكُنّا بلا وطن الضيرُ أنتَ بلا .. نا ـ ضباب ليس أبيض , ص15] 2 ـ اللعب على جمع الأحرف مثلما في : [ أجمعُ واواً وطاءً ونوناً بين أشلاءِ خيبتي ـ ضباب ليس أبيض , ص21] 3 ـ اللعب بنقاط الفراغ : اذ تكون النقاط تشكيلاً يوحي بالفراغ قيمةً ومجالاً كتابياً , لنتفهم الآتي كونه مثالاً : [ أعودُ بأكياسٍ من الدهشةِ والذهولِ والـ …… : : . ثمةَ أسطر تنتظر ـ ضباب ليس أبيض , ص23] 4 ـ اللعب الدلالي : يحتم هذا قطع بعض الحروف لتهويم الدلالة مثلما هو كائن في : [ فلا .. يكتملُ الحلـــ ….. م غرقتْ الميمُ وظلَ الحلُ تائهاً ـ ضباب ليس أبيض , ص29] 5 ـ اللعب بفراغات النداء : تنادي : : بلا جدوى على شفاهِ الشوارعِ الباردةِ ـ ضباب ليس أبيض , ص30] 6 ـ اللعب بتمييع الرؤية : إذ أجده استثنائياً من بين جميع ما قرأته من شعر الشاعرة , فهي تستثمر الكتابة لتضييع الرؤية بتوزيعها بين فراغ السطر . لعل الآتي لا يحتاج شرحا : [ ولدتني أُمي تاءً طال انتظارها ……………….. ـ ضباب ليس أبيض , ص60] 7 ـ اللعب بالصوت الحرفي : سنجد مثالاً مناسباً له في : [ أما هنا ا ا ا ا كَ … تصلُ الى مساماتِ مَن لا سقفَ لهم ـ ضباب ليس أبيض , ص88] 8 ـ اللعب الإيقاعي : وفيه يكون اللفظ أو الكلمة أو الجملة أحياناً لها تنغيم فكري وموسيقي مثلما في المشد التكراري للموقعات الكلميّة في النص الساخر الآتي : [عمرُكَ مهدورٌ دونَ .. توقيت دونَ .. هدنة دونَ .. لماذا دونَ .. قبلُ دونَ .. بَعْدُ دونَ .. أينَ حينَ تجفّ الدمعةُ عليكَ يكون القضاءُ قد أبطلَ القضيةَ لانتهاءِ مدةِ المصداقيةِ . ـ ضباب ليس أبيض , ص 109] ويتضح كذلك في الايقاع الجملي , لنر ذلك في : من تراتيل أُمي من أوزار الطوفان من أطراف مَنْ لم يبلغ العاشرة بعد من كلِ الظلالِ الحائرةِ صارَ للشارعِ أثرٌ صارَ للشارعِ أثرٌ ـ ضباب ليس أبيض , ص125] 9 ـ اللعب بتقنيات الشعر : اذ تكون آليات اللغة الشعرية هي المؤدي للدلالة المقصودة : [ في زمنٍ بنسخةٍ غيرِ أصليةِ على كتفِ قصيدةٍ منحلةِ الابياتِ يتسلقُ الاقزامُ … جمعُ مذكرٍ غيرُ سالمٍ وآخر فقد الأُنوثةَ يتناسلون في جسدِ الشعرِ ـ ضباب ليس ابيض , ص149]
خامسا : تفاصيل الأشياء المستحيلة لصغائر الأفعال والضمائر الفاعلة لغوياً علائق لها تفاصيلها وجدواها , تبرر الاستثمارات ذات القدرة الايحائية في البوح الذاتي المخفي والمعلن , كأنها معوضات تجسيدية . سأحاول التدرج في توضيح ذلك من الجانب شبه التجسيدي كونه هو الجانب الأكثر إثارة للبهجة سواء بالفرح أو الألم , أو عَبْرَ الحكمة المضللة! أ ـ بذخ الأشياء الهوامش هي الأشياء الشعرية الشعورية ذات القِوام الذي لا يمسك .. لا شكل لها قابل للجس أو اللمس أو التجسيد المباشر, وفي ذات الوقت هي أشياء شبه مهملة , لم تأخذ حيزاً من اهتمام الآخرين , سوى الشاعرة من تهتم بها وتضعها دنو ضوع الفعل الأنثوي . الاشياء الشعورية الباذخة البهاء , المبهجة المحيرة المبكية , تلك هي الاشياء الهوامش في صوغها الشعري . لننظر فيها , منها إليها عَبْرَ المقطع الآتي : [ يا مأوى طفولتي رغبتي نزقي مراراتي وما أجملها من فمكِ يا حلوتي يا سر ذهابي وعودتي هي أنا , زهو الممالك هو أنتَ , ذاك الذي أعشقه أدمنه صحوة النار , هذا النشيد ] ( ) قد لا يصدق أحدنا أن تصاغ قصيدة بأضلاع جملٍ حافلةٍ بكل ما هو مهمل وغائب عن التسجيل كـ (مأوى الطفولة, الرغبة , النزق , المرارة , لفظة عادية من فم امرأة , الذهاب والعودة , الزهو , الادمان , الصحو , النشيد) .إنها كلمات شائعة لا قوام لها يماسكها ببعضها , وليس فيها ترنيم لفعل عاطفي , مبهمة , غارقة في اللامعنى ـ بتصور غير الشعراء ـ , بل لعلها لا تصنيف مادي لها . لكنها هنا أخذت مهام فعل التحفيز على كل قيم الخير وجلال النفس البشرية , فليس هناك من مهمة بشرية دون جدوى , إذ أن لكل مفردة منها موازٍ رديف يخص دلالاتها الـتأويلية : ـ الطفولة / بموازاة / السعادة والفطرية والبراءة . ـ الرغبة / بموازاة / الحاجة والفعل . ـ النزق / بموازاة / المخالفة والتوق الى الحرية . ـ المرارة / بموازاة / الخيبات والنهوض . ـ قاموس ألفاظ المرأة / بموازاة / جلال الأنوثة وجمال الشفاه والصوت . ـ الذهاب والعودة / بموازاة / الديمومة الزمنية والحدثية . ـ الادمان / بموازاة / الاخلاص والاصرار . ـ الصحو / بموازاة / حرارة الحياة . ـ النشيد / بموازاة / الترتيل والغناء والدعاء والاظهار . * المتوازيات التي مرّت تتصف بمظهر وجوهر محددان بالآتي : 1 ـ أنها مكونات شاعرية بامتياز كونها تجيء عبر إزاحات مؤدية للمعاني الدلالية المخالفة للفهم السائد على المستوى العامي والأدبي . 2 ـ أن تنوعها وعدم خضوعها للمباشرة التجسيدية مهما يحاول الفهم العادي أن يضعها كمجسدات منقوصة في محتوى الشيوع البدائي , تنوعها يجنبها المباشرة والضياع في متاهة العادي من إداء اللغة الشعرية . 3 ـ انها حيوية تتصل بالعلائق الاجتماعية والرغبات الانسانية النبيلة , مما يؤهلها للتعبير عن حيوية القصيدة وكأنها حيوية حياة حقيقية , وهذا هو نفسه ما يبقيها طافحة العاطفة شبابية النوايا , فلسفية التفكر ! 4 ـ جودة الصوغ يتمثل في الحفاظ الدقيق على شروط القصيدة من جانبيها الإيقاعي والسردي المنظم للإنثيالات القولية النفسية . * وفي شأن آخر من النظم الشعري , نجد الأشياء تأخذ بنموذج من نوع آخر للهوامش المعنى بها هنا . لنتابع : [ إلتمعَ الليلُ صرتُ أكثر وسامة توهج الشوق بي وبألق اللغات ارتدتني الفساتين كأنوثة أشعرُ بجسدِ المدنِ ودهشةِ الحجر دعني فقط أُصدّق بكل لغات العالم , أنّي ضوء يراك ـ لا أحدَ سواي يُجيدُكَ , ص48 ] الأشياء الشعرية التي نوهنا عنها سابقاً (ضمن مقاطع ص44) , كانت بعيدة عن الذاتية , فيها يتمظهر العموم والكونية , فيما هنا , المقطع يدور , ملتفاً بالكائن الذاتي المخوِّل للشاعرة أن تفيض بصراحة للإعلان عنها هي لا غيرها , المرأة , الذائبة في وجد ذاتها .. لنتقصى أشياءها أولاً : (اللمعان , الليل , الوسامة , الوهج , الشوق , الألق , اللغات , الفساتين , الأنوثة , الجسد , المدن , الدهشة , الحجر , الصدق , اللغات , الضوء , الرؤية) . يلاحظ على الأشياء هذه : 1 ـ أنها لا تعطي دلالة إلّا مع مكمل من خارج ذاتها وعلى الوجه الآتي : ـ اللمعان / يكمله / الليل , يوحي بالأُنس . ـ الوسامة / يكملها / وهج الشوق , يوحي بتكامل الذوبان بين الذات الشاعرة والذات المجسدة للأنوثة . ـ الألق / تكمله / اللغات , للتعبير عن جمال القول في منزلة العشق . ـ الفساتين / تكملها / أنوثة الجسد , لتظهر جلال المظهر الأبهى (للتبنت!) . ـ الدهشة / يكملها / الحجر , ليدلا على قدرة الأنثى على اغواء الجوامد بالحياة والحركة . ـ الصدق / تكمله / اللغات , ليصير محفل النيات والطوايا المعطاء . ـ الضوء / تكمله / الرؤية , ليصيغا قدر المحبين في الاندماج الجسدي والروحي كلياً . 2 ـ مفردات الموجودات تلك تقع بمقام التجسيد المموه , هي مما يُرى ولا يُلمس , وأحياناً يُلمس ولا يُرى , ضمن علائق الاستثمار في القصيدة , مثلاً : الليل يُرى ولا يُلمس , الحجر يُلمس , ولكن دهشة الحجر تحيله كائن آخر لا يُرى , انما يعطي دلالة الارادة . هكذا هي بقية كائنات القصيدة من الاشياء (الصغائر الهامشية) المستحيلة اللمس . 3 ـ أنها ترتقي بالقول الشعري ليضلل الفهم , بكونه تجسيدات لذات امرأة معينة , فيما يضمر , الواقع الدلالي , قضيةً أخرى تماماً , هي الاتهام المبطن للرجل في كونه لا يعي ما الأنوثة الحقيقية , الأنوثة التي تصنع الحياة وتغيّر الأفكار , وتدير التاريخ الى كل الاتجاهات بفعلها الفطري والعقلي والجمالي . 4 ـ جُلّ الأشياء في (مقاطع ص48) تنتمي للذاتية المعقلنة التي لا تهمل الوجد الصانع للخير في الضمائر والأفعال لكلا الذاتين (الفردية والجمعية , للرجل والمرأة ), وما يتماهى معهما من عقائد !. ب ـ الأشياء المستحيلة معللات الفعائل وهي تأتلف بذات العلائق الاحالية , لكنها تتنوع بطريقة تفضيل فعل شعري على آخر , نراها تراكم تلك الأفعال بتآلف ينفتح على تراتب خاص , يتصاعد تعقيداً بالتقدم النصي نحو القضايا الكبرى في الشعر .. هذا التصاعد يتخذ تراكماً متزايداً بحسب الآتي :
1 ـ معلّلات فعائل التشييء المنطوقة تنتظم تحت مظللة تسبيب او تبرير وجود أشياء القصيدة بجعلها متوافقة على منطق النطق المعلن للفعل الشعري الصائت بحالات المحو الاكتساحي كما في : [ الصوتُ واللمسُ والحواسُ العشرُ توهجت كضوء يكتسح الليل . ـ لا أحدَ سواي يجيدك , ص46]
2 ـ معللّات التشييء المهموسة هي مبررات للقول الشعري الخاص بالموجودات التي يصعب البت بسماعها , مثالها : [ … بـ كل هوس الجَلَدِ دعنا ندلل الوقت ونجعل من الضوء مراسيم ذهول ـ لا احدَ سواي يجيدكَ , ص41 ] 3 ـ معلّلات التشييء الصائتة الخفية هي معللات ذات تركيب وسيط بين تأكيد القول ورفضه , تعلو الاصوات للألفاظ المباشرة عند التصريح وتتخفى وراء التأويل عن الإضمار . يرد مثال لها في ص45 , من مطولة ” لا أحداً سواي يجيدكَ ” : [ياااااااااااا مأوى النوايا يا نديم السكون يا رغبتي يا ملامحي يا كل الملأ يا صوت ابتهالاتي يا نورساً تلهو على قربٍ من الاصغاء] وللتوضيح أقول : أن التأويل سيشمل : (مأوى النوايا , والنورس اللاهي بالاصغاء ) , وتلك تنسرب بجملها الشعرية لتبرر او تتيح للفهم ان يبرر وجودها بحسب ملكته من اللغة والثقافة , فهي تقع بموضع التخفي التأويلي. وأن متبقي النص يبرر موجوداته بصوت واضح ولغة تواصيلة تناسب الفهم العملي والنفعي لـ (قراءة المتعة). 4 ـ المعللات الحميمة انها تعلّات تضع الفرد أمام سبب حقيقي ينوجد عبره كعلاقة ارتباط وثيق حنون ,محنى بود رحيم .. ذلك يقع وراء التعالق الشيئي وبسببه , نظيره ـ كمثال ـ نجده في القول الآتي : [ أطلقْ عنانَ اللحظة فالقلب آمن والجسد آمن وكنْ مولعاً بكلّ خلاصة الروح فقارورة الّليل ترتشف عطرَها على مقربةٍ من نكهتي ـ لا أحدَ سواي يجيدكَ , ص43 ] 5 ـ معللات تقاويم الطبيعة للطبيعة حضور مهم في بمض المشاهد من مطولة الشاعرة غرام الربيعي المعنونة ” لا احدَ سواي يجيدكَ ” . هذا الحضور يعلل وجود بنيات مهيكلة للقصد في القصيدة , نجد مقابلاً لقولنا في الآتي : [ حين نجونا من كارثةِ المسافةِ وارتفعتْ مقاييسُ الروح والمناخُ مطرٌ أو ريحٌ للمعاني الصوتُ واللمسُ والحواسُ العشرُ تَوَهَجَت كضوءٍ يكتسحُ الليل ـ لا أحدَ سواي يجيدكَ , ص46] هيكل المقطع اعلاه تُعَلِّمُ مبرراته الدلالية عبر الموجودات البيئية الآتية : (المسافة , المقاييس , المناخ , المطر , الريح , الضوء , الليل) . من مهام هذه الموجودات تتويج المضمون لحالة من انبعاث قيمي يشدُّ أشياءَ الإنسان الى محيطه بوسيط لا يُخَيّب الجهد , هو اللغة المحتفية بعناصر البيئة الرحيبة , تبرر , من ثم , تقرر , الجملة الشعرية , وهكذا تصير الأقطاب الجملية (الحالة والحركة) دلالة ضوء للصوت واللمس والحواس المضاعفة بالوعي والشعور العميق بالالفة . 6 ـ معللات تشييء الافعال اللغوية هي عناصر الجملة مَنْ تبرر وجود (الشعرية) في المقطع الآتي الذي لا نجده بحاجة الى توضيح غير النص الشعري الآتي : [عذراً لسخونة فمي امرأة اليوم الثامن … أنا لستُ احداهُنّ مازلتُ مضارعاً مرفوعاً بالعشقِ لا يغفو الزمن على ذاكرتي المتوضّأة مِنْ ماءِ الحكاياتِ هي أنا ـ لا أحد سواي يجيدكَ , 47] .
سادساً : شعرية ثقافة العصر العصر يفرض قوانين ثقافته علينا كالثقافة السائدة , وثقافة الاضطهاد وثقافة الأثنيات والقوى الشعبية المهمشة , وغيرها. يهمنا في (الشعر) ما نسميه : الثقافة السائدة . وأحدُ مظاهرها ثقافة الجسد . الشاعرة غرام الربيعي لم تنغمر بها ولم تهملها, كون الجسد هو العالم مختصر الى كيان مملوك للنفس المفردة المتفردة به . سنعطي لشعرية هذه الثقافة جسد اللغة الذي أحال الكيان الفرد الى متعة وجود لا غير . ان العصر قد انفتح على المجريات الآتية : 1 ـ الحضارة الجديدة ترى الجسد مرة سلعة إباحية , ومرة نوراً , ومرة متعة عشق خالصة. 2 ـ الثقافة الفنية وضعت الجسد بامتحاني السوق والمثالية . 3 ـ الشعر وحده ينجو من عوارض الإصابة بالتجريح العاطفي للرغبة الجسدية بكل نوازعها المألوفة وغير المألوفة . لننظر في بعض الأمثلة لنقرر ماذا اختارت الشاعرة من موضوعات الجسد كثقافة تخصها شعرياً : أ ـ الحب : في المطولة الشعري (لا احدَ سواي يجيدكَ) يعني أنه الدال على : ـ التعاطف الفردي الجمعي : [ كم اتخذنا منّا وطناً … ومن الأصابع لحناً كـ جسد أُسطورة (ص78)] . ـ التسامي القيمي السلوكي : [ … على شفا موتٍ أحببناه فالخوف مدعاة لجحيم الاقتراب (ص62)]. ـ تنظيم التنافس البشري : [لنترك كل خراب الرؤوس … نفرّ من كيد الشقوق وعاهات العيون ولتكن ذراعاك حصناً لخلوتي (ص29)]. ـ التوافق الفلسفي الاخلاقي : [أستعين بـ كل الحرائق لأطفئ برودة حربك وأحضر كـ الموج في مواسم الصيف … تتلاشى بين أحضان العاقبة (ص57)] . ب ـ الإيروسية تعني الاثمار , وعفة الغزل , والوقاية من اليأس , والمتعة الأنيقة , والوعي بضوء الجمال . هذه الدلالات كلها تستحضر ـ كفهم ـ سام لآيروسية غير المعيبة , في ص33 من المطولة (لا أحدَ سواي يجيدكَ): [ السنابل تهمسُ تعلنُ تصرخ بالإحتراف على منصة الغزل الغزل الواقي من الخريف كدبيب الحيلة لسرقة القُبل من غفلة الّليل أو صحوة النهار ـ لا أحدَ سواي يجيدكَ , ص33] ج ـ الارتواء الجسدي : شعرياً , يعني حياء النوايا العفيفة , وحيوية تشهي الود الرفيق .. يتمثل هذا على الصفحة 36 : [ دعنا نلهو بـ بقايا الذكريات وعطر الشوارع العاشقة الحكايات آمنة بـ أسرار وقصاصات وقُبل بـ الحرفين بـ الانتظار بـ لون المعنى بـ جنون الوهلة الاولى بـ خوف يعلمنا الدلال ـ لا أحدَ سواي يجيدكَ , ص37] د ـ أسطرة الوجدان الوطني : وفيه ان الحبيب هو الروح العميقة للأشياء المحشوة بزمن الوجود الوطني .مثلما يرد هذا الاتجاه في المقطع الآتي: [ أنتَ مضرجٌ بي معَتّق بعطري مغمورٌ بطيني كلّما حاصرني حبّكَ أسرج غرامي وربيعي فلا تفكّرُ بالرحيل ] ( ).
إسماعيل ابراهيم عبد (سيرة)
مواليد بابل 1952 .. بكلوريوس آداب
أحب القراءة والانشاء المدرسي منذ مرحلة الثاني المتوسط .
في عام 1983 نشر أول قصة قصيرة في مجلة الطليعة الأدبية فمّثل ذلك مرحلة وعي جديدة
أنجز
* ذر التماثل ـ نصوص ـ 2001
* ألواح نيكار ـ نصوص ـ 2007
* منشئيات مأوى القص ـ ط1ـ نقد ـ 2007
* القص الموجز ـ آليات متقدمة ط 1 ـ نقد ـ 2008
* قمة من النشوى ـ قصص ـ 2009
* القص وحدة نصية ـ نقد ـ 2010
* الحداثات الاربع للشعرية في العراق ـ نقد ـ 2011
* القص الموجز ـ آليات متقدمة ـ نقد ـ ط2 ـ2013
* القصص نصيات تداولية – نقد – 2012
* منشئيات مأوى القص ط2 2014
* الأدنى والأقصى , طفولة وثقافة ـ نقد ـ 2014
* الرواية العراقية الـ مابعد إنشائية ,تقانات وتداول ـ نقد ـ 2014
* تماثل ألواح النشوى ـ نصوص في القص ـ 2015
غبارهم ـ قصص ـ 2015
*الفضاءات الخمسة في الرواية العراقية
*الاسم في الفيس بوك / اسماعيل ابراهيم عبد
* الإيميل على كوكل / esmaee2000@yahoo.com
غرام الربيعي
* الشاعرة والتشكيلية ورئيسة منتدى نازك الملائكة في التحاد العام للادباء والكتاب في العراق