
صنع الله إبراهيم كاتب طارده اسمه وخالطته أدواته الخيالية الجديدة
في الملتقى الثاني للرِّواية الذي عُقد في القاهرة عام 2003 برئاسة جابر عصفور رئيس المجلس الأعلى للثقافة آنذاك وبرعاية وزير الثقافة فاروق حسني اجتمعتِ اللّجنة المكوّنة من سيزا قاسم وفريال غزول وعبد الله الغذّامي ومحمد برّادة وفيصل دراّج ومحمد شاهين ومحمود أمين العالم، وبرئاسة الروائي السُّوداني الطيب صالح. قرّرت اللّجنة منح جائزة الملتقى للدورة الثانية (بعد أن مُنحت جائزة الدورة الأولى لعبدالرحمن منيف) للكاتب المصري صنع الله إبراهيم، على عكس ما كانت تروِّج الصّحافة الأدبيّة والثقافيّة بأنّ الجائزة ستذهب لواحدٍ مِن ثلاثة أسماء هي: إدوار الخراط، أو خيري شلبي من مصر، أو إبراهيم الكوني من ليبيا.
نيران صديقة
كان الكلُّ ينتظرُ صعود صُنع الله إلى المسرح ليتسلمَ الجائزة، لكن كانت المفاجأة الصادمة، فما إن تحدّث حتى أعلن رَفَضَه الجائزة، ومُطْلِقًا نيرانه على الجميع مبرِّرًا ذلكَ بسبب سياسات القمع والتطبيع وبغياب العدالة الاجتماعية.
هكذا “في الوقت اللي ما فيش فيه أمة لا حاضر لها ولا مستقبل، وفي الوقت اللي فيه إسرائيل بَتِجْهِز على ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وسفيرها آمن في مصر، وفي الوقت اللي موجود فيه السفير الأميركي في القاهرة، ويحتل حيًا بالكامل وينتشر جنوده في كلِّ شبر من الوطن، وفي الوقت اللّي بتتفرج فيه الحكومات العربية على المجازر التي تحدث في العراق وفلسطين ولا تصنع حيالها شيئًا، أرفض قبول هذه الجائزة لأنها صادرة عن حكومة غير قادرة على منحها”.
ورغم حالة الجدل التي تركتها قنبلة صنع الله إلا أنه كان مقتنعًا بما فعل، وهو ما ترجمه أحد أئمة المساجد في خطبة الجمعة، بالإشادة بما فعل، بل أكّد على أن ما فعله “كان يجب أن يقوم به الشيوخ قبل غيرهم”، وهو ما جعله يشعر بالفخر.
كانت قنبلة صُنع الله التي ألقاها، ذات دويّ كبير في الأوساط الثقافيّة آنذاك بل جعلت القائمين على الملتقى فيما بعد يتخذون قرارًا بإلزام الفائز بإقرار كتابي بتسلّم الجائزة حتى لا تتكرّر واقعة صُنع الله التي أحرجت الدولة. موقف صنع الله لم يرق لبعض المثقفين الذين تساءلوا عن سبب طباعته رواية “شرف” في دار الهلال وهي إحدى مؤسسات الدولة التي اعترض على جائزتها، بل تساءل آخرون لماذا قَبِلَ جائزة سلطان العويس؟ وغيرها من الأسئلة التي لم يكن يُبالي بالرّد عليها، فهو مقتنعٌ بما فعل.
أزمة شرف
الحادثة ذات الصّدى الأكثر كانت بعد صدور رواية “شرف” في مارس 1997؛ حيث اتّهمه الكاتب فتحي فضل صراحةً بعد أن نشرت أخبار الأدب فصولاً منها بسرقة مذكرات نشرها سنة 1993 على نفقته الخاصة بعنوان “الزنزانة”، وقد لاحظ فضل أن “المسار والأحداث والمواقف واحدة في الروايتين” وأن التطابق الحرفي بينهما “وصل إلى 42 نصًا”، الغريب وهو ما يعكس في حدِّ ذاته صفة مُهمِّة يتميّز بها صُنع الله تتمثّل في شَجاعة المواجهة، واعترافه بأنَّه قرأ كتاب “الزنزانة” قبل أن يكتب “شرف”، مُوضِّحًا “قمت بقراءة كلّ ما يتعلّق بموضوعي قبل الشروع في الكتابة”، إلا أنّه يرى أن ما كتبه فضل “ليس رواية وإنما مذكِّرات شخصيّة، كما يشير بنفسه في مُقدِّمة “الزنزانة”.
وانتهى صُنع الله إلى أن المصير المأسوي الذي اختاره لبطله “شرف”، ليس له أيّ علاقة بما وصل إليه فضل في مذكراته. وبقدر ما كشفت هذه الحادثة عن شجاعة صُنع الله في المواجهة والاعتراف، كشفتْ عن نقيضه تمامًا في الوسط الثقافيّ.
فأثناء الضجة التي أثارتها أزمة الرواية رفض الكثير من النُّقَاد التعليق، ومَن علّق رَفَضَ ذكر اسمه، بل إن َّكثيرًا منهم تغافل الأزمة أثناء الكتابة عن الرواية مثل علي الرّاعي في مقالته بالأهرام بتاريخ 20 أبريل من العام 1997 تحت عنوان «شرف بين نُبل القصد وصعوبة التحقيق” دون أدنى إشارة منه إلى القضية المثارة، كما تناول جابر عصفور على مدار ثلاثة مقالات الرواية بالقراءة النقدية في جريدة الحياة بعناوين مختلفة “مفارقة شرف” و”ثنائيات شرف” و”رواية السجن” دون أن يذكر قضية السرقة، وإن كان أشار في المقالة الثالثة إلى أن “الزنزانة” “أحدث شهادة عن سجن التسعينات”، استفاد منها ابراهيم كـ”مادة قابلة للتضمين الجزئي”، وهو نفس ما فعله فاروق عبدالقادر في مقالته “نجاح ناقص وفشل جميل” في مجلة “روز اليوسف”، فقال إن الكاتب وضع “الزنزانة” على رأس مصادر استفاد منها، وهو ما ينفي عنه سوء النية.
الخيط الذي يلتزم به صنع الله إبراهيم في كتاباته أنه مناوئ للإمبريالية والسلطة في أحد أشكالها التعسفيّة وهو ما عرّضه لتجربة الاعتقال من عام 1959 وحتى عام 1964، التي عبّر عن تأثيرها الفادح في روايته القصيرة “تلك الرائحة”
ضد الإمبريالية
الخيط الذي يلتزم به صنع الله إبراهيم في كتاباته أنه مناوئ للإمبريالية والسلطة في أحد أشكالها التعسفيّة وهو ما عرّضه لتجربة الاعتقال من عام 1959 وحتى عام 1964، التي عبّر عن تأثيرها الفادح في روايته القصيرة “تلك الرائحة”، ثم ما أسهب فيه من خلال وصف أحداثها في عمليْه “يوميات الواحات” و”شرف”، حتى غدا السَّجن بالنِّسبَة إليه جامعته كما يقول “ففيه عايشتُ القهر والموت ورأيتُ بعض الوجوه النادرة للإنسان، وتعلّمت الكثير عن عالمه الداخلي وحيواته المتنوِّعة ومارستُ الاستبطان والتأمُّل وقرأتُ في مجالات متباينة. وفيه أيضا قرّرت أن أكونَ كاتبًا”.
ومع أنه كان ينتمي سياسيًّا لمنظمة “حدتو” الشيوعية، إلا أنه لا يخفي انتقاده لليسار فيقول “بعض الأحزاب اليسارية، تعاونت مع نظام مبارك، وأحزاب أخرى تُدلي بتصريحات طفولية لا تعبّر عن واقع المجتمع، والبعض الآخر منها عاجز عن التواصل مع الجماهير والتفاعل مع طبقات المجتمع الذي يتحدث عنها دائمًا، وعلى جميع هذه الأحزاب توثيق علاقتها بالجماهير كي تعود إلى قوتها ونشاطها اللذين كانت عليهما منذ سنوات طويلة”.
وينتقد موقف محمد البرادعي بضراوة، أما مرسي فهو عنده أقرب إلى “شيخ الزاوية”، ومع يساريته إلا أنه يحبُّ الزعيم عبدالناصر ويقول عنه إنه “زعيم وطني عظيم، حقَّق إيجابيات كثيرة، ولكن أيّ إنسان له جوانب سلبية أيضًا، والسَّلبي في عبدالناصر أنه كان يتخذُ قراراته منفردًا”. وعن أحداث ثورة 25 يناير يقول إن “تعبير ثورة غير دقيق، 25 يناير من وجهة نظري انتفاضة تم إجهاضها بشكل ما، و30 يونيو كانت استعادة لهذه الانتفاضة”.
بداية المشاكسة والإثارة تعود إلى أوّل عمل كتبه بعنوان “تلك الرائحة” إبّان خروجه من السَّجن عام 1966، فعندما قدّمه ليحيى حقي رفضه ووصفه بالعمل البذيء هكذا حسب قوله “تقزّزت نفسي من هذا الوصف (الفيزيولوجي) تقزُّزًا شديدًا لم يُبقِ لي ذرة من القدرة على تذوق القِصة رغم براعته إنني لا أهاجم أخلاقياتها بل غِلظة إحساسها وفجاجة عاميتها، وهذا القبح الذي تنبغي محاشاته وتجنّب القارئ تجرُّع قبحه”. نفس الشيء فعله الكاتب يوسف إدريس وإن كان بصيغة أقل حدِّة من سابقه فيقول “كان كاتبها (أي الرواية) صريحًا إلى درجة اشمأزت نفسي فيها من بعض تعبيراته”.
ولد في مدينة القاهرة عام 1937، لأب كان يتنقّل في كثير مِن المدن، وعن سبب تسميته بهذا الاسم الذي سبّب له الكثير من المشاكل يقول “عند ولادتي كان والدي يبلغ الستين من العمر وقام بصلاة استخارة ثمّ فتح المصحف فوضع أصابعه على كلمة “صُنع الله الذي أحسن كل ّشيءٍ خلقه”، ومن هنا تمت تسميتي بصُنع الله، ولكن هذا سبّب لي مشاكل كثيرة، فعندما كنتُ في المدرسة لأنه كان اسمًا غريبًا، وكان دائما مثار فكاهة للناس، أذكر أنَّ المدرس كان يقول لي (صُنع الله؟ ما كُلنا صُنع الله).
في السنوات الأخيرة لمـّا حدث المدّ الديني بدأتِ الناس تسألني إذا كنت مسيحيًّا أم مسلمًا، ولكنى أرفض الإجابة عن هذا السؤال وأقول أنا قبطي بمعنى مصري”. لا يُنكر تأثير والده وجده عليه في المرحلة الأولى حيث زوّداه بالكتب والقصص للاطلاع.
بعد صدور روايته “شرف” يتهم الكاتب فتحي فضل صنع الله إبراهيم صراحةً بسرقة مذكرات له كان قد نشرها في العام سنة 1993 على نفقته الخاصة بعنوان “الزنزانة”، قائلا إن “المسار والأحداث والمواقف واحدة في الروايتين، وأن التطابق الحرفي بينهما وصل إلى 42 نصا”
بعد أن تخرج من الجامعة لم يتمكّن من الحصول على عملٍ مُنَظَّمٍ مُسْتَقِرٍ، وبعد خروجه من السجن ظلّ (يُلقِّط رزقه) فيكتب مقالاً لمجلة المجلة وغيرها، ثم عمل فترة في وكالة أنباء الشرق الأوسط، ثم انتقل منها للعمل بدار نشر الثقافة الجديدة، ثمّ تفرّع للكتابة بعدها.
يمثِّل كتاب “إنسان السّد العالي” تجربة فريدة ومثيرة في حياته، وقد لدت فكرته في المعتقل، بين ثلاثة من الشّباب ليست لديهم أيّ تجربة (صنع الله إبراهيم وكمال القلش ورؤوف مسعد) وما إن خرجوا من المعتقل تباعًا عام 1964، حتى بدأوا في التخطيط للرحلة دون أن يكون معهم مصدر للتمويل، وبالفعل ذهب الثلاثة في مغامرة إلى أسوان في قطار من الدرجة الثانية بعد الاستدانة من الأصدقاء، وهناك كتبوا هذا الكتاب بعد أنْ قسّموا العمل فيما بينهم، كما أثمرتْ هذه الرّحلة عن مسرحية “النفق” لرؤوف مسعد ورواية “نجمة أغسطس″ لصنع الله إبراهيم.
ومع هذه التجربة الجماعيّة إلا أن لديه عزوفًا عن الاختلاط في الجماعات والتجمعات الثقافية “ليس موقفًا منها” كما يقول بل لأنه يميل الى الوحدة، كما أنّه لم يعد لديه وقت “ليضيّعه في الجلسات و’القعدات’ في وسط البلد”، بالرغم من أنه من الأعضاء المؤسسين لاتّحاد الكُتّاب، وشارك في أوّل اجتماع تأسيسي له عام 1975.
يتميّز صُنع الله إبراهيم بغزارة الإنتاج، وتنوّع كتاباته التي تجمع بين السّيرا ذاتي والتوثيق التاريخي، والنقد الاجتماعي لظواهر وأنظمة خاصة النظام الرأسمالي كما في رواية “ذات” التي كانت أشبه بوثيقة إدانة لعصر السادات.
إبراهيم مشغول ـ دائمًا ـ بقضية الحرية والعدالة، ومع الأسف رغم الدعوات والصيحات فهي غائبة، ومن ثمة يأتي الإلحاح في تناولها في أعماله، وفي سبيل هذه القضايا يكون مصير أبطاله إما السَّجن أو القهر الذاتي، فالعدالة التي يبتغيها على لسان أشخاصه ليست شعاراتٍ والحرية أيضًا التي يريدها لهم ليستْ في تبني الأفكار المتمرِّدة وإنما في امتلاك الذَّات وتخليصها من المعوِّقات التي تُكبِّلُها، وهو ما رسمه بعناية في صورة الفتاة العرجاء التي تسير إلى جوار خط المترو في “تلك الرائحة”، في انتقاد واضح وصريح لتدخلات السلطة.
صنع الله إبراهيم رفض قبول جائزة الرواية العربية في ملتقاها للعام 2003 التي منحت له، مطلقا نيرانه على الجميع مبررا ذلك بسبب سياسات القمع والتطبيع وبغياب العدالة الاجتماعية في مصر مبارك
كما لا يقدم في رواياته التاريخ الرسمي الذي تمتلئ به صفحات الكتب وإنما التاريخ الذي يراه هو، كما لا يتوانى عن انتقاد وتعرية الأنظمة العربية في زمن الانتهاكات والخضوع والتدخلات الغربية كما في رواية “وردة” العمانية.
وينتقد أميركا الإمبراطورية الاستعمارية التي لا يتوانى عن وصفها بأنها “إمبراطورية قمع واستغلال وعدوان وتغلف كلّ هذا بشعارات براقة وجوفاء، كما أنها تدعم القمع وتُحارِب الديمقراطيّة حتى تضمن استقرار الأوضاع وبقاءها على ما هي عليه في العالم الثالث”، كما هو ظاهر في رواية “أمريكانلي” التي في أحد مسمياتها تقرأ هكذا «أمري كان لي» كنوع من إعلان التحرُّر من هذه التبعية. وقد يذهب بعيدًا لإدانة العالم أجمع وأيضًا الأيديولوجيات التي أنشبت صراعات وتقسيمات كما في روايته الأخيرة “برلين 69″.
التمثيل الاستعاري
إذا كان لكلِّ كاتبٍ من جيل الستينات بصمة معينة تظهر في أعماله، فإن صنع الله إبراهيم يكاد يكون صاحب تقنية الكولاج داخل أعماله، وأيضًا مبتدع التمثيل الاستعاري بلا منازع في الرواية كقول بطل اللجنة “رفعتُ يدي المصابة إلى فمي، وبدأت آكل نفسي”.
بل إن أعماله جميعها تتسم بنوع من السُّخرية من هذا الواقع المفجع، كما تتميّز جميعها إلى جانب دقة الوصف باطراد تفاصيل الحياة اليومية بكافة أشكالها من طعام واغتسال وتريض وقراءة الصحف بإسهاب يدعو إلى الاستفزاز في بعض الأحيان.
صَدَرَت لصنع الله إبراهيم كتابات عدّة منذ صدور روايته القصيرة تلك الرائحة مرورًا بنجمة أغسطس وذات واللجنة وبيروت بيروت (عن الحرب الأهلية في لبنان) والعمامة والقبعة وأمريكانلي والتلصّص ويوميات الواحات وصولاً إلى آخر أعماله الجليد ثم برلين 69، إضافة إلى بعض الترجمات وكان آخرها كتاب “التجربة الأنثوية” وهو عبارة عن مختارات قصصيّة لدوريس ليسينج، وإدنا أوبريان، ومارلين فرنش، وفرانسواز ماليه. جميع هذه الأعمال تضعه في مصاف كبار الكتاب الذين أولوا أهمية للشكل الجيد في الكتابة باعتمادهم تقنيات حديثة، إضافة إلى تصدير قضايا الإنسان الجوهرية والمصيرية في الواجهة.
*عن العرب اللندنية / ممدوح فراج النابي