إشارة:
مرّت الذكرى التاسعة عشرة لرحيل شاعر العرب الأكبر المُعجز محمد مهدي الجواهري يتيمة إلّا من لقطات صغيرة هنا وهناك. وقد تكون هذه هي الخطوة الأولى على طريق النسيان التام وفق ستراتيجية الحياة في هذه البلاد التي تأكل أبناءها. تتشرّف أسرة موقع الناقد العراقي بنشر هذا الملف عن الراحل الكبير متمنية على الأحبة الكتّاب والقرّاء إغناءه بالدراسات والبحوث والمخطوطات والصور والوثائق.
المقالة :
كثيرون سألوا الجواهري العملاق، وكثيرون سألوني، أنا الصحفي، ثلاثيني العمر كيف نمتْ بينكما معرفة ثم صداقة عميقة، وفارق السن بينكما كبير .. الجواهري كان يحيل الجواب إلى ابنه صديقي الرائع (فرات) أبا محسّد، الذي ما كاد يفارق والده الجواهري طيلة مكوثه ببغداد في سبعينيات القرن الماضي، فعند ذلك يتعرف المتسائلون وهم كثر على الجواب …. والحال نفسه يحدث معي حيث كان ( فرات) مهندساً رائعاً في إجابته … فيريح والده، كنز الشعر، وخاتم الشعراء ، كما يريح صديقه من تكرار الجواب على سؤال مكرر ومستفز!
والذي يعرفون علاقتي بـ (فرات) وكيف كان يجمعنا صديق الأدباء والإعلاميين ( ليث الكبيسي ) يومياً أو أسبوعياً مع أصدقاء أحبة أمثال الأعزاء : الرياضي اللامع مؤيد البدري وفيصل الياسري ووفاء الصفار ومقداد مراد ورشدي عبد الصاحب وشمعون متي وطيف المدرس وشاكر حامد وعصام فاهم جواد وفيصل جواد كاظم وغيرهم من الزملاء… يدركون عمق المحبة ووشائجها التي جمعتني مع ( فرات) ثم مهدت الطريق لأكون ملتصقاً بالجواهري ، مثلما الجواهري ملتصق بابنه فرات .. ألم نكن : فرات وأنا شخصان في نبض واحد ، كنا نحس بأن الإطلالة أكثر جمالاً والأشجار أكثر اخضراراً والألوان أكثر نقاءً .
الجواهري وبغداد السبعينيات
لقد كتبت قبل سنوات حلقات صحفية طويلة نشرت بعنوان (شخوص في ذاكرتي) شملت انطباعات معاشة مع رجالات كبار أمثال محمد حسنين هيكل وأنيس منصور ونجيب محفوظ وعبد الوهاب البياتي وحميد سعيد وغيرهم ، لكن تبقى شخصية وشاعرية الجواهري على قمة هرم من عايشتهم ولامستهم في حياتي المهنية وأعود بذاكرتي إلى أعوام سبعينيات القرن الماضي حيث توطدت معه صداقة تلميذ لأستاذ من خلال نجله صديقي (فرات) إثر وصوله بغداد بعد اغتراب دام سنوات … وقبل هذه الأعوام كان شعر الجواهري يملأ أذناي طرباً ، وأنا في أول عهد الصبا أستمع إليه من خلال مدرس اللغة العربية أبو أكثم (حسن العلوي) زميلي في الصحافة لاحقاً ، حيث كنتُ من طلابه المعروفين في دروس الإنشاء والخطابة في متوسطة “الثورة” في كرخ بغداد مقابل المتحف العراقي في أوائل الستينيات !
كان الجواهري يصطحب ابنه فرات في معظم مشاويره وتنقلاته وسهراته ومع فرات لابد أن أكون ، وهكذا كان الجواهري يشعر بالسعادة وهو يرانا سوية .. ولن أنسى قوله لفرات مرة ونحن نتوجه إلى قاعة (الخلد) ببغداد حيث كان مدعواً : ( إن زيداً وفي لك، فقابل هذا الوفاء بوفاء أوسع ) وكان فرات عند حسن الظن ..
وبرغم المسافة القصيرة من بيته في حي القادسية في بغداد وقاعة الخلد ، تحدث إليّ الجواهري بصوته الرخيم عن حبه الكبير لأم فرات ، فيما أطرق (فرات) برأسه خجلاً ممتزجاً بضحكة فرح مكتومة !.. فقال منشداً في السيارة أبياتاً في حب أم فرات ..
حبيبتي منذ كان الحب في سحر حلو النسائم حتى عقه الشفق
ومذ تلاقى جناحانا على فنن منه إلى العالم المسحور تنطلق
نصون عهد ضميرنا وبينهما نجوى بها همسات الروح تسترق
يا حلوة المجتلى والنفس غائمة والأمر مختلط والجود مختنق
ضيف على ” مدينته “!
في صباح يوم الأربعاء الأول من تشرين الأول عام 1975 هاتفني فرد عزيز عليّ في عائلة الجواهري مبلغاً اياي ، أن الجواهري سيكون ضيفاً على جمعية الرابطة الأدبية في النجف بمناسبة منح الجواهري جائزة اللوتس مختتماً هاتفه بدعوتي لحضور هذه الاحتفالية !
وكنت حينئذ مشرفاً على الصفحة الأخيرة بجريدة (الثورة) العراقية ، وبرغم مشاغل العمل اليومية التي يعرفها الصحفيون تركت كل شيء جانباً مفضلاً مصاحبة الجواهري بعد ان تركتُ ورقة اعتذار لرئيس التحرير طارق عزيز .. وفي اليوم التالي كنا في المدينة المقدسة كانت جلستي على بعد أمتار من الجواهري .. وأثناء توجه شاعرنا الكبير إلى المنصة ليقرأ مختارات من شعره وسط آلاف من المعجبين بشعره حتى دوت عاصفة شديدة من التصفيق لازال رنينها يعيش في مسامعي .. فلما خفّ التصفيق ، ثم انقطع ليسمح الحضور لأنفسهم بالاستمتاع بصوت الجواهري الرخيم العذب .. قال الجواهري بعد أن حيا الحضور بكلمات قليلة : يحضرني الآن ارتجالياً بيتان .. وهذا ما قاله :
مقامي بينكم شكر ويومي عندكم دهر
سيصلح منكم العذر إذ لم يصلح الشعر
القصيدة الأكثر .. قرباً !!
قليل من الناس من يعرف أن الجواهري برغم مئات من القصائد وهي من فحول الشعر كان يحب قصيدته (أزح عن صدرك الزبدا) حيث كانت عنده الأكثر إيثاراً ومحبة .. وقد نشرها في عدة صور كما فهمت بعد ذلك من نجله الصديق (فرات) .. حتى اكتملت فنشرها في مجلة الديار اللبنانية في عددها 128 بالعنوان نفسه .. وقد قالت المجلة عن هذه القصيدة : (في هذه القصيدة نرى الشاعر ينتقد عصره المليء بالزيف والخداع وهو يسمو بنفسه متعالياً بكبرياء الشاعر ناهيك بكبرياء مهدي الجواهري إنها ضرب من الطموح إلى تجاوز النفس والآخرين في محاولة اختراق للمستحيل).
وإنا أدعو الجميع إلى قراءة هذه القصيدة ليرى كم أن الجواهري يعرف الأيام القابلات وهي منشورة في الجزء السادس من ديوان الجواهري …
مباهج الجواهري
ليس شيئاً غريباً القول أن الجواهري كان يلتذ بمباهج الحياة وكان يستمتع بالجمال إلى حد كبير .. وها هي الذاكرة تعود بي إلى العام 1986 واجد نفسي في أحد شوارع براغ سائلاً عن مقهى اعرف أن الجواهري كان من رواده .. عندما وجدت المكان كان مشرباً (حانة) تاريخية بديعة في زخارفها، رصفت فضاءاتها بالكراسي ذات القماش الداكن … لم يكن مقهى … هناك وجدت الجواهري محاطاً بمجموعة من الحسناوات … اسم الحانة (فيولا)..
لم اقحم نفسي بالسلام على الجواهري فجلست في مكان لم يرني فيه …
تأملته .. كان مثل طفل مدله بين يدي هاتيك الحسناوات … ولم انس منظر تلك الفتاة الجميلة ذات السن الذي لا يتجاوز الخامسة عشر من العمر وهي تقبل بغنج ( طاقية ) الجواهري المعروفة وتتبعها بدغدغة خده…
كان الجواهري … احد معالم براغ ولا تستقبل أديباً عربياً أو عالمياً إلا وقام بزيارته في هذا المكان أو غيره …
وللجواهري قصيدة قليلة التداول في حب الجمال وحب الحياة جاءته من وحي أجواء براغ يقول فيها :
لحاجك في الحب لا يجمل وانت ابن (سبعين) لو تعقل
تقضى الشباب وودعته ورحت على اثره ترقل
مضى منك فيه ربيع الحياة ومات نصفك الأفضل
بكفيك واريته لحده وظلت على (لحده) تعول
وعن القصيدة أعلاه قال لي الجواهري وأنا أسأله بخجل حقيقي عنها :
يازيد ، نبع الحب نبع من العاطفة والعاطفة حاكمة لا محكومة تسيطر ولا تقاوم والحب لا يعرف عقلاً ولا معقولاً والغزل وليد الحب فلا سبيل إلى اصطناعه..
فأسكتني ، لكنه شمخ أمامي أكثر فالشعر والحب عند الجواهري : طبع، ودافع، وإرادة، وجهد، وصناعة.
مرة أخرى يمر الجواهري ، شاعرنا الكبير على خاطري وهو في نومه الأبدي أراه يحدثني وأحدثه، يجيء إليَّ صوته نغماً في نبرة حزينة، ضاحكة لم تسمع أذناي مثلها .. أبداً .. أبداً إلا منه.
إن مرور الجواهري على خاطري في ذلك الزخم الهائل والألق المتقد، كان اعتيادياً فالجواهري هو رفيق ذهني وهوى كياني .. وعندما أختلي مع نفسي، أسكن مع ذاتي، أدردش معها، أحاكيها، أتلمس أعذارها في موقف ما، وأشكرها على موقف شجاع بدر منها فليس للإنسان أحلى من وقت يقضيه معتمداً على الذكريات، ويحاسب الحاضر مستنداً إلى الطوارئ، ويراقب بواعث المستقبل مسترشداً بالدلائل!
أعود إلى الجواهري، ضيفي الذي تتكرر زياراته ويتكرر الشوق إليه. وعند كل ضيق، فإن صدري يهفو إلى دواوينه، لينشرح ويعاد الصفاء إليه.
واسمعوا هذه الحكمة المستخلصة من إجابة عابرة للجواهري عن ما يميز المتنبي عن شعراء جيل العمالقة ؟ فماذا قال الجواهريً : ( كتب المتنبي شعراً في مختلف الأغراض التي فيها شعراء قبله، لكنه لم يأت بجديد في الموضوع والشكل والطريقة والشكل ، أما الوزن فما زال مقتطعاً من بحور الفراهيدي والقافية من سنن سابقيه .. غير أن شيئاً جديداً، غريباً، يشبه وثبة الخمر ساعة يحتدم أوارها في الدم تلمسها في شعر المتنبي .. لقد زاد في شعر المدح والهجاء والرثاء والغزل، زيادة لم يكن همه ملتفتاً على الشكل والأغراض زيادة تبين الفرق بين الحصاة والنجمة .. وبين البشري والإلهي! إنها باختصار : المفاجأة – الغرابة – الدهشة – الغيب).
هكذا هي العظمة .. تبدأ من أشياء صغيرة، ثم تتوزع حكماً تتناقلها الأجيال!
وأخيراً … لقد عرف الشعراء منذ العصر الجاهلي نظام (التملذة) ورأينا الشاعر منهم يلزم الآخر زمناً طويلاً يروي شعره ويتعلم منه قوانين النظم وأصول الصنعة الشعرية. إلا الجواهري فكان موهوباً بالفطرة . موهوباً بشيء أجهل وصفه.
ذهب الجواهري إلى ربه في عام 1997 لكنه مازال حياً ينبض بأفراحه وأحزانه ووساوس نفسه .. كان الجواهري شاعر القرن العشرين ومازال مكانه على مر السنين خالياً لم يصل ذروته بعد شاعر .
مبادرة رائعة في تجذير قيم الوفاء لرموز الادب في كل صنوفه .. آمل ان تتكرر في ابواب ومنابر اخرى ، لاسيما في المؤسسات الحكومية ذات التوجه الثقافي والاعلامي … شكرا ,
مرحبا بالعملاقين شاعر العرب الاكبر الجواهري التهر الثالث للعراق وزيد الحلي واحد من اهم اساطين الصحافة العراقيةوحافظ تاريخها وبيد مغاليق اسرارها