عند قراءتي لمجموعة (مسوّدة للبياض) وجدت قسما منها ينضوي تحت شجرة (النص المفتوح ) حيث قرأت عن النص المفتوح ابتداءاً من كرستيفا الى آخر كتاب عراقي (النص المفتوح ) للدكتور عزيز الموسوي ، وحين تغوينا الكتابة بالخوض في هذا المضمار أرى أن واسطة المجموعة ضمن هذا المنحى ، مع اتفاقي بما يرى الناقد (علي الفواز) [إن مفهوم (النص المفتوح ) كنص وإجراء ، واحد من أكثر مفاهيم الكتابة إثارة للالتباس لأسباب معرفية وتعريفية ، فالنص المفتوح فضاء غربي له تعقيداته النظرية والنقدية وهذا ما أوقع الكثير من مبدعينا في إغواءاته ، وإن اغلب الكتابات التي نقرأها تحت مسمى النص المفتوح تعوزها الدقة والبنائية الواضحتين ، وتعوزها التقنيات التي تجعل منها قريبة من الإطار المفهومي والأجرائي للنص المفتوح..(جدل في النص المفتوح / كاظم حسوني/ مجلة الشبكة العراقية] لكني وجدت أن أضع هذا الجزء ضمن هذه الوشائج ، مبتدأ من الإهتمام بعتبات النص وفق سياق نظري وتحليلي عام ، يعتني بإبراز ما للعتبات من وظيفة في فهم خصوصية النص وتحديد جانب أساسي من مقاصده الدلالية ، وهو إهتمام نقدي أضحى مصدرا لصياغة أسئلة دقيقة تعيد الإعتبار للمحافل النصية المتنوعة الأنساق . فعتبات النص في الخطاب الإبداعي تعطينا مساحة للسؤال عن مقومات الخطاب الفكري ، فـ(جيرار جونيت) حدد العناوين كأولى العتبات في المنتج النصي ومادام العنوان عتبة ، فهو يمتلك لبنية ولدلالة لا تنفصل عن خصوصية العمل الأدبي ، حيث يتضمن العمل الأدبي بأكمله ، فهو إسما وقصدية تنفي معيار الأعتباطية في اختيار التسمية والمحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد انتاج نفسه ، حسب رأي محمد مفتاح في كتابه( دينامية النص) إذن عنوان (مسَوّدة للبياض) هو عبارة عن كمية ما يطرحه المُنتِجُ دون تشذيب ، أي اندلاق مفرداته عبر انفتاح مكابداته على مستوى البوح ، لكنها مؤجلة حتى يمر عليها مرّةً اخرى ليرى الملائم من القول أو لا يمر، لكي يضيء ما عتم من أيامه أو أحلامه ، لينشر فيها البياض وبما أن البياض يمثل حالة واضحة جريئة لا تشوبها شائبة ، إذن البياض هو الصدق في البوح ، والوضوح في القصد ، والنقاء الروحي الذي يروم طرحه للمتلقي ، والحقيقة الجلية التي يهبها فكره ويعتقد بأنها ستلامس أحاسيس ومشاعر القاريء ، فإن لم تعجبه أوضح القصد وبيّن المشوب على أن المُنتَج هو مُسوّدة ، وفيها ما فيها ، فلِمَ لا تشاركه التنقية ، إنه نهر جميل فيه ما يحمل الماء وليس كل مياه النهر تُشْرب ، لكن الله جعل منه الشيء حي ، خلف العنوان على غلاف المجموعة ، كائن يجثو بصفة الطاعة وهنا الطاعة لمن هو أكبر في حرمة التعبد والإحترام وتقديم الولاء لما يعتقد بأنه يستحق ، قد تكون أنت عزيزي المتلقي ، لطئطئة رأسه قد يكون خجلاً ليتركك تشاركه مسوّدة نصاعة لواعجه وطرحها أمامك ، بالرغم من أنها هو أو الآخر الذي يتصوره هو . ولأنه مطيع سيعطي كل شيء بلا منن وهذا هو الشاعر مهدي النهيري .
عودٌ على بدأ في العتبة الأولى العنوان يرتبط ارتباط كلي بالجزء الثاني من المجموعة ، وهو (سفنُ الإشارة) فالقاريء المفتوح يتلمس بأن هذا الجزء مع العنوان (نص مفتوح) وهذه النصوص الخاصة بـ (السفن ) مصداق لمرحلة مهمة في الشعر العربي ، قد تكون جديدة ، ومُعارَضَة من تجنيسها كنص مفتوح ، فالعنوان يحمل المفارقة مابين المُسَوّدة التي ارتبطت على نقيض الجملة لأنها خُلقتْ للبياض وكسرت مركزية الجملة العربية بتعاكس المعنى ، وتعاكس لوني على مستوى الكتابة ، فقد برع المصممُ المفتوح أيضا أو وِفّق لجماله الفطري بأن يرسم لون كلمةِ المسوّدة باللون الأبيض على مساحة السواد الصغيرة ، واللونَ الأسود لكلمة البياض على مساحة اللون الأبيض ، كي يبين الإنكسار الروحي في صورة الآدمي المنحني خلف ستارة من الرمل أو الموج ، فإذا كان خلف رمل كانت إنحنائته لأصالة نشأته وعظمة كينونته كإبنٍ لآدم الذي خلق من أديم الأرض ، عائدا بكل انكسارات الدنيا لمحدودية البقاء وهزيمته بالموت ، ثم تحوله إلى رميم ، وهو بعض ذرات عظام والده الأشقى ، وإن كان خلف ستارة موج فلقد أوْهنَ أشرعة ترحله غضبُ الموج وغضبُ الفراق ، فعيشه خلف شفافية الماء لن تستر جراحه ، وما وضعُ جسده إلا ليخفي جراحا ألمّتْ به ، أو تبتلاً في محراب الحياة التي استمدت ديمومتها من الماء . في كل الأحوال عتبة العنوان كانت كل النص الذي تحتويه .
وعندما أعود لنصوص (سفن الإشارة) وجمال وضعها موضع العقد من الجيد أو الواسطة من القلادة ، ليمسك القصائد الشعرية في جنس الشعر والسيرة التي هي ليست سيرة ذاتية كما هو متعارف عليها عند ربابنة أهل السِّيَر ، حيث انفتاح النصوص في هذا الجزء الوسطي من المجموعة ، ويتجسد الإنفتاح النصي بإتجاهين بارزين :
أولا: الإتجاه التأويلي (انفتاح المعنى الشعري ) وتعدد المعنى من خلال وجود فراغات وفجوات في المعنى أحَبَّ أن يشاركه المتلقي بملأها ، بما يتناسب مع ثقافته وتوجهه القرائي حيث أبقى نصوصه مفتوحة النهايات ، فمن (سفن الإشارة) وقد أهداها أعني هذه النصوص إلى ..أولا: الحياة ، بوصفها موضوعاً .. وثانياً :إلى الطريق بوصفها فهرس الراحلين . فعلى كل الراحلين المشاركة في إنتاج المعنى كون الحياة طريقا مفتوحا ، والراحلون سيسيرون وفق اتجاهاتٍ شتى على طريق نتشارك به بمختلف المقاصد والنوايا وبمنتجات أو مخرجات واحدة وهي أن نمتطي السبلَ لنعيش الحياة . فيقول النهيري :(كتبت إليكَ رسائلَ أكثر حتى من الحبر ، لكنهم أفزعوني بأنَّ الرسائلَ أحرقَها البعدُ ، صحتُ بأشلاء صوتي عليكَ لعلَّكَ تسمعني ، غير أنَّ الصدى عاد لي قائلاً يا كثير الجهات ..( لم يصل من صراخك حرفٌ) فلم تيأس الكلمات التي كُتِبَتْ والتي صُرختْ ، رحتُ أنقّشُ بعضَ الرسائلِ فوق الجدار الذي ستمرُّ عليه ، فقالوا الجدارُ تهدمَ …قلتُ ( سأبني جداراً من الكلمات ِ أخطُّ عليهِ حنيني بخطِّ أجلَّ ليقرأه) ففي هذا الجزء من النص كتب بمفارقة الكم على إنَّ الرسائل أكثر من الحبر ، إذا بمداد مَن كتبها وعلى أي قرطاسٍ دونها ، وهل كان متماهيا بحبه وصلبا حتّى خلق صبرا كبيرا ليتحمل الجفوة ، وقد اعدَّ لهذا الجفاء خيلاً مسومةً وفضاءاتٍ شرهةٍ تعطيه مساحة التنفس لما يقع على نفسه من ألم ، ومُروجا تلوّنُ له أو تخيطُ بياضاً يخرج من مسوّدةٍ مجترحة ؟ مع هذا بَيّن بل أوضح مقدار تعددية الجهات ، وهنا انفتاح التأويل ، على عُظمِ تشتته ، لأن الإجابةَ كانت (لم يصلْ من صراخِك حرفٌ) ليوعزَ للقاريء بان رسائله كانت صوتية ، بعد إن أعيته الرسائل التي فاقت الحبرَ عددا . ومن نص آخر .. قول النهيري [( هل تبللتَ بالدمعِ وهل أصابك شررٌ من قولي السالفِ نارا؟ هل أنت على ما يرام ؟ قف لحظةً أو دهرا معك وأعد شريط الذكرى ، ستراني ماثلاً في ضميرك منحنياً لا إنحناء الذليل ،إن انحنائي عن كونيَ فلاحا في حقل البقاء ، ازرع الغفوَ في العيون والعيونَ في المساءات ، وأربّي أياما فإن كبرت أطلقتها في الريح…) ويسترسل حتى ..أسكن في أردية الصوف على رغبتي بان أتحلى بأجواء سكنته السائحين وهم في أماكنهم …..) إلى نهاية المقصد الموضوع ، فاستوقفتني جملة (بأجواء سكنتُه السائحين وهم في أماكنهم )]. تحمل كمّاً من الجمال بانَّ السائحين لم يجوبوا تلك الأجواء ، وهي مفارقة معنوية في حركة من يتحركون في داخلنا وأجواء اختلاءنا .
فمن المسائلة إلى الخاتمة هناك فجوات يتوقف عندها القاريء المحب يسائل نفسه ويجيب وفق منلوج جميل لكي يعطي لنفسه نكهة القراءة واسترخاء التمتع بالجمال ، يحترف في لحظات الكتابة المعنوية لأنه بدأ يسدُّ الفراغات ، فيتعاطف تارة ، ويزدهي بنفسه بأنه يجلب الغنيمة تارة أخرى وهذا هو الإنفتاح التأويلي في النص المفتوح .
ثانياً: الإنفتاح الأجناسي .. هو انفتاح النص من حيث عدم تحديد جنسه ونوعه الأدبي ، نص لا رواية ولا قصة ولا نثر ولا شعر ، نص فحسب منفتح من حيث البناء الأجناسي النوعي ومشتمل على التداخل الأجناسي ، لنقرأ من ص102 حين يقول :
أن أُحَطّمَني الآنَ: أعنيةٌ أتمنى أحطُّ على لحنِها
أن أكاثرني الآنَ : أمنيةٌ أتغنى على كونِها
ان أجدِّد موتي الآنَ : مقبرةٌ ما أجلَّ ثرى دفنِها
وينهمر النصُّ حتى : … يا أنا المختفي في الرمال ..لم تجبني ولم تتجلَّ رحيماً ، ولم تتخذْ وطناً من يدي..ولم تعترف بالتواريخ نائمةً ، ستصحو على مقلتي ..
بدا لي من اللبثِ أني هنا // أقيمُ على وحدتي موطنا
أشيدُ الجهاتِ الكثيراتِ // بيتً لأسكنه ديدناً ديدنا
بدا لي هنا أنّ هذا الخلودَ // إلى الليل (لما يكن ممكنا)
ويتغرب في مسعاه الإنفتاحي ، ليوصل همّه لمن يشاركه متنقلا مابين النثر بقصّه وحكاياته المتنوعة فيصل إلى قول : [ تذكرت يوسفَ في مصرَ ، مصرُ إلتقتهُ على أرضها مرتين ، اشترته بدايتها بدراهم معدودة خادماً أو فتى لزليخا ، ولكن مصرَ رأت فيه من بعد ذلك قديسها فالتقت فيه ثانيةً طائعا قلبُها لإشاراتِ كفّيه فهو يشير إلى ، فتجلسُ شمسُ ويقول كذا فيطل نهار..الخ )] ومن هنا نلاحظ أن النص المفتوح محتوي أغلبية الأجناس الأدبية من نثر وشعر ، وتجربة النهيري مهدي هذه لم تأت عبر صدفة اللقاء ، أو إنثيال خواطر ، بل هو عمل على جنس بات معترك ، كمعترك حياته ، حيث تتداوله الأيام ، شاعرا مائزاً وصوت مشارك لآلام شعبه ، وفرع فراتي من نبع ثقافة لغوية آثرت بأفكارها ألا تتنازل عمّا تؤمن به عبر تاريخ اللغة العربية ، وغصن من شجرة فكرية أوجدت المجادلة والاختلاف بالرأي من أجل الوصول إلى الحق و الحقيقة عبر زمن ماثل بأعاظم العلماء المبرزين في التفقه والتشريع ، إنها مدينة عدنان الصائغ شعرا ، الكوفة الغناء تختلف الملائكة إليها ، حيث وزعته التعددية ليقول :
قسَمتني النزاعاتُ حتّى أنني // وُزْعت بين الناظرين شخوصا
حيناً أكون أنا ، وحيناً لا أكون// لذاك أحسِنُ أن أكون نصوصا
……..
عيّال الظالمي
29/10/2015