قراءة: حسين سرمك حسن
(للذين في الطوابير مازالوا ينتظرون مصيرهم، هاهي قصاصات أوراقهم تنطق وترقص وتبكي كما سطور الكتب..
آخرون غيرهم على الأرصفة في محطة انتظار قطار المجهول، هاهي قصاصات أوراقهم مستلة من سلة مهملة غادرتها مجنزرات الحروب..
أما أنا فليس لي سوى سلة المهملات مهداة من تاريخ الحروب، أهديها لجميع من اكتووا بنيرانها.. )
هكذا أهدى الكاتب المبدع (خضير فليح الزيدي) كتابه الجديد (تاريخ أول لسلة المهملات، قصاصات ورقية من سلة مهملات الحروب) الذي صدر عن دار الينابيع في دمشق مؤخرا. وضع الزيدي مقدمة لكتابه عنوانها (تقديم يدحض الإلتباس) حاول فيه طرح مبررات لمشروعه الإبداعي هذا قائلا:
(من سيكتب عن الجند في عراكهم المستعر من الولادة حتى المشيب، عن مقرات تجانيدهم التي تنظم طوابير الموت المؤجل وأوراق الكنى البيضاء الدساتير الشخصية لصنوف الأفراد، إذ تنظم لهم أيام التسريح ودفاتر الخدمة الموشومة بأسرار الغياب، عن الهاربين القلقين في نومهم في حلم العذاب الآسر وهم يحلمون في سرقة سجلات التجانيد، عن النمط القاتل في رسائل الأسرى والجند معا الرسائل المتشابهة في الديباجة والختام.. عن الجنرالات الكبيرة وهي تُجبر على الإحالة على التقاعد.. عن المومسات المترهلات العاطلات عن العمل أو المحالات على المعاش.. عن الكراجات الخاكية الكبيرة وفنون الدراما على أرصفتها أيام اشتداد الحروب .. عن الحمامات العتيقة قبل أن تنقرض وتذهب أبخرتها الندية السحرية.. عن مراكز التدريب، عن مراكز تسليم الشهداء.. عن جثث مرمية على الأرصفة.. عن اتساع المقابر واضمحلال المقاهي عن الطب العدلي ومستشفيات البتر الأوتوماتيكية؟؟ كل تلك الأسئلة تستفز من يعمل على طريقة البدوي الدليل وهو يكتشف الأرض الجديدة المؤدية إلى منظومة معرفية تؤدي إلى آفاق نصوص لم تُجنس بعد.. ألم يكن الأدب الحديث تنضيدا لأسئلة يومية ملحة).
ووفقا لهذه المهمة التي يتصدى لها الزيدي للإجابة على التساؤلات الحاسمة السابقة والتي ترتبط بصلب عملية ترميم الذاكرة الوطنية العراقية الممزقة والتي هشمتها الحروب والاحتلالات، فإنه يرى أن الأجناس السردية بمواصفاتها التقليدية لم تعد تحتمل دراما الشارع العراقي المعاصر خصوصا بعد أحداث ساحة الفردوس الشهيرة وتحولات الفرد بكل ما اختزنه من تقلبات ومفاجآت يومية. فهذا الشارع يحول الكاتب السردي إلى راهب في دير يستمع إلى اعترافات وخطايا كل الأجيال التي مرت عليه ليسجلها ضمن مذكراته الأدبية وهو وصف دقيق وموفق. ولهذا يرى الزيدي أنه أصبح لزاما علينا البحث عن أسلوبية تشتغل في منطقة جديدة صادمة للقارىء بكل أصنافه وامتداداته ومثيرا لدهشة ما في نبض الشارع الثقافي.. عن صياغة كيميائية مكتشفة في مختبره تقوده نحو التفرّد في صياغة ذلك الوجع المدمن للشخصية العراقية التي بدت ملغزة أحيانا أو مسطحة في حقب مختلفة.. وفي ختام التقديم تساءل الزيدي : (ألم تعطف الحروب العالمية المسار الأدبي باتجاه حداثة ما أو ما بعدها؟؟).
ضم الكتاب تسع عشرة قصاصة تناولت “مخلفات” الحرب المميتة والمهملة التي يحاول البعض نزعها من صفحات الذاكرة العراقية.. من هذه القصاصات:
– الطريق إلى النهضة
– الجثث تأتي تباعا
– صباح السبت يا مراكز التجنيد
– عين العريف
– على عتبة الطب العدلي .. وغيرها..
سبق للكاتب أن أصدر روايتين سابقا:
– شرنقة الجسد 1984
– خريطة كاسترو 2009
وله مخطوطات كثيرة منها: تحولات الباراسيتول، زوال مخطوطة.. كوكا كولا، وثمانية أخرى..
يتساءل الزيدي: (ما الذي تخلفه الحروب التي تبدأ ولا تنتهي أبدا؟ حتى لو أعلنت البيانات خاتمتها، لكن ذاكرتها تبقى ألقة في الذاكرة والشوارع الخلفية.. سوى ندب بارزة ومخيفة وسلة مهملات للحكايا والأوجاع لا تحمل سوى سلة مهملات محشوة بقصاصات ورقية ممزقة.. جمعتها لأحرق ذكراها إلى الأبد .. هل يا ترى أني أفلحت في ذلك؟؟).
لقد أشعل الزيدي الحرائق في محتويات سلة مهملات الحرب.. أشعل الذاكرة الوطنية.. وقام بدوره المشرف ولن تخمد هذه الحرائق التي بدأها.. إنها سلة مهملات بسعة بلاد..
خضير الزيدي: تاريخ أول لسلة المهملات؛قصاصات ورقية من سلة مهملات الحروب
تعليقات الفيسبوك