علي لفتة سعيد : مثلث الموت (5)

ali-lafta-saeid-2-9-
لم يمر سلام هذا الصباح على المكتبة ليقرأ الصحف..كما هي عادته في كل يوم..كان شغله الشاغل التفكير بشكلٍ جدي في معرفة الحقيقة التي آلت إليها أوضاع العراق بعد عام 2003 وما رافقها من أعمال عنف وهدرٍ للمال العام..كان يقول لنفسه أن ثمة أمرٍ غير معروفٍ حتى الآن..هو الذي يحرك الواقع العراقي الجدي..ثمة ما يحرك البيادق في الداخل..ما يدير اللعبة..ما ينقل اللاعبين..ما يضغط على الأصابع لكي تنطلق الرصاصة ولتقتل من تقتل، المهم أن يكون هناك استمرار للموت..كان يفكر أن الطائفية أظهرت نصف جسدها وهي تقاتل الآن لإثبات وجودها..وصارت وسائل الإعلام العالمية تتحدث بشكل واضحٍ وصريحٍ وعلني عن وجود خلافات كبيرة وعميقة بين السنة والشيعة..كان سلام قد جلس منذ الصباح الباكر أمام جهاز الحاسوب وراح يتنقل في محرك البحث بين مقالات وأنشطة وتقارير عن الواقع العراقي، سواء ما هو قبل سقوط النظام أو ما بعده..كان كل شيءٍ صاخباً حوله حتى الحجر الذي يغلف جدران بيته البسيط الذي يشبه بيوت الريف الحديثة التي بنيت من الطابوق وسقفها من حديد الشيلمان.. فيما تركت الواجهات تبرز طابوقها وقد خلت من الألوان..ربما هو يسمع الآن حركة العصافير على شجرة الكالبتوس الوحيدة في باحة الدار، فيما تتوزع أشجار النخيل في كل مكان..لا يعلم لماذا زرع أبوه هذه الشجرة غير المثمرة، لكنه يعلم أنها تبقى خضراء في كل الفصول..ربما فكر أن أباه أراده أن يتعلم أن البقاء أخضر في عقله ومواقفه، أفضل من ثمرٍ يكون زمنه فصل من العلاقات المؤقتة وهو ما يعني أنها رسالة أن يبقى ثابتاً.
أطفأ سلام محرك البحث ثم أطفأ اللابتوب بطريقة من أصابه الإزعاج..محاولاً ألّا يثير الفوضى في ترتيب البيت..كان الأطفال نياماً في الغرفة الأخرى التي تدخلها حرارة الضوء قبل حرارة الشمس..وكانوا نائمين وقد توزعوا على أرضية الغرفة المفروشة ببسط من النايلون..لحظة ..صعدت حموضة الكآبة الى رأسه، حتى لكأن الكدر يلاحق معيشته بصورة متتالية..ذهب الى غرفته كانت زوجته تغط بنومٍ عميق وقد كشفت عن ساقيها الأبيضين، وصعد الثوب حتى مفتتح وركيها..فيما كانت مؤخرتها تبرز ردفين ريّانين..شقت روحه لحظة أخرى عن مؤامرة تمسد له جلد كآبته، لتثير في داخله رغبة أخرى..حتى إذا ما تحركت زوجه، بان نهديها من فتحة ثوبها العريض،حتى لكأن نهدها الأيسر يريد الخروج الى الهواء تاركاً حلمةً ضائعةً بين طيات الثوب ..شيء ما غريزي دخل في رأسه وهو يرى ساقيها وقد تباعدا قليلاً..كانت الشمس وقتها تصعد الى فوق النافذة، ليطل الضوء على نصف غرفة الأطفال..حينها سيبدأ الذباب لعبته في إيقاظ النائمين عنوة..سارع ليقفل باب غرفة الأطفال حاسباً الوقت أن فيه دقائق ليصل الضوء الى أجسادهم، وعليه اللحاق بالضوء الذي لم يتقرب منه منذ أكثر من أسبوع ..ليخلع عنه الكدر بتروٍ أثار فيه قوةً عارمةً ليندس بين نهدي زوجته التي أفاقت بلا رجفة أو فزع..لتجده عارياً..وقبل أن ترفع ثوبها نهائياً عن بطنها، نظرت الى باب الغرفة وجدته وقد أقفله بالمفتاح والرتاج..فابتسمت له لترد على قوله بضحكةٍ ساطعة، إنها أيضا اشتاقت له.
****
كان الطريق المؤدي الى المدينة فيه رائحة البساتين بالنسبة لسلام..يشعر بالفرح والنشوة وهو يعدل من خصلات شعره وثمة ريح تنعشه حين تمر على رطوبة الماء الذي اغتسل به رغما عنه بعد إلحاحٍ من زوجته ألّا يخرج دون أن يسبح .. وكان يقول لها..أنه يريد البقاء في لذّةٍ لم يجدها طوال السنوات الماضية من زواجه.. وكأنه كان يسرق وقتاً ليمارس حقه في الصباح بدلا من المساء.
لكنه سرعان ما عاد الى التفكير ذاته وهو يرى نعشاً ملفوفاً بالعلم وقد مر من أمامه..فيما النسوة يصرخن داخل السيارة الأخرى التي ترافق سيارة النعش..لم يطلق حسرته حتى مرت سيارة أخرى تحمل نعشاً ملفوفاً بالعلم..أطلق حسرةً وتأففاً ليشير الى سيارة تقل الركاب.. فقد تأخر عن الوصول الى ملتقى الصحفيين.kh-ali-lafta-2

****
كان سلام يتجه إلى عمله بشكل روتيني.. يبدأ صباحاً بالمرور بالمكتبة الرئيسية التي توزع الصحف اليومية على المكتبات الأخرى وبائعي الصحف الجوالين..يلتقي هناك بعدد ٍكبيرٍ من الصحفيين والإعلاميين يتبادلون الحكايات..لكن هذا اليوم شعر الصحفيون بعدم وجود سلام ومنتظر ..وكان خضير يسأل أحمد إن كان يعلم شيئا أو اتصل بسلام.. ويجيبه أحمد:أن الوقت مبكر ربما أخذه النوم، أو إنه الآن في إحدى الدوائر الحكومية يجري حواراً أو تحقيقاً صحفيا.
في كل يوم يصل سلام الى هذا المكان ولم يتأخر يوما إلا في أوقات متباعدة جدا..وكان كثيراً ما يسجل حضورا في مناقشاته التي تثير الكثير من التعليقات.. وكان أكثر ما يزعجه هو وجود الذين لا يمتلكون المهنية في أن يكونوا صحفيين، وهذا ما يربك العمل الصحفي..فبعضهم بحسب رأيه لا يفرقون بين الخبر والتقرير فهم يملكون أما حظوة مع مسؤولي الصحف التي يعملون لديها كمراسلين وهي كثيرة أو أنهم يقبلون بالعمل شبه المجاني مما لا يرهق الصحيفة بالرواتب والمخصصات..وهؤلاء يقبلون على العمل الصحفي لأنه يوفر لهم الوصول الى المسؤولين الصغار والكبار وتحقيق مآرب أخرى.كان يقول لهم إن الخبر الكاذب الذي ينشر أو الذي تنقصه المعلومة ربما يثير الرأي العام وكانت له جملة يكررها دوما ( ليس كل ما ينشر مفيداً وليس كل شيء صالح للنشر يكون قابلا للنشر).
بادر ذات مرة حين حصلت مواجهات مسلحة بين فصيلين تابعين لرجلي دين..إلى الطلب من الصحفيين بعدم نشر الأخبار السرية أو أعداد القتلى..وقال لهم..إن هذا الأمر قد يثير الأتباع في محافظات أخرى وتحصل مواجهات مسلحة والخاسر هو المواطن والأمن، خاصة وإنهم في كل المدن، بل في داخل البيت الواحد..كان يقول لهم انقلوا الحدث كما هو دون ان تركزوا على التفاصيل الأخرى التي تثير العواطف..يكرر لهم إن نقل الأقوال الزائدة يعني حصيلة هدر دم زائد..خذوا أقوال الناس المحايدين الذين يؤكدون على أن ما يحصل هو أجندات خارجية..بل قال لهم أن الكذب لكي يكون الأمن مستتباً هو أيضا رسالة الصحفي..كان يجابه بسيلٍ من الإتهامات..حتى إن منتظراً وأحمد وحتى صاحب المكتبة طلبوا منه الصمت، وألا يزج نفسه كثيراً في الحديث..فإن الأجندات تعني اتهاماً واضحاً.
قال له أحمد ذات مرة:
– رصاصة واحدة (بالكصة) تكفي لأن يصمت لسانك الى الأبد.
أراد مناقشتهم عن الوعي..وإن السكوت يعني أن الأمور ستزداد سوءاً وما ينفع نقاشهم مع بعضهم ورفضهم الصامت الذي يشبه الحديث مع الجدران..لكنه رأى عضواً سابقاً في الحكومة المحلية لم يفز في الإنتخابات الأخيرة، سحبه عن تجمع الصحفيين وجلسا في مقهى ليست ببعيدة..يعلم أن لديه معلومات هامة عن أسباب المواجهات التي حصلت في زمنه، فهو كان يشغل منصباً مهما في الجهاز الأمني في مجلس المحافظة..كان يحرك الكلمات في لهاته وهو ينظر إليه متجسساً على ملامحه،في أن بالإمكان الحصول على أية معلومة مهمة..تعامل معه باستقلالية تامة، سائلاً إياه إذا ما كان يحمل ذكرى جيدة عنه.. فأجابه المسؤول إنه من الصحفيين الذين يهابونه كثيراً وإن الأسئلة التي يطرحها مهمة جدا، لا تدع لأي شخصية مغافلتها أو الهروب منها،وهو ما شجعه على المطالبة بمعلومات عن أسباب المواجهات، وعن رجل الدين الكبير الذي دوّخ البلد..طالباً منه أن يكون وطنياً ويكشف كل شيء متعهداً له ألّا ينشر شيئاً باسمه، وبالإمكان أن يطرح الموضوع عن شخصيات كُشفت أسماؤها..مذكراً إياه على قدرته على سرد قصة قابلة للتصديق من معلومات مهمة..كان يحاول إقناعه أن الأمر سيكون للتاريخ.قدم له سيكارة وقال له:
– سأسهّل عليك الأمر أنا أسال وأنت تجيب.
كان سلام فاغراً فاه وهو يستمع إلى معلومات مهمة، رغم إنها متقطعة..دعا ربه أن يحفظها..فقد اتفق مع المسؤول ألّا يسجل له أي صوت وسيعتمد على الذاكرة.
قال المسؤول:
– أخاف أن يتم اغتيالي إن ذكرت إسمي.
ضحك سلام وأخبره إن كان هو يخاف ولديه الحمايات والعشيرة والقوة والمال وهو مسؤول في الدولة سابقاً ومسؤول حزبي حالياً، فمن يحميه وهو الأعزل إلا من قلمه؟كان سلام يسمع صراخ المعلومات وهي تتقافز في رأسه..بلطف بالغ سأله عن مصادر هذه المعلومات فأكد إن كل شيءٍ واضح ..فثمة وثائق من النظام السابق وثمة اعترافات لعناصر تم اعتقالهم وثمة ما هو استخباراتي، وثمة معلومات مستقاة من عناصر تمكنوا من اختراق العديد من التنظيمات، لكن الأخطر، كانت المعلومات الخاصة برجل الدين الكبير.
أعاد المسؤول عليه القسم منبهاً إياه ألا يكون نادماً للحديث معه بكل الموضوعية وأن يبقى الأمر سراً، موصياً إياه أيضا ألا يبوح بما لديه من معلومات..ممتدحاً الثقة التي عرف بها وقوته وشجاعته وصدقه.
– لا تجعلني أندم إني أبحت لك بالمعلومات .
– لكن السؤال الأهم أستاذ..لماذا لا تتحرك الدولة للتعامل بجدية مع الموضوع وتمسك بكل الأطراف وتعلنها للرأي العام؟
– الوضع العام غير مهيأ لفتح جبهات عديدة على الدولة التي تحاول بكل الإمكانات أن تدافع عن نفسها،فهي أيضا في موقع الضعف وكل هذه التيارات أقوى منها..ثم لا تنسَ إن الجماهير لا تثق بالحكومة وتثق بالمرجعيات سواء منها الدينية أو المسلحة فهي التي تسيطر الآن على حركة الناس.

*****
لم يزل سلام يفكر بالمعلومات..مكتشفاً إن ما سمعه أقرب إلى الهلوسة..ولأنه لا يثق بالسياسيين الذين ينتمون إلى أحزاب إسلامية، خاصة وإن المعلومات التي أوردها له، ليست محط رهان لتكذيبها..الشارع فارغ والظهيرة تضرب الرؤوس ،وأحمد وخضير ينتظرانه أمام المكتبة للإتفاق على وقت السفر نهار الغد الى بغداد..كان مشغولاً بربط الأحداث التي كانت تتقطع من فم المسؤول لكثرة رنين الهاتف الذي كثيراً ما كان مثقلاً بالفشل حين يرن في مكان لا يسمح أن يكون فيه اتصال كما في المؤتمرات الصحفية..يعد سلام رنين الهاتف النقال في غير محله بالشؤم ..مذكراً أحمد بالفشل الذي أصابه في المؤتمر الصحفي لرئيس الوزراء حين نسي إغلاقه برغم تكرار طلب مدير الإعلام بضرورة إغلاق الهاتف إلا إنه نسي لكونه كان مشغولاً بوضع بطاريات جديدة لجاهز التسجيل، كي يضعه على المنصة التي يقف خلفها رئيس الوزراء والمحافظ وعدد كبير من أعضاء حزبه ومسؤولي الحكومة المحلية..كان حينها يفكر بسؤال رئيس الوزراء حالما ينتهي المؤتمر الصحفي عن أهمية أن تكون المدينة القديمة خالية من الأسلحة والجماعات المسلحة أو المليشيات..وهو ما أتاح له الفرصة أن يتقدم خطوة قريبة من رئيس الوزراء:
– سيادة رئيس الوزراء..هل تعتقدون أن وجود مقرٍ لشخصيةٍ دينيةٍ أو سياسيةٍ في مدينة مقدسة تتوافر على حماية عسكرية هو أمر مقبول من الحكومة؟ رغم أن هذا المقر ربما يساهم في زعزعة الأمن ؟ألا تخافون السكوت الآن من تفجر الوضع غدا؟
نظر رئيس الوزراء الى عيني سلام .. وكأنه تذكر أن هذا الوجه سبق أن إلتقاه في ذات المكان قبل أشهر..هو ذاته الذي يطرح الأسئلة المؤرقة التي لها جواب ولكن لا مجال للإعلان عنه..فالوقت الذي يمر به البلد لا يحتاج الى ضرب الفقاعة لأنها ستنفجر وتتحول الفقاعات الى دمامل سياسية.,.ربما يعرف سلام أن الجواب صعب جدا، ولكنه يريد أن يطمئن الناس إن الدولة مثلاً قادرة على حماية الناس أو إن هذه المقار مسيطر عليها..فراح رئيس الوزراء وهو يطلق حسرة وكأنه يبحث عن جواب، يسأله عن اسمه وعن المكان الذي يعمل،وعرف سلام إن سؤاله فيه من الجرأة التي لا يمكن الحصول على إجابة وافية في مثل هذا الوقت بالذات..حاول المحافظ إيجاد شيئ آخر يفتت فيه هذا المأزق الذي بثه السؤال في المكان.. فقال لرئيس الوزراء أنه صحفي جيد ومهني، ثم أردف مازحاً: وعلماني،وأطلق ضحكةً جعلت رئيس الوزراء يساير الأمر الجديد فلم يجد سلام بداً من الرد بهدوء من أنه علماني يعبد الله ولا يريد أن يكون الدين والدولة في ميزان واحد احتراماً لقدسية الدين وأهميته أمام المراوغة التي تحتاجها السياسة..فرد رئيس الوزراء من أن الوطن للجميع، للمتدين والعلماني وغير المسلم وحتى الكافر الذي علينا إقناعه انه يسير في الإتجاه الخاطئ..لكن سلاماً لم يترك السؤال فمازال جهاز التسجيل يلتقط الكلام المبثوث في الغرفة الواسعة والضاجة بحركة المسؤولين ورجال الدين وشيوخ العشائر..فقال إن ما يهمه أن يعرف الناس الاتهامات التي تتردد ضد الحكومة من إنها ضعيفة وإن الجهات الأخرى، سواء منها الجهات الدينية أو المعارضة أو الجماعات المسلحة أقوى منها..وقبل أن يجيب رئيس الوزراء الذي لم يجد فراغاً لكي يترك هذه الإجابة وقبل أن يؤكد إن الحرية مكفولة لأي شخص في العمل السياسي أو العمل الديني الحوزوي،، فان الحكومة توفر الحماية له وهي من مسؤوليتها ..هكذا كان يفكر رئيس الوزراء بالإجابة وأنقذه وأحرج سلام، رنين الهاتف النقال الذي كان صوته موسيقى لأغنية أم كلثوم.. الأطلال، فسارع بإرتباك شديد الى مد يده إلى جيب بنطلونه ليسكت الهاتف الذي جعل الجميع يصمت ويسمعون الأغنية، باحثين عن مصدرها الذي كان جيب سلام ..حينها لم ينتظر رئيس الوزراء اللحظات، فراح يسلم على وفد آخر من شيوخ العشائر دخل في اللحظة ذاتها التي تم فيها إسكات صوت جهاز الهاتف النقال..وصار بينه وبين رئيس الوزراء حشد منهم,, فأشار له المحافظ أن يؤجل السؤال الى حين..وهمس له:
– لم تجد إلا هذا السؤال..وأنت تعرف الواقع ؟
-10-
لم يشأ منتظر الذهاب الى أصدقائه..فكر بالذهاب الى مقهى شعبي عند مدخل المدينة الشرقي..كانت المنطقة ضاجة بحركة الناس..ثمة علوة لبيع الخضار تخرج منها سيارات حمل عديدة تنقل الفواكه والخضراوات الى الأحياء السكنية المتفرقة..أصحاب سيارات الكيا يتجمعون بعشوائية كلٌ منهم ينتظر أن يأتيه الدور لينقل الركاب، يدخنون ويتناقشون ويسبون ويطلقون الألفاظ التي تعبر عن جنونهم من واقعهم..عمال مساطر بوجوه شاحبة تبحث عن فرصة عملٍ تأتيه من أحدٍ يشيّد منزلاً أو عمارة..وجوههم متعبة وملابسهم رثة..ويرتدون نعلاً قديمة، ويمسكون بين أيديهم المعاول والمجارف والفؤوس، وبعضهم يضع بين ساقيه مطارق كبيرةٍ كعنوانٍ على العمل الثقيل وتهديم ما يراد تهديمه..الأرصفة احتلتها المقاهي والمطاعم وأصحاب المحال التجارية..لا شيء منظم في عرض البضاعة..منتظر تلهمه هذه المشاهد ويعدها حركةً ضاجة بالحياة وكثيرا ما كتب في التحقيقات والمقالات إن الأرصفة يجب أن يستغلها الباعة على أن يكون هناك مكان لمرور الناس، لأن شكلهم يعوض عن صورة موت الحياة جراء الحروب والإحتلال والإرهاب والتفجيرات، ويمنحهم فرصة الحصول على لقمة العيش. كانت الشمس اكتسحت المدينة وغطت الحرارة الأجساد وهي لم تزل في صباحها الباكر من الربع الأول من الأفق الشرقي..عبرَ الشارع ليمشي باتجاه وسط المدينة، وفي داخله حدس وتفكير كبيرين، من أن لا شيء مريح في هذا البلد..وأن عليه أن يتوكأ على تفكيرٍ آخر يكون منقذاً له..ولا يهم كيف هي الطريقة سواء كانت محبّبة للآخرين أو غير ذلك، لأن المهم هو أن يكون الحصاد مثمراً..كان يرى الناس وهي تتجه الى المراقد المقدسة لتؤدي طقوس الزيارات الدينية، وكأنهم يبحثون عن خلاصٍ من شيءٍ مدمر..يعتقد دوما إن الجميع لو حصلوا على فرصة الهرب من البلاد لهربوا..لكن المشكلة تكمن في أن لا أرض تستقبلهم إلا وفق أعذار تقنع تلك الدول.. ربما يرى الجميع يحبون البلد ولكن في كل واحدٍ منهم فكرة أن الحياة هنا لا تمنح الإستمرار وسط الحرب الأهلية التي تقتل الجميع على الاسم..قال مرة لسلام..لو تمكنت من فحص عقل كل واحد من العراقيين لوجدت إنهم جميعا يتحدثون عن فكرة الحصول على لجوء في دولة أوربية..وأنهم وهم منغمسون في الأحزاب فإن فكرة السفر تتملكهم..لذلك فهناك الكثير منهم في دول الجوار مثل تركيا.
ألتفت الى جهةٍ جاء منها الصوت ينادي باسمه..كان يعلق حقيبةً لها لون جلد النمر على ذراعه..يرتدي قميصاً أزرق بنصف ردن..فيما كانت ملامحه تشي بشيءٍ ما من البياض المخمور..كان صديقه الذي غادر البلد منذ عشر سنوات حين اشتد واقعه على مطاردة من قبل رجال الأمن في زمن النظام السابق..بحجة أن أحد أفراد عمومته له ارتباط بحزب الدعوة..فما كان منه إلا أن غادر الى الأردن ومنها قدم على الأمم المتحدة ليحصل على لجوء الى السويد بعد عامين من الانتظار..كان منتظر قد فتح ذهنه لصديقه ليحدثه عن العالم الاخر الذي يحلم بالوصول إليه، ويبحث عن وسيلة تكون هي الأسرع من كل الحجج التي حصل عليها اللاجئون.
***
راح منتظر يخيط أفكاره ليحصل على مبتغاه في كيفية استثمار كل شيء يؤدي الى الحصول على اللجوء.. فيما ظل سلام يبحث عن يقينية المعلومات التي هطلت عليه دفعةً واحدة..كان الإثنان مختلفين وهما يبحثان عن كينونة التصرف الذي يمهد لجنون المرحلة التي يعيشها الجميع..ربما يفكران بصوت عال، سيجدان أن الآخرين مثلهما تقاطعت أفكارهما إلى حد القطيعة..من المؤكد لسلام أن الوضع الجديد ترك فراغاً وعراكاً وعداوةً بين الناس ووصلت إلى ما بين الأهل والأقارب والأصدقاء..صارت المذهبية والصراع داخلها أيضا رأس الحربة التي يطعن فيها الناس بعضهم..ومن المؤكد لمنتظر أن المصالح الآن تتطلب الكثير من اللعب، سواء بأوراقٍ مكشوفةٍ أو بطرقٍ ملتوية..لا يهم، المهم أن تفوز في النهاية وأن تفلت بجلدك وتنجو، لأن لا أحد يقف معك، وصار الناس يهتفون لكل من يمنحهم القدرة على موت العقل..الإثنان كانا يتفقان على موضوعة واحدة وهي استغلال الدين من الجميع ، إن الأمر لم يتغير..سابقا ًكان الناس يقولون (رفيقي) للبعثيين الآن (مولاي ) للمسؤولين في الأحزاب الدينية العديدة..وكان منتظر يردد هتافاً كثيرا ما كان يردد في الأرجاء لثلاثين سنة ليكون ملائماً للمرحلة الحالية ( بالروح بالدم نفدي أيّ كائن كان).
منتظر أبهرته الحياة التي عاشها الصديق العائد الى مدينته في عودة قصيرة سرعان ما سيعود..قال له حين جلسا في أحد المقاهي التي تسبح في أمواج من دخان النارجيلات..الحياة هناك هي التي تعطيك دافعا للعمل والإبداع..هناك احترام لحقوق الإنسان بل الحيوانات أيضا ..هنا لا احترام..وأكد له إنه لن يبقى كثيرا..جاء ليزور أمه التي ترفض المغادرة معه ويعود الى زوجته التي ترفض المجيء الى العراق لأنه موبوء بالخوف والانفجارات والموت..الصديق الذي تذكر منتظر اسمه أخيرا وخجل أن يسأله عنه قال له:
– سليم..لم تتغير ملامحك هي ذاتها كأني أراك كما أنت منذ عشرين عاما.
– لكني أراك مثل شخص مهموم.. تحمل أثقالاً وهماً كمن يبحث عن مخرج.
– صدقت..لذا عليك أن تحكي لي كيف الطريق الى الخروج.
لم ينتظر سليم وقتاً آخر للحديث، فراح يتحدث عن الهدوء والجمال والحرية في البلاد الباردة البعيدة،فتح له مجسات الإنصات التي لم يعقب عليها منتظر كثيراً ولم يقاطعه..مبتدئا من لحظة خروجه من العراق باتجاه الأردن وبقائه في الساحة الهاشمية التي تغص بالعراقيين الذين يبحثون فرص عملٍ وهم ينتظرون فرج الأمم المتحدة..كان منتظر يفتح فاهه واضعاً يده على خده فيما ترك السيكارة مشتعلة بين أصابع يده الأخرى..يصغي بكل ما يمكن له الإصغاء..فقد دهمته فكرة كتابة تحقيقٍ أو قصةٍ خبريةٍ عن حال العراقيين الذين غادروا العراق قبل عام 2003 ومقارنتها مع العراقيين الذين غادروا العراق بسبب الإرهاب والصراعات السياسية..مثلما أرادها فرصةً لكي يعرف طرق الوصول الى الطرق الأقصر..كان سليم يحاول أن يبين ثقافته الأجنبية التي أتاحت له تعلم اللغة الاجنبية بطلاقةٍ، بعد أن كان واحداً من أفشل الطلبة في درس اللغة الإنكليزية وهو ما ذكره بها منتظر ليقول له..اللغة نتعلمها من الإنصهار بالمجتمع لا من فم مدرسٍ لا يعرف الحديث بالإنكليزية مع أي أجنبي.. إلتقط منتظر بعضاً مما يجول في خاطر سليم من حكايات عن العراقيين في الخارج..كان وجهه يطفح بالريبة من كل ما يصادفه..يتصور إنه يحسده عن حصوله على لجوء في السويد..كان يراه فيتصوره معتوهاً لا يلم إلا بمتناقضات الوضع بين ما هو واقع في البلد الجديد والواقع في البلد القديم..صاح منتظر على صاحب المقهى أن يأتي لهم بعلبتي ماء بارد..ويجدد جمر النارجيلة التي راح سليم يلتهمها، وهو يمسح العرق الذي يتصبب من رقبته معبراً بحركاتٍ من تعابير وجهه عن امتعاضه من هذا الجو.
قال له منتظر:
– هذا جوْنا ..كلّه تراب وغبار وشمس وحرارة وسخونة وجمر وكل ما هو غاضب على البشر..ليس مثل البلاد التي أنت فيها برد وخضرة ونقاء وبيئة صالحة.
ضحك سليم ثم وضع ساقاً على ساق وراح يعدل من تهدل قميصه الأخضر غير المرتب كأنه موديل دول الحرية..
قال منتظر:
– سليم..عليك الله..هل تفكر بالعودة الى العراق كما تصرحون دائماً من إن الغربة قاتلة والعراق يعيش معكم وتنتظرون الفرصة للعودة إليه.
اقترب سليم من أذن محدثه وهمس:
– لا تصدق بكل ما يقال..لا أحد يترك الحياة والحرية والجو الجميل والخضرة الدائمة والمال الذي نحصل عليه من اللجوء ليأتي الى بلد مسكون بالحرب والقتال.
ثم أخذ نفساً عميقاً من النارجيلة وعاد ليهمس في أذنه:
– العراقيون في الخارج يعدون العراق مقبرة لهم بعد موتهم..والبعض الآخر دفناهم هناك لأن لا أحد لهم هنا.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| كريم عبدالله : كلّما ناديتكِ تجرّحتْ حنجرتي.

مُذ أول هجرة إليكِ وأنا أفقدُ دموعي زخّةً إثرَ زخّة أيتُها القصيدة الخديجة الباهتة المشاعر …

| آمال عوّاد رضوان : حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟.

     مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *