
الصباح برعم يتفتح ليعوض شجرة العمر عن ورقة أسقطتها رياح الأمس . وأنا أحب الصباح ، الهواء بارد منعش ، والدنيا نقية . غادرت الفندق ، فاستقبلني الشارع المغسول بالندى ــ الوزارة لا تستقبل مراجعيها إلا في الساعة العاشرة ــ ملأت رئتي بعطر فتاة مرت بجانبي ، وطمأنت نفسي : ( سيتذكرني ) المسافة ليست طويلة ، ولا قصيرة ، لم أستقل تاكسي ولم أفكر بسيارة الأنفار ، سرت على قدمي .. مرت سيارة عسكرية ، نفثت من مؤخرتها دخاناً أبيض واختفت ، أنا تسرحت من الجيش وذاهب الآن لإشغال وظيفة . سأقابل الشخص المسؤول عن رفضي أو قبولي . . في الزمن الممتد بين الفندق والوزارة نشطت الذاكرة .. في الصباح يطيب النوم في سطح الدار ، بعد ليلة نكون فيها وليمة ( للبق ) أكور جسمي دافعاً ركبتي في بطني وحاشراً رأسي في صدري . يصعد لي صوت أبي من جوف الحوش : (( تنزل لو أصعد أرميك من فوق )) . قبل أن ينفذ تهديده أكون قد نزلت ، تمرحضت ، وغسلت وجهي وجلست أمامه . أغمس كعكتين أو ثلاثاُ في الشاي . أفطر وأتوكل على الله . عند باب مركز الشرطة ، أفكر بالرجوع ، أتذكر أن العطلة ستنتهي ـــ أنا نجحت الى الصف الأول المتوسط ـــ والمدرسة حين تجىء تريد دفاتراً وأقلاماً وكتباً وملابس . فأسلم على الشرطي الحرس وأدخل .. أنا أخاف الشرطة ، مرة ضربت شرطياً بالكرة ، كنا نحن فريق الفتوة ، نلعب في شارعنا ، أمسك بالكرة وركض وراءنا فطرنا كالعصافير .. ويعيد (( الأسطة )) صاحب حكمته كما يفعل كل يوم : (( أنت لا ترى لا تسمع لا تتكلم )) . ويسألني : (( أنت ماذا ؟ )) فأجيب : (( أنا أعمى أصم أبكم )) ، ( والأسطة ) صاحب هو مستأجر مقهى المركز وأنا أعمل عنده . أحمل صينية الشاي ، يفتح لي شرطي باب السجن فأدخل . يستقبلني السجناء بالترحاب ، أسكب لهم الشاي ، وأجلس في الركن حتى ينتهوا . تهاجمني أسئلتهم : (( كيف هي الأحوال في الخارج ـــ أي فلم يعرض الآن في السينما ؟ هل السماوة حلوة ؟ هل هي كبيرة ؟ )) أتدرع بحكمة ( الأسطة ) صاحب ، أجمع الاستكانات الفارغة ، وأنصرف .. ذلك الصباح بعت الكثير من الشاي ، كان السجن مزدحماً بوجبة سجناء جدد جئ بهم من بغداد .. تقدم أحدهم نحوي ، كان وجهه جميلاً معافى ، وضع في كفي ربع دينار ، بحثت في جيبي عن باقٍ ٍ ، قال : (( خذه كله )) . بعد الغداء أدخلت صناديق الببسي . فتحت القناني وجلست في ركني كالعادة ، جلس ذلك السجين بجانبي ، سألني عن أسمي ، جلست حكمة ( الأسطة ) صاحب بيننا . هممت بألانصراف ، ناداني ( غافروش * ) خنقت حكمة ( الأسطة ) صاحب ، صحت : (( اسمي أحمد )) صفق : (( الحمد لله ، نطق )) ، انصرفت تلاحقني قهقهات السجناء .. على مر الأيام صار ذلك السجين صديقي ، كسر قيودي ، تحررت من حكمة ( الأسطة ) صاحب ، انطلق لساني ، تحدثت ، وتحدثت ، وتحدثت .. مرة طلب مني شفرات حلاقة قلت : (( ستقطع شريانك )) قال : (( حياتي ملك وطني ، لا يحق لي التصرف بها )) . تحايلت على السجان وجلبت له ما أراد ، فرح بذلك قال : (( لقد نجحت بالامتحان ، أتعرف صاحب مكتبة الوطن ؟ ــ حركت رأسي الى الأسفل ــ أذهب إليه سيعطيك بضع أوراق حاول أن تدخلها ألي )) .. لطمت أمي خديها : (( هؤلاء ضد الحكومة ، ونحن فقراء نريد أن نعيش )) قلت : (( أنا رجل وقد أعطيت وعد رجال )) وضعت أمي الأوراق على بطني وشدتها بالحزام ، لبست دشداشتي وخرجت . استحمت شمس الصباح في ( طاسة ) الماء التي رشتها أمي ورائي .. في باب السجن قال الشرطي الحارس : (( لا أسمح لك بالدخول . سيقوم المعاون بالتفتيش )) سكبت له شاياً (( تفضل أبو إسماعيل ، من رأس القوري )) .. وخزني في بطني مداعباً فاصفر وجهي ، فتح لي باب السجن .. كوَّن السجناء جداراً بيني وبين الشرطي . كنت أرتعش كطير بليل رفع صديقي دشداشتي وسحب الأوراق شعرت بالارتياح سكبت الشاي وجلست في ركني .. في استعلامات الوزارة جلست أنتظر مع المنتظرين ، دقت الساعة العاشرة ، ابتدأت المصاعد الكهربائية تعمل . اتجهت الى القسم الذي أريد ، أعطيت اسمي الى السكرتيرة وانتظرت . دخل قبلي بعض الشباب وخرجوا ثم دخلت .. أضيفت الى الوجه الجميل المعافى نظارة طبية ، وتأطر بفودين فضيين .. نظر في أوراقي : (( اسمك أحمد وأنت من السماوة )) قلت : (( أنا غافروش )) . رفع رأسه ، اتسعت العينان في زجاج النظارة وتبسم الوجه الجميل .. نهض اليَّ صافحني ، رفع النظارة : (( ما شاء الله ، اتفضل استرح )) سحب الستارة فاندلق ضوء الصباح ، جلست في ركن الأريكه .. ابتسم لي ، ضغطت زر الجرس وطلب الشاي .
هامش
ــــــــــــ
* غافروش : أحد شخوص رواية البؤساء لفكتور هيجو
دائما ما تمتاز واقعية السرد الذي يكتبه حامد فاضل بفجئة الهدف الادبي المراد ايصاله الى ذهن المتلقي وبالرغم من ان القصة كتبت منذ سنوات في مجموعته حكايات بيدبا لكننا نراها متميزة بلغتها الموجزة المنسابة مع الحدث الواقعي بكل تفاصيلهِ . ونهايته التي افصحت عن تداول الايام في لحظة من اللحظات .
عندما نقرأ القصة من اي كاتب كان نحكم عليها انها قصة لكننا عندما نقرأ لحامد فاضل قصة لا يتبادر لنا ان نحكم عليها الا ادباً صرفاً فيه من النقد الاجتماعي والسياسي والواقعية المختزلة بجمالية اللسان وكلما قرأت للاديب حامد فاضل قصة تبادر لي انه اسلوبه وخاصة في ايصال الهدف مستوحى من اسلوب القص القرآني .
عندما نقرأ القصة من اي كاتب كان . سنحكم عليها انها قصة لكننا عندما نقرأ لحامد فاضل قصة لا يتبادر لنا ان نحكم عليها الا ادباً صرفاً فيه من النقد الاجتماعي والسياسي والواقعية المختزلة بجمالية اللسان وكلما قرأت للاديب حامد فاضل قصة تبادر لي ان اسلوبه وخاصة في ايصال الهدف مستوحى من اسلوب القص القرآني .