رسول بلاوي : توظيف الموتيف في شعر يحيى السماوي (ملف/27)

rasol-balawi-3إشارة :
يوما بعد آخر، تتراكم المقالات والدراسات والكتب والأطاريح الجامعية عن المنجز الشعري الفذّ للشاعر العراقي الكبير “يحيى السماوي”. وقد ارتأت أسرة موقع الناقد العراقي أن تعمل على تقديم ملف ضخم عن منجز هذا المبدع الذي حمل قضيته؛ وطنه؛ العراق الجريح، في قلبه وعلى أجنحة شعره الملتهبة لأكثر من خمسين عاماً كانت محمّلة بالمرارات والخسارات الجسيمة التي اختار علاجا لها الكيّ الشعري الفريد والمُحبّب عبر أكثر من 20 مجموعة شعرية. تدعو أسرة الموقع الأحبة النقّاد والقراء إلى المساهمة في هذا الملف وإثرائه بما لديهم من مقالات ودراسات وكتب وصور ووثائق. تحية للمبدع الكبير يحيى السماوي.
المقالة :
رسالة مقدّمة لنيل درجة الدكتوراهجامعة الفردوسي مشهد
الباب الثاني: المفردات / الفصل الأول: المعجم اللغوي
المعجم اللغوي هو قاموس الشاعر، و الذي يتکوّن من خلال ثقافته و بيئته و مناخه الذي عايشه، و عليه فليس المعجم اللغوي متکرراً عند الشعراء بالصيغة نفسها، و لکنه أداة الشاعر الخاصة، و التي تعد معياراً من معايير تمييز شاعر عن شاعرٍ ما و يعد المعجم اللغوي من أهم الخواص الأسلوبية التي علی أساسها يمکن الحکم علی شاعر، و تبيان ملامحه الخاصة.
إنّ المعجم اللغوي كما يقول الدكتورطه وادي في كتابه “جماليات القصيدة المعاصرة”: «المادة الأساسية المشكّلة لوجودنا الثقافي والحضاري، وبالضرورة هي الأساس أيضاً في عملية الإبداع الفنّي، لذلك فإن لكلّ أديب طريقة خاصة في استخدام الكلمة وتركيب الجملة. إن الأديب لا يركّب الجملة ليعبّر بها عن معنى تقريري مألوف. وإنما يتعامل مع اللغة بطريقة تفجّر فيها خواص التعبير الأدبي، وتجعل للعبارات والأنساق والجمل قوّة، تتعدّى الدلالة المباشرة، وتنقل الأصل إلى المجاز، لتفي بحاجة الفنّ في التعبير و التصوير» (1989م:25). ويتابع قائلاً: «يجب أن ندرك أن التركيب “التشكيل” اللغوي هو المادة الحقيقية المشكِّلة لفنّ الأدب، لهذا ينبغي بذل جهد كبير في التعرف على كيفية استخدام الأديب للغة» (المصدر نفسه).
نستخلص من قول الدكتور طه وادي: أن الشعر يتميَّز بتشكيله اللّغوي الخاص، الذي يرقى به عن مستوى الكلام العادي. فما يشدّنا إلى اللغة الشعرية ـ كما يقول الدكتور خالد سليكي: “ليس مضمونها بل لغتها” (1994م: ص395) أي تراكيبها الخاصّة، التي من خلالها تستمدّ شعريتها، لأن الشعر لا يحطّم اللغة العادية إلا ليعيد بناءها، وهو بذلك يخرق القواعد اللغوية من أجل بناء الشعرية. yahia 18
إن الشاعر حين يتناول الألفاظ يبدأ بتهشيمها و تحطيمها، ثم يذروها في أعماقه، ليحرقها حرقاً مساوياً لتجربته الانفعالية، ليخلق مخلوقاً جديداً له سماته الخاصة. و طبقاً لهذا التصوّر، فإن الشعر لا يحطم اللغة الإعتيادية إلا ليعيد بنيتها علی مستوی أعلی، يتشکل فيه نمط جديد من الدلالة تقول لنا ما لا تقوله اللغة بشکل طبيعي؛ إذ «ان استخدام الکلمات بأوضاعها القاموسية المتجمدة لا ينتج الشعرية، بل ينتجها الخروج بالکلمات عن طبيعتها الراسخة الی طبيعة جديدة. و هذا الخروج هو خلق فجوة: مسافة التوتر، خلق للمسافة بين اللغة المترسبة و بين اللغة المبتکرة في مکوناتها الأولية و في بُناها الترکيبية و في صورها الشعرية» (ابو ديب، 1987م: 38). بمعنی آخر ان اللغة الشعرية هي موت اللغة و انبعاثها من جديد علی يد الشاعر. و علی هذا الأساس، يکون الشاعر مخترع لغة، و إنما المقصود بذلک ان اللغة توظّف في الشعر علی نحو خاص ليصبح موضوعاً لغوياً خاصاً. فالخصوصية اللغوية للشعر تبني أسس قيامها علی التجربة الداخلية التي تنحرف عن قانون اللغة العام الذي يقوم علی التجربة الخارجية / الإشارية (جعفر، 1998م: 124و 125).
فالنصوص الأدبية تعتمد علی قواعد لغوية خاصة، وهذه القواعد هي التي تحدد المواضيع في الأعمال الأدبية «فالموضوع هو مجموعة للمفردات التي تنتمي إلی عائلة لغوية واحدة» (حسن، 1983: 32و33). و المقصود هنا بالعائلة اللغوية هو الحقل الدلالي و هو بالطبع يختلف عن المعجم، فالمعجم بمفهومه اللغوي يعني تردداً لغوياً لمفردة بعينها (موت – موت) مثلاً. أما الحقل الدلالي: ورود کل الکلمات التي تدل علی معنی محدّد لمفردة کالموت مثلاً (قبر – کفن – وحشة – قفر – صمت – نهاية) و الحقل الدلالي يکشف لنا عن الظواهر الکلية للنص و يحدد المواضيع التي يدور حولها الأديب.
تجربة کل شاعر تزخر بألفاظ کثیرة تعکس جانبا قویاً من شخصیته و نمط حیاته، فلغة النص تؤدی وظیفة نقل المعنی، و التأثیر فی المتلقي، و هذا یؤکّد أهمیة اللفظة و تأثیرها فی نقل التفاعل النفسي و الشخصي؛ إذ إن اللفظ هو وسیلتنا الوحیدة الی إدراک القیم الشعوریة فی العمل الأدبي، و هو الأداة الوحیدة المهیأة للأدیب لینقل الینا من خلالها تجاربه الشعریة، و هو لا یؤدي هاتین المهمتین إلا حین یقع التطابق بینه و بین الحالة الشعوریة التی یصورها.
يتصل المعجم الشعري علی وجه عام بلغة العصور جميعاً، غير ان الشاعر «ينتمي أسلوبه الخاص لذوقه و مزاجه» (درو، 1964م: 339)، فضلاً عن تأثره بالتطورات الحضارية، و تحصيله المکتسب. فحين تختطف التجربة الذاتية رؤية الشاعر، و تتجه به لتصوير الإحساسات و الانفعالات و المشاعر المضطربة، تنبثق طائفة لفظية ذات دوال شعورية، مرددة أصداء النفس من خلال البنية اللغوية التصويرية الإيقاعية مجتمعة، لتمتد علی جسد القصيدة حيناً، و تمتزج بشبکة ألفاظ تقليدية / موروثة، و ألفاظ سهلة متداولة في حياتنا في أحايين أخری.
تتنوع مفردات الأديب، حسب عمق رؤيته و إتساع معجمه، فالثروة اللفظية للأديب تکشف عن حجم ما يعرفه الأديب من ألفاظ، و تکشف – في الوقت ذاته – عن حجم ما يستخدمه من هذه الألفاظ في صياغة نصوصه. و عند الکشف عن المستخدم من هذه الألفاظ، فإننا نستطيع معرفة کيفية تصرف هذا الأديب في ثروته اللفظية، و بالتالي نستطيع التمييز، و المقارنة بين نص و نص آخر علی أساس السمات الأسلوبية للنص المراد عن الآخر (حبيب، 1999م: 90).
إن شيوع ألفاظ معينة، في قصائد شاعرٍ ما، يومي الی ان حالة نفسية تتراکم عليها شبکة لفظية ذات دلالات معنوية و نفسية تعبّر عن تلک الحالة المستشعرة التي تهيمن علی کيان الشاعر. و تلک الشبکة التي ترفد القصيدة بالأسس الدلالية تنمو و تتکثف داخل أطر تصويرية مشکلة مادة رئيسية في بنية الصورة الشعرية. و الحق ان إلحاح تلک الألفاظ و انتزاعها من رکام ضخم، لا يضغط اعتباطاً و إنما يجيء ضغطه حاملا معه وشائج الارتباط الوثيق بوجدان الشاعر لخلق حالة معادلة، أو ما يقرب من ذلک، لانتزاع القيمة الشعورية و تحويلها الی قيمة تعبيرية تصطف مع نزوع الحالة المسکونة. و لذلک يبدو من الصعب إحلال البدائل مهما اقترب البديل من الدلالة، لارتباط اللفظ بالنسق الذي يوالف العلاقات القائمة بين الوحدات اللغوية (المصدر السابق: 129و 130).
و لا شک ان الألفاظ تکتسب أهميتها و دلالالتها من خلال السياق الذي ترد فيه. بمعنی آخر ان الألفاظ لا تشکل في بساطتها، أو ما تحمل من إرث، أو إنحدار الی العامية، أية قيمة، إلا إذا خضعت للإنفعال و حرکته و احتضان وجدان الشاعر لها. و بهذا تکون الألفاظ ذات قيمة جديدة. يقول رتشاردز، في القرن العشرين، في کتابه (فلسفة البلاغة): «ان النغمة الواحدة في أية قطعة موسيقية لا تستمد شخصيتها، و لا خاصيتها المميزة إلا من النغمات المجاورة لها. و ان اللون الذي نراه أمامنا في أية لوحة فنية لا يکتسب صفته إلا من الألوان الأخری التي صاحبته و ظهرت معه… کذلک الحال في الألفاظ». (العشماوي، 1979م: 128)؛ وطبقاً لهذه القيمة الجديدة، فإن السياق يؤدي دوراً کبيراً في توظيف اللغة نفسياً، و موضوعياً، و فنياً. و هذا التوظيف يرتبط إرتباطاً وثيقاً بموقف الشاعر من الحياة، و مدی رؤيته لها، و التعلق بمفرداتها و إيقاعاتها علی وجدان الشاعر. و من هذا الموقف بإزاء الحياة ينطبع الموضوع الشعري، مثلما تنطبع لغته الشعرية. و لذلک فإن ما تهمنا دراسته و تحليله هو إستخدام المفردات المکررّة باعتبارها موتيفاً علی وفق السياق الذي ترد فيه. kh-yahia-13
الحقول الدلالية و السياق
تدفع التجربة الشعرية المبدع الی التفاعل مع اللغة بکيفية خاصة، تتيح له إمکان الإفضاء بتحويل مفرداتها الی أدوات مطواعة، تتشکل وفقاً لهذه التجربة، و يعمد المبدع الی إفراغ مفرداته – جزئياً أو کلياً – من معانيها المعجمية المحددة، لتحمل دلالات جديدة.
لأن اللغة الشعرية لغة إيحائية تحفل کثيراً بالکلمات الثرية ذات الدلالات المتنوعة، ليست لأنها کلمات خاصة تصلح لأن تکون شعرية، فليس ثمة کلمات شعرية و أخری غير شعرية في طبيعتها المعجمية، و إنما تکتسب هذه الصفة من خلال استخدام المبدع لها استخداماً خاصاً يضفي عليها جمالاً و يسمها بالشعرية (کندي، 2003م: 51).
فالکلمات، من حيث هي علامات دالة، تنزاح، بالاستعمال، عن مدلولها الذي وضعت له، و الذي هو أساساً، أي هذا المدلول، الموجودات الطبيعية و المادية. و کأن کلمة “حمامة” تنزاح عن مدلولها الذي وضعت له، و الذي هو الموجود الطبيعي، الحمامة، لتدلّ، مثلاً، علی السلام، أو لتصير رمزاً له. کما يمکن أن تنزاح کلمة “خبز” عن مدلولها، لتدل علی الشعور بالجوع، أو بالشبع، حسب نبرة المتکلم و سياق کلامه. فالکلمة تنهل معناها من السياق الذي ترتبط به.
و لا نستطيع في معظم الأحيان تحديد معنی الکلمة إلا ضمن سياقها النصي لأن الکلمات مشحونة بالمعنی داخل النصوص. ويری أصحاب نظرية المجال الدلالي أن الکلمة لا معنی لها بمفردها، فالسياق التي ترد فيه هذه الکلمة و الحقل الدلالي لها يکشفان عن المعنی المراد داخل النص و الحقل الدلالي لکلمةٍ ما هو «ما تمثله کل الکلمات التي لها علاقة ما بتلک الکلمة سواء کانت علاقة ترادف أم تقابل الجزء من الکل أو الکل من الجزء» (المسدی، 1977م: 150).
فالمفردة تستمد جزءاً آخر من دلالتها من علاقتها الشبکية النظامية مع مجموع المفردات الأخری التي تشکل معها حقلاً أو مجالاً دلالياً؛ فکلمة “شاب” تستمد جزءاً من معناها من علاقتها التقابلية مع کلمات مثل طفل، فتی، کهل، … إلخ. و من ذلک کله يتکون الحقل أو المجال الدلالي من «مجموعة من المعاني أو الکلمات المتقاربة التي تتميز بوجود عناصر أو ملامح دلالية مشترکة» (حسام الدين، 1985م:294)، کأن يتشکل حقل اللون و الأماکن، و الزراعة و السفر و غيرها من الحقول.
تمتاز قصائد الشاعر العراقي يحيى السماوي باكتنازها الجمالي و تحفيزها الدلالي؛ من خلال أسلوبه الفني في تنسيق الكلمات؛ فلا شك أن الكلمات تكتسب معانيها الجديدة من السياق النصي الذي توضع فيه؛ و تكمن قيمتها في تضافرها مع ما يسبقها و ما يتلوها من عناصر التركيب؛ و كلما كانت هذه العناصر متواشجة / متفاعلة نسقياً حلقت في فضاء الشعرية؛ و فجرت ينابيع الإثارة و الإدهاش و التحفيز في بؤرتها الدلالية؛ و تمظهراتها اللغوية ضمن النسق الشعري.
إن الكلمة تشكل اللبنة الأولى في التشكيل النصي الأدبي؛ وكلما كانت الكلمة منسجمة متآلفة متضافرة في سياقها استطاعت أن تحقق الجملة الشعرية وظيفتها الأدبية؛ و إيحاءاتها الفنية الكاشفة؛ تقول الناقدة خلود ترمانيني : « تعد الكلمة أساس الشعر؛ و لكنها ليست كل شيء فيه؛ فهي تتفاعل مع المعنى و الموسيقا لتنتج في النهاية عملاً شعرياً متكاملا. و الشاعر حين يجلس في ظلال الكلمات يستمد من فيء قوتها ما يغني تجربته و يعطيها تدفقاً و ثراءً. فهو يريد أن يعكس ما يدور في خلده من أفكار، و في داخله من عواطف و انفعالات؛ لذلك فهو ينتقي من الكلمات ما يناسب حاله و يؤثر في غيره مراعياً في ذلك حسن إيراد الكلمات وفق ترتيب منسق يقوم على الاستفادة من خصائص أصوات الكلمات، و تنوع حروفها، و تباين دلالتها؛ فالكلمات ليست رموزاً كتابية أو أحرفاً متلاصقة صماء بل هي شحنات عاطفية فاعلة؛ تنتقل من الشاعر إلى المتلقي لا لتصف حاله فحسب بل لتعتصر من روحه ما تصبه في أرواح المستمعين؛ و على هذا الأساس يمتاح الشاعر من طاقات الكلمة الصوتية و الدلالية ليبدع من خلالها أجمل الألحان و يصور أروع الصور فينتج أعظم القصائد؛ و هذا يعني أن في الكلمة عنصرين هما: الصوت و المعنى؛ و الربط بينهما يبدو صعباً للغاية؛ لأن وضع الكلمة نفسها في سياق جديد يعني اكتشاف معنى جديد يتجاوز الصورة المعجمية إلى الصورة السياقية بكل ما تحمله من إيحاءات جديدة و إيقاعات صوتية يشي بها السياق الجديد» (2004م: 69).
لقد امتازت قصائد يحيى السماوي بجمالية اختيار الكلمة لتكون في موضعها المناسب لها؛ فالقصائد – لديه – ليست عشوائية أو اعتباطية الرؤية أو التشكيل؛ وإنما هي مهندسة منسجمة؛ منسقة في موضعها الملائم لها؛ وهذه الخصيصة هي التي تجعله الشاعر الجمالي أو لنقل الشاعر الفنان القادر على إصابة الهدف الشعري من وراء اختيار الكلمة في السياق الذي ترد فيه، لذلك فالشاعر المبدع هو القادر على الإحساس بأهمية الكلمة ورصفها في مكانها الملائم في التركيب؛ والنص بوصفه مؤلفاً من مجموعة من الكلمات والجمل والحروف، فإن اختيار الشاعر لموضع الكلمة المثيرة في التركيب، هو الذي يجعل نصوصه عالية المستوى؛ قادرة على استقطاب القراء بأسلوبها الجمالي، وحنكتها التصويرية، وملمحها العاطفي المثير(شرتح (آ)، 2011م: 41).
فالشاعر الجيد لا يصنع الكلمة صنعاً فحسب؛ وإنما يخلق في الكلمة النبض والألق والحياة؛ ويبث من خلالها النبض الإنساني الذي يتغور أعماق أعماقه؛ بمعنى أدق: الشاعر المجيد يخلق الكلمات خلقاً جديداً من خلال بداعة التشكيل وحيوية السياق. والكلمة – في شعر يحيى السماوي – ذات خصوبة دائمة فهي ولادة جديدة ونبض جديد وألق جديد وحس جديد؛ لذا فهي ليست ساكنة، ثابتة بمدلول أو رؤية؛ وإنما هي ممتدة امتداد النسق التشكيلي الذي يضمها؛ لهذا، دائماً، تستولد دلالات جديدة وتخط رؤىً بعيدة ممتدة في سماء الدلالة وفضاء التأويل.
ومن هنا يمكن القول: إن الشاعر يحيى السماوي يخلق الكلمات بنبض شعوري جديد لتكتسب دلالات جديدة، ورؤى متجددة على الدوام في كل المساقات الشعرية؛ إذ إن الكلمات وهي معزولة ليست شاعرية بحد ذاتها ولا تقدم معنًى إضافياً جديداً؛ لكنها في السياق الفني تكتسب دلالات جديدة ما كانت لتكتسبها لولا نسقها الشعري الذي وضعت فيه، وعلى هذا «فالكلمات لا تقدم سوى تحديد ضئيل لمعناها؛ وهي في نسق النص تتبدل دلالاتها، وتتلاشى في سياق لتكتسب تحولاً آخر، وقد تتماهى في أكثر من معنى، كما أن القصيدة تعيد للكلمات مغامرتها تجاه المعنى، وربما في قصيدة أخرى للشاعر نفسه تكتسب الكلمات نفسها تشكلاً دلالياً آخر» (عيد، 1995م: 198).
و السماوي استطاع أن يثير المتلقي – فنياً – باختيار الكلمة وتنسيقها في النص الشعري؛ لتشير إلى منظومة دلالات جديدة في سياقها الشعري الجديد الذي يضعها فيه؛ وكأنه مهندس بارع يرصف الكلمات رصفاً هندسياً محكماً؛ لتأتي ذات جمالية خاصة ولمعات دلالية براقة تزيدها جمالاً ونضارة، وإشراقاً، دائماً باستمرار. kh yahia 16
المعجم اللغوي للسماوي:
تتجلی لغة السماوي التي تميّزت بالکثافة و الإقتصاد و مجانبة الترهل اللغوي، في بناء الجملة الشعرية حيث جاءت هذه اللغة مختزلة عميقة متعددة الدلالات. فمفرداته مستمدّة من مفردات الحياة اليومية، و ليس غريباً أن يمتلک الشاعر معجمه اللغوي علی هذه الشاکلة، فهو شاعر يکشف عن ثقافة و وعي و إطلاع علی الأدب العربي قديمه و حديثه.
يستقي الشاعر يحيى السماوي من نبع الشعر التراثي كثيرا من الألفاظ التي تأتي أحيانا بمعناها القاموسي أو الدلالي. فهو يكثر من استعمال الكلمات المتداولة في الشعر القديم مثل السيف – ومرادفه وهو الحسام – ومتعلقاته کالغمد والحمائل، ومثل الخيمة والوتد والنخل وعذوقه والخيل ورباطه. والخيمة عنده رمز للوطن حينا ً وللبلد الذي يأوي إليه خارج وطنه حينا ً آخر، كما أن النخل يرمز في شعره للعراق لشهرتها به، وقد يستعمل هذا اللفظ للدلالة على الشموخ والكبرياء. وقد استعمل من معجم الشعر الكلاسيكي كلمة عرار، واستخدم غير مرة كلمة رماد لما توحي به من معنى الوطن الذي بات أطلالا ً بعد احتراقه.
السماوي يحرّر الكلمات من شحناتها القديمة ويبث فيها إيحاءات جديدة؛ وعلى هذا فإن المرجعية النصية للكلمات عنده ليست معجمية وإنما إيحائية مستولدة من سياقها الشعري؛ فانّه يملك قدرة هائلة على تشعير الكلمة، وبث إيقاعها من جهة، وتشعير الجملة وخلق ائتلافها النسقي التشكيلي من جهة ثانية.
إن السماوي لم يقف عند خلخلة شكل القصيدة الكلاسيكية وبنيتها، إنما خلخل أيضاً سكونية اللغة الشعرية، ومسح عنها بلادة الاستعمال واجترار المفردات، وتكرار المعنى؛ ذلك بحساسية شعرية عالية التجربة والثقافة، ولغة جديدة تفتّحت كالبراعم بين يديه، نضرة، سلسة، واضحةً بسيطة، تعانق الحياة اليومية بتفاصيلها.
و من خلال تدقيقنا في خصوصية المعجم اللغوي عند السماوي وجدنا أن معجمه اللغوي يدور حول حقول دلالية عديدة، حسبنا ان نشير اليها في ما يلي بصورة کلية واستطرادية، لکننا سوف نعود الی دراسة بعضها في الباب الرابع بإمعان.
حقل الوطن:
يأتي “الوطن” بمفرداته ذات الدلالة المکانية، و ما يتفرّع عنها، أو يتّصل بها في مقدّمة المحاور المعجمية، و أکثرها هيمنةً علی سائر المحاور، و أشدّها تأثيراً عليها، وهذا ما جعله يعنون خمسة دواوين شعرية صدرت له بلفظة “وطن”؛ كما في الدواوين التالية:”قلبي على وطني”، و” جرح باتساع الوطن”، و”عيناكِ لي وطنٌ ومنفى”، و”هذهِ خيمتي فأينَ الوطن”، و”البكاء على كتف الوطن”.
فالوطن – و هو المحور الذي يسمّيه د. جاهين بدوي “بالحوار الجغرافي الطبيعي” (2010م:117 و 118) – ، تحلّقُ في أفلاکه طائفة من المفردات ذات الطبيعة المکانية، مثل العراق، و الفرات، و دجلة، و النهر، و الجداول، و الينابيع، و الحدائق، و الجنائن، و البساتين، و الحقول، و الأطيار: الحمائم، و العصافير، و الفراشات، و الزهور، و الأشذاء، و الأنداء، و السحاب، و الأمطار، و الآبار، و النواعير، و المحراث، و الحصاد، و البيادر، و السهول، و الهضاب، و ما يستتبع ذلک من ذکر الضفاف و الشطآن و الثری و الطين و العشب و الأوتاد و الخيام ، و الراعي و الرباب، و الظباء و الغزلان، ثمّ التنور، و أرغفة الخبز و الصحون، و نحو ذلک من المفردات التي تشير الی “طبيعة مکانية ريفية” مخصوصة، لها ارتباطاتها الوثيقة برؤية الشاعر.
و کذلک ينضاف الی تلک المفردات مضاداتها التي تتقاطع معها دلاليا في سياقاتها الترکيبية من ذکر الفيافي و المنافي و الصحاري و الجدب و الجفاف و الظمأ و السراب و اليباب و الحطب و الفأس و النيران و التراب و الرماد و الرمل.
و کذلک تتحوّل هذه المفردات الی رموز في سياقات توظيفها في الحديث عن بيئة الوطن، بما يمثله في ذهن الشاعر من خصب و عطاء و حيوية، و ما آل اليه حال هذا الوطن؛ من خلال سلب هذه الصفات و غيابها عن الواقع الکائن؛ و ذلک بما يصطنعه الشاعر من مفارقات تصويرية، تبرز ذلک الغياب و تجلّيه؛ فهو يقابل السحاب باليباب و السراب، و الحدائق بالخنادق، و الظباء بالذئاب، و العصافير بالصقور، و الأنهار بالجفاف و الظمأ، و نحو ذلک.
حقل الإغتراب:
تطالعنا في قصائد يحيى السماوي مفردات دالة على الغربة والاغتراب؛ مثل: السفر، الرحيل، المغترب، والارتحال؛ ويوظف هذه المفردات بألق تصويري شفيف غاية في التشعير الرومانسي والتكثيف الإيحائي؛ إذ يكثف الأنساق التأملية مازجاً الشعور العاطفي بالشعور الإغترابي الحزين الذي يدل على جراح الاغتراب والحنين إلى الوطن؛ كما يمجد الأنثى لتكون له مكمن الأمان، والراحة النفسية، لتخفف عنه جراح الغربة ومرارة الاغتراب؛ والحزن، والتشتت، والضياع.
ومن المفردات الدالة على الاغتراب لفظة”وطن”؛ فالشاعر يعيش – دائماً – في حالة مناجاة لوطنه؛ وينظم قصائده في التغني به، أو الحنين إليه؛ وهذا ينم عن حيازة هذه المفردة لكم هائل من قصائده، حتى لتستغرق حياته كلها؛ وينم تكرارها – أيضاً – عن إحساس داخلي بالاغتراب؛ وما تكرارها إلا لكونها تشكل هاجساً نفسياً مؤلماً تشعره بأنه في بحث دائم عن وطنه الذي تلاشت معالمه بالاحتلال؛ لكنه كلما عاود التفكير به وخزته جراح الغربة، ومرارة الاغتراب؛ والآلام الكثيرة التي يعانيها بلده العراق في ظل الاحتلال الأمريكي الظالم.
ومن المفردات التي تلتقي بمفهوم الغربة في شعر يحيی السماوي هي: الحنين، المنفی، الخيمة و البحر، السندباد، الشراع، السفينة، …
حقل الحب / الأنثى:
يكثر الشاعر من مفردات الحب والأنثى في سياقات عديدة، إذ إن هاجس الأنثى يسيطر على عالمه؛ لأنها تمثل له الصدر الحنون الذي ينقذه من مرارة الزمن وقسوة الاغتراب؛ فكل مؤولة من هذه المؤولات تدل على التوق العاطفي، والشعور بالأسى والجراح؛ إن صبابة أو عشقاً؛ وإن قسوة، وجراحاً، واغتراباً.
و هنا يأتي الجانب الوجداني بما يترقرق عبر جنباته من مفردات ذات دلالة عاطفية، تتماوج خلالها ظلال الوجدان، و انعکاساته المختلفة، من محبة، و صبابة، و هوی، و هيام، و تَيم، و اشتياق، و رغبة وعفاف، و آمال و آلام، و وجد و ضنیً، و وحشة و اغتراب، و سهاد و شکّ و ظنون و يقين، و دلال و صدود و وصال، و رهق و ابتهال، و مواجع، و هموم، و تجلّد، و تفجّع و إعوال و انتحاب، و ثُکل و فقد، و مباهج و رغاب، و صعاب و عقاب، و عذوبة و عذاب، و غناء و بکاء.
و يتبيّن لنا من خلال استقرائنا عامة مفردات هذا المحور أنها في جملتها يغلب عليها طابع الأسی و الحسرة، و مکابدة مواجع الروح، و کلوم الوجدان، و هي دلالات تبدو متساوقةً منطقيّآً مع طبيعة التجربة العامة للشاعر في شعره.kh yahia 15
حقل الطبيعة:
يحيی السماوي شاعرٌ حالمٌ، أحبّ الطبيعة و تغنّی بها بشکلٍ جميل في أشعاره، و رأی في هدوئها و روعتها ما تقرّ به نفسه. فقد أعجبته في بساطتها و جمالها و بعدها عن أدران الحياة و أکدارها، ألهمته صوراً رائعة، أخيلة مجنّحة و معانٍ خلّاقة تسمو بالإنسان الی مراتب الجمال و الجلال و هو يتناولها من جوانب شتّی فيستخدم عنصر الخيال ليصف روائعها و مناجاة الحياة فيها، و يتأمّل تأمّلاً عميقاً في أوصافه لها ليستخلص منها العبر و العظات. لقد أتيح له أن يعيش في أحضان الطبيعة منذ نعومة أظفاره و ينعم ببساتين السماوة الجميلة و الساحرة بنخيلها و أنهارها، فرقّت أحاسيسه و نَبُلت مشاعره، فرتّل ألحانه و ناجاها بمحبة و اطمئنان و ثقة لأنّها تقرّبه من الجمال المطلق و السعادة.
يتّضح لنا أن السماوي قد أحبّ الطبيعة بصدق و اخلاص، و انعکس جمالها في جمال نفسه، و صفاء سمائها في صفاء شعره، فعذبت الفاظه کمياهها العذبة و رقّت موسيقاه کموسيقی أنهارها و بلابلها، و قد کشفت له عن أسرار جمالها و سحرها و هو من شدة ارتباطه بها أخذ اسماء بعض دواوينه و قصائده منها فکان «زنابق بريّة» و «نقوش علی جذع نخلة»..
يكثر السماوي – من ذكر المفردات الدالة على حقل الطبيعة؛ وهذه المفردات مشتقة من الطبيعة العراقية المعيشة، فالشاعر يستنطق مشاهده الماضية من خلال تجسيد الطبيعة العراقية من ذكر للنخيل، والقرنفل، وبعض النباتات، والأشجار البرية، والحقول؛ إذ يقول:
خجلَ الجوابُ من السؤالْ:
خلَتِ الحقولُ من الذئابِ…
فما لصوتكِ لا يشاركُ باحتفال ْ
أجلْ…
الحقولُ خلتْ من الذئبانِ
لكنَّ الخنازيرَ استحلّتْ نخلَها
وتمرَّغتْ بالوردِ
فانتحرَ القرنفلُ
واستجارَ من الوحولِ البرتقال (نقوش علی جذع نخلة: 119)
إن الشاعر يرسم الطبيعة العراقية رسماً دقيقاً، راصداً حقولها، وأزهارها، ونخلها معبراً – من خلال المقبوس السابق – عما آلت إليه معالم الطبيعة العراقية الجميلة من سيطرة المحتل الذي عاث فيها فساداً؛ وانتهك فطرتها، وجمالها الآسر؛ فلم يبق من أثر هذه البلاد المكتظة بالورود، والقرنفل، والنخيل، والبرتقال إلا بقايا وحول، وذكريات مؤلمة مكتظة بالأسى، والحزن، والجراح، والآلام.
حقل التراث:
عاش السماوي في مدينة السماوة المحاطة بالبساتين و القری. کان والده يعمل مزارعا حينا وبقّالا حينا آخر و کان بيتهم الطيني محاذياً لبستان حيث کان الشاعر يقضي الکثير من وقته في هذا البستان، يتسلّق النخيل و يستحمّ في جداول الماء و السواقي ثمّ في نهر الفرات القريب من بيتهم. کانت هذه المدينة مسرح طفولة الشاعر و صباه، فإنتقشت الصور التراثية و الشعبية في قلبه و ذاکرته. فکان يستدعي من الذاکرة الشعبية الکثير من المفردات التراثية الشائعة لدی اهل القری فعلی سبيل المثال يذکر الشاعر لفظة المشحوف و جمعها المشاحيف و يعني بها القارب و هي لغة عند اهل الهور، فيقول:
المشحوف «يطرّ الهور» (بعيدا عني .. قريبا منک: 187)
و ايضاً له:
توهّمتُ انّ التغرّبَ
يُنسي الفتی السومريّ هموم المشاحيف (لماذا تأخرتِ دهراً: 58)
فالحياة في الغربة و طبيعة استراليا الخلابة لم تستطع ان تنسي الشاعر طبيعة العراق و مفرداتها التراثية فيبقی ذلک الفتی الذي يحنّ و يشتاق الی التراث العراقي.
هناک أيضاً الکثير من المفردات تتکرّر في شعره نذکر منها: الفالة، المکوار، شاي الهيل، قوري الشاي، القهوة، الدلال، الفناجين، ماء الورد، البخور، البيادر، الکوفية، الصريفة، الجبايش، المنجل…
لا یخفى أن هذه الألفاظ تتفاوت فی القدرة التعبیریة والثراء الدلالي، وقد نجد لفظا عامیاً في النص یحوي من الشحنات الدلالیة والرمزية، ما لا یحویه نظيره اللفظ الفصيح.
فانسیاب الألفاظ العامیة فی حنایا التراكیب الفصیحة یشیر إلى أن المستوى النفسي للألفاظ لا یقل حرارة عن ألفاظ الحب ذاتها، إذ إن المعجم الشعري یكاد یضیق إلى درجة لا یجد فیها الشاعر بدیلا عن بعض الألفاظ العامیة التی تختزل حرارة وجدانیة لا تدانیها ألفاظ أخرى، وتصبح ألفاظا أثیرة لا بدیل لها فی معاجم اللغة.kh yahia 17
حقل الدين:
و هو من المحاور الکثيفة الثراء، خصبة الدلالة في معجم السماوي، و إن کانت تبدو أقلّ کمّاً في شعره، مقيسةً ببقية المحاور اللفظية في معجم الشاعر، و يدور في فلک هذا المحور طائفة من المفردات، التي يسترفدها الشاعر و يستقيها، من أنهار الثقافة الإسلامية، و حقلها الخصيب، مثل: الصلاة، و الصيام، و المآذن و الدعاء، والوضوء، و الابتهال، و المعتکف، و التقوی، و الطهر، و الإثم و الخطيئة، و الجهاد، و الاستشهاد، و الزهد، و کوثر الصلوات، و کوثر الأماني، و التراتيل، و التسابيح، و الشرع، و اللوح، و فرض العين.
هذه أهمّ الحقول التي جاءت في شعر السماوي؛ و التي شکّلت معجماً لغوياً خاصاً به. فمن خلال رحلته مع الکلمات و الألفاظ و الجمل نجده يقيم أحياناً صداقة ودودة و وئاماً حنوناً مع بعض المفردات المحددة فيتعلق بها و يحبها و يستخدمها اکثر من غيرها و يرافقها في رحلته الشعرية حد الالحاح الملفت للنظر و للظنون، و هو عندما يتعلق بأحدی هذه المفردات فانه يحولها الی حبيبة مدللة تحسدها بقية الکلمات، فيترکها تتبختر متی شاءت فوق سطوره مزهوةً فرحة، عندما يلقي فوقها تاجاً من الحسن و الجمال الذي يتألق سحراً من الصياغات المبتکرة و التعابير المتجددة و الاداء الرفيع فترتدي اللفظة في کل مرة حلةً جديدةً زاهية تزيدها حسناً و اثارةً و تشويقاً.
و من خلال قراءتي لشعر السماوي و رصدي لمعجمه اللغوي وجدت بعض المفردات تتکرّر في شعره بصورة ملفتة للنظر، فالتکرار يکون في المفردة بعينها أو في مشتقاتها و مترادفاتها، و لذلک أقف مع هذه المفردات من أجل الکشف عن نشاطها و فاعليتها في النص الأدبي، و کيف تم توظيفها لتعبّر عن رؤية الشاعر. لأن تکرار المفردات بکثافة في مجموعة لغويةٍ ما دليل واضح علی أهمية مواضيعها مقارنة بالمواضيع الأخری، فاللغة تحمل في طياتها نسقاً للعالم کما يعبر ايفاتوت و هو ناقد سوفيتي إذ يقول: «إن اللغة الطبيعية تحمل في طياتها – نسقا للعالم – أي أن البشر يودعون في اللغة نظرتهم للعالم» (حبيب، 1999م: 54)؛ فرؤية الشاعر و اهتمامه بموضوع ما، يدفعانه لتکرار مفردات بعينها.
و في ما يلي سوف نسلّط الضوء علی أبرز هذه الموتيفات في المنجز الشعري للشاعر يحيی السماوي:
موتيف المسبحة:
إن اول من وضع المسبحة وصنعها لنفسه لكي يحفظ دروسه وتعاليم اساتذته هو(بوذا) ولقد وضع العدد 99 بقدر ارشاداته… وتوارثتها الأديان الى ان استعملها رجال الأسلام المحدثون بعد هبوط الرسالة المحمدية واتخذت للدلالة على اسماء الله المئة (محسن، 2010م، موقع الحوار المتمدن).
السبحة أو المسبحة، هي مظهر شرقي وأيقونة تفضي إلى كثير من الخصائص؛ فهي لدى العامة من الناس، وسيلة صلاة، وأداة عدّ ٍ وحساب، ومصدر إيقاع ٍ منتظم حين تحرّكها الأصابع وهي عند آخرين إعلان عن الزمن الهارب وتثبيت لمروره، لكنها عند “السماوي” حصيلة تأمّـل ٍ روحيّ ونفسي، تمثل كل حبـّة ٍ من حبّـاتها، ذكريات تأملية مستقلة بذاتها، لكنها تنتظم انتظام المسبحة الكليّ في التعبير عن رؤيته الإنسانية والفنية.
و للشاعر مجموعة موسومة بـ “مسبحة من خرز الکلمات” تضمّ بين دفتيها نصوصا نثرية أقرب إلى ومضات قصيرة، فيها تسع وتسعون خاطرة أو قطعة نثرية أو أدبية (تماما بعدد حبّـات مسبحة النسّاك )، كأن السماوي شاعر متعبد في محراب الحب والوطن..
تتكون “مسبحة” السماوي من ( 99 ) مقطعا / خرزة ، وللرقم تسع وتسعـين حضور مقدس معروف في الوجدان يشتغل في اللاشعور – أحيانا – بعيدا عن المخططات القصدية، كما أن السبحات المحببة إلى نفوس المؤمنين هي التي تتكون من تسع وتسعين خرزة يردد المؤمن مع حركة حبّاتها أسماء الله الحسنى.
وإذا كانت المسبحة هي التي يكرر خرزها ويكتمل وجودها، بما تمثله حباتها أو خرزها من تلاحم وانتظام؛ فإن نصوص الكتاب (مسبحة من خرز الکلمات) تشكل دورة مشابهة، تتتابع أجزاؤها لتمنح العمل شكله وهيئته الفنية.
تسعة وتسعون نصاً مرقمة بلا عناوين، تتسلسل في صفحات الديوان، وتتلازم ضمن الحالة التي تؤطر سياق الديوان، وتستقل كل منها في صفحة، وكأنها تجسد وصف المسبحة في العنوان، وتوحي بتشكلها الفني ولكن بخرز من كلمات..(الأرناؤوط، 2008م، مجلة غيمان الالکترونية).
إن الشاعر يحيی السماوي قد حاول المطابقة بين ثريا الديوان “مسبحة من خرز الكلمات” مع (المسبحة الإسلامية) وليس مع غيرها التي تحتوي على عدد أقل من الخرز وبعضها يحتوي على أعداد زوجية، وكانت المطابقة على مستوى التشابه بين عدد النصوص(99 نصا) وعدد الخرز في المسبحة الاسلامية 99 خرزة (شاهين، 2010م، ج1: 191).
من مفارقات اللغة التي تحمل دلالة هائلة هي أن المسبحة لغةً هي خرزات ملظومة في سلك تُستخدم إما للصلاة والتسبيح ، وإما للتسلية، وهكذا قد سبّح الشاعر فعلا، سبّح لجسد المحبوبة وحمده، سبّح لتراب وطنه وتأسّى عليه، سبّح للخالق وصلّى على مخلوقاته، والمجموعة بأكملها عبارة عن دعاء طويل مقطّع ، دعاء لحفظ كلّ ما هو جميل ، ومَحْق كلّ ما هو قبيح ولم يكن دعاء يؤدى باسترخاء وراحة نفس؛ لقد كان دعاء مؤلما ” مخروزا ” ، والخرز أصلا يعني ثقب الجلد وخياطته بالمخرز والخرِز المؤلم .. والخ. لو أخذنا التسلسل الكلّي لمقاطع المجموعة ( 99 مقطعا ) من مجموعة “مسبحة من خرز الکلمات” فسنجد أن أول ظهور لمفردة ” الخرز ” هو في المقطع الثاني عشر :
المال ؟
عندي منه ما يكفي لأن أبتاع
أشياء كثيرة :
عطر لجيدك
معضد من فضة
( ………….. )
وقلادة ( خرز )
وكحل للعيون … (مسبحة من خرز الکلمات: 16و17 )
أمّا آخر ظهور لهذه المفردة في المجموعة فسنجده في المقطع الثامن والثمانين ، أي قبل اثني عشر مقطعا من ختام المجموعة :
من تراب أبجديتي ودموع المراثي
عجنت طين الوجد
فخرته بآهاتي
فصنعت منه ( خرزا ) لظمته بأهدابي
مسبحة لك …….. (المصدر السابق: 94)
فکل مفردة ترد في شعر السماوي تکون مدروسة و لها فاعلية خاصة في النص، و مفردة (الخرز) في هذه المجموعة استخدمها ايضاً الشاعر لتشکّل تلاحما و توازنا مع سائر المفردات.
لقد رأينا كيف كانت مقاطع المجموعة متراصة ومتماسكة ومتسلسلة فمسبحة الكريات الزجاجية تلظم بمتعة لكن مسبحة خرز كلمات يحيى تُنظّم بألم ووجع، تُثقب بمخرز الموهبة وتُربط بسلك دامٍ من الروح والكلمات، الكلمة القول، القول الشعري الساحر والكلمة هي الأرض الصلبة ، أرض الإبداع التي عرف الشاعر تماما مواضع قدميه عليها والكلمة الجرح، الجرح العصي على الإلتئام، جرح الخيبات والمنفى والوطن المضاع، الجرح المميت الذي لا إبداع من دونه. وتركيبة العنوان العجيبة والفريدة، وخرز / مقاطع المجموعة المتشابكة جمعها السماوي في لوحة تعبيرية لا يقدر عليها سوى خبير بالسبحات الشعرية ( وبالمناسبة فإن يحيى خبير متمرس في أمور المسابح، يحتفظ بعشرات المسابح):
من تراب أبجديتي ودموع المراثي :
عجنت طين الوجد
فخرته بآهاتي
فصغت منه خرزا لظمته بأهدابي
مسبحة لكِ
ادخلي محرابي .. لنصلّي معا
متوجّهين بقلوبنا نحو الله
وبعيوننا نحو الوطن ….. (المصدر السابق: 94 )
وهذه هي فلسفة العنوان، هذه هي مسبحة الشاعر المجيد يحيى السماوي التي صاغها من خرز الكلمات و التي کان يعدّ بها آلامه و أحزانه فيكاد المسبّح يخرج يده فلا يراها من شدة الحزن وهذا ما تقوله خرزة الختام في مسبحة السماوي المقدّسة التي يختمها بالخرزة / المقطع التاسعة والتسعين التي يقول فيها :
أيها الحزن .. لا تحزن
أدرك أنك ستشعر باليتم بعدي
لن أتخلى عنك
أنت وحدك من أخلص لي
فكنت ملاصقي كثيابي
حين تخلّى عني الفرح
في وطن
يأخذ شكل التابوت .. (المصدر السابق: 106 ) kh yahia 9
بالمقطع الأول : القلب البرتقالة الذي يسع العالم بدأنا بلظم خرز مسبحة الكلمات وبالمقطع الأخير هذا جاء الموت هادم اللذات ومفرق الجماعات ففرق خرز المسبحة، هنا ” انقطعت ” السبحة (سرمک (ا)،2010: 130 – 128).
قد يكون للمسبحة معنى عند العراقي لا يفهمه غيره، ففي الفولكلور العراقي تعد المسبحة عنصرا من العناصر التي تكتمل بها الأناقة فضلا عن استخدامها أداة للتأمل، إذ يشرع الرجل بزحلقة خرزها بين إصبعيه في دورة لا متناهية. بينما يسرح في أفكاره على إيقاع ذلك الخرز متذكرا أو متفكرا.
و ربما تكون فكرة الدورة اللا متناهية للمسبحة المفتاح السحري لفهم مجموعة السماوي هذه، ولكي تتضح الفكرة عليّ أن أذكرك بتركيب المسبحة، فهي عدد محدد من الخرز المتشابه، عدا خرزة واحدة تكون كبيرة وتتخذ شكلا مخروطيا تقريبا وربما شكل مئذنة، تسمى في اللهجة (الشاهود) وتنتظم في خيط واحد لتشكل دائرة مغلقة، ولننظر الآن في هذا النص من مسبحة السماوي:
كلّ يذهب في حال سبيله
النهر نحو البحر –
السنابل نحو التنور –
العصفور نحو العش –
الآفك نحو اللعنة –
القلم نحو الورقة –
الصلوات نحو الله –
الوطن نحو الصيارفة –
وقلبي نحوك (المصدر السابق: 12)
هذا النص الذي جاء تحت رقم (8) في المجموعة، يمثل الصورة النموذجية للمسبحة ببنائه وشكله، فبإمكاننا ملاحظة تعمد الشاعر وضع علامة (-) عند نهاية كل سطر، بحيث لو أعدنا كتابة النص على شكل سطر واحد ستكون هذه العلامة بمثابة الخيط الذي تنتظم فيه الخرزات، وبما أن السطر الأول فقط ينتهي بعلامة (:) والسطر الأخير ينتهي بنقطة، فلو أعدنا كتابة النص على شكل دائرة ستكون نقطة التقاء السطرين الأول والأخير في مقابلة (شاهود) المسبحة.
تتكون المسبحة إما من (33) أو (99) خرزة، عدا خرزة (الشاهود). غير أن ذات الخرز التسع والتسعين ترتبط عادة بمفاهيم صوفية فضلا عن كونها جزء من أناقة المظهر. وهذه هي المسبحة التي اختار السماوي نسج مجموعته على منوالها، فالمجموعة تتكون من تسع وتسعين قطعة، تسبقها صفحة كتبت عليها البسملة حسب، فهي أول ما ينطق به عند التسبيح. ويمكن أن نلاحظ اختيار الشاعر وضع أرقام لقطعه بدلا من العنوانات إمعانا في خلق الشبه بينها كما الخرز.
تعتمد نصوص (مسبحة من خرز الكلمات) أساسا فنيا واحدا في بنائها، وهو خلق طريقة للعد كما هو حال التسبيح، ومن تلك الطرق عدّ الأشياء كما في النص (5):
أكلّ هذه السنين العجاف –
الهجير –
الحرائق –
معسكرات اللجوء –
المنافي –
وقلبي لما يزل
أعمق خضرة
من كل بساتين الدنيا؟ (المصدر السابق: 9)
الهجير والحرائق معسكرات اللجوء والمنافي مثال للعد في نصوص المجموعة، ويمكننا ملاحظة حرص الشاعر على وضع علامة (-) عند أواخر المعدودات، فهي رمز خيط المسبحة. وقد يبنى نظام العد على مثال الأحجية الشعبية:
السفينة غرقت؟
لا ذنب للميناء –
إنه ذنبها!
لا ذنب لها –
إنه ذنب المجاديف!
لا ذنب للمجاديف –
إنه ذنب الرأس!
……. (المصدر السابق: 22)
هكذا يستمر النص (17) بتقنية لعد الأشياء عبر بنية تشبه بنية الأحجية الشعبية.
ويتم العدّ أحيانا بتكرار الصيغة النحوية كما في النص (19):
لن يكون بعيدا
اليوم الذي يتآلف فيه:
الخبز مع الجياع –
العشب مع الصحارى –
والحدائق مع العشاق –
……… (المصدر السابق: 24)
من المهم أن نلاحظ حرص الشاعر على وضع علامة (-) بعد كل جملة من جمل المعدودات للتذكير بصورة المسبحة، كما يمكن ملاحظة استخدام النقطتين (:) قبلها للتنبيه إلى عملية العدّ التالية.
هكذا يقدم السماوي مجموعة شعرية بنية نصوصها بطريقة تكاملية بحيث يكون كل نص جزءا عضويّا من بنية المجموعة في الوقت نفسه الذي يبدو فيه أنه بنية مستقلة (العذاري، 2009م، موقع نور الدجی).
وقد جاء ديوان “بعيداً عني.. قريباً منکِ” من ناحية هيكل البناء الشعري وهندسة القصيدة الخارجية على شكل قصيدة واحدة، عنوانها هو عنوان الديوان، ومقاطعها الداخلية بلغت تحديدا ثلاثة وثلاثين مقطعًا، أو لوحة شعرية، وقد جاءت هذه المقاطع بدون عنوانات إنشائية سوى الترقيم.
والقارئ المتأمل المتتبع لتجربة السماوي الشعرية يدرك أن هذا العدد (33) لم يجئ هكذا بصورة اعتباطية غير محسوبة أو فارغة من الدلالة في رؤية الشاعر، وإنما هو عدد يحتمل في طياته دلالات شعرية ودينية وصوفية شديدة الثراء والخصوبة، فكتابه النثري ” مسبحة من خرز الكلمات ” قد جاء، من حيث عدد مقاطعه، على شكل مسبحة حباتها تسع وتسعون حبّةً، وقد خلت هذه المقاطع من العنوانات الداخلية، فتقاطرت عدديا كما تتقاطر حبّات مسبحة، بما تحمله من تسابيح وتراتيل وأذكار شعرية وروحية وشعورية ووطنية وتأملية وجودية عميقة بديعة، والناظر إلى هذا العدد (33) في هذا السياق التقني والهندسي والفكري الرؤيوي لشاعرنا السماوي يدرك أن هذه الـ (33) ما هي إلا ثلث تلك المسبحة الشعرية، وأنها تتعانق معها رؤيويا ودلاليا، كما تعانقت معها تقنيا وهندسيا عند اختيار العنوان، وبناء مقاطع الديوان هنا، والكتاب هناك، وأنها تعرب في الوقت ذاته عن وجود منظومة فكرية ودلالية عامة تُسلك عبرها حركة البث الشعري والإفضاء الوجداني للشاعر، من خلال اللجوء لهذه الدوائر التقنية والتعبيرية شديدة الدقة والإتقان (بدوي، 2011م، موقع رابطة الکتّاب العراقيين). و في ما يلي نقتطف المقطع التالي من هذا الديوان:
و يصنعُ للتي ليست تُسمّی:
معضداً من فضّة الکلمات..
ثوباً من زهور الياسمين..
حُلیً.. و مسبحةً.. و شالاً
من مواقيت الهديل. (بعيداً عني.. قريباً منکِ: 195)
فاستخدم الشاعر”المسبحة” في هذا المقتبس کوسيلة من وسائل الزينة و ذلک يُفهَم من سياق المقطع و ائتلاف المفردة مع المفردات الأخری التي تدلّ علی الزينة.
موتيف الحبل:
مفردة “الحبل” ذات وقع نفسي مختزن في وجدان الشاعر تتنقل من نص إلى آخر، وفي كل نص يوظفها الشاعر بطريقة جديدة نسبيا، لكن تبقى السمة الحاكمة هي شكلها وشحنتها النفسية:
بين احتضاري في غيابك…
وانبعاثي في حضورك:
أتدلَّى مشنوقاً بحبل أسئلتي
مُحَدِّقاً بغدٍ مَضَى…
وبالأمسِ الذي
لم يأتِ بَعْد! (مسبحة من خرز الکلمات: 8 )
يعتمد الشاعر في حياكته الفنيَّة علی الصورة الدهشة أو الصورة الصدمة التي تُفَعِّل الدفقة الشعريَّة كلها؛ وهي جملة [أَتَدَلَّى مشنوقاً بحبل أسئلتي]؛ إنَّ الصدمة الفنية التي أحدثها بهذه القفلة ساهمت أولاً في ارتفاع قيمة النصّ جماليًّا؛ وساهمت ثانياً في تعزيز الرؤية وتعميق مدلولها الرومانسي الغزلي؛ فالشاعر لم يُشْنَق بحبل كتانٍ مفتول بقوة؛ وإنما شُنِقَ بأسئلته التأمليَّة الحائرة التائهة بين ماضٍ لم يأتِ وحاضرٍ قد مضى بلعبة فنيَّة جدليَّة قلبت الرؤى من جرَّاء هذا الحب العارم التائه في غياهب التأمل والارتحال صوب أحلام ورديَّة غير متحقِّقة على أرض الواقع.
و في قوله:
صوتُكِ مزماري
دَجَّنَ أَفْعَى الحزنِ في حديقتي
فاغتسلتْ بالعطرِ أَزهاري
صوتُكِ يا قدِّيستي
حبلٌ من النورِ نَشَرْتُ فوقَهُ
قميصَ أسراري
وصفحةٌ ضوئيَّةٌ
كتبتُ في سطورها أعفَّ أشعاري (نقوش علی جذع نخلة: 170)
أولى خصائص التجديد في الصورة الشعريَّة عند يحيى السماوي اعتمادها الصور الحسيّة المبتكرة ذات الطابع التوصيفي الشعوري في إضفاء صفات جديدة على أنساق لغوية جديدة، ففي هذا المقتبس وصل الشاعر إلى قمّة الدهشة في تجسيد الحسي وتجسيد المجرَّد؛ بقوله: “صوتُكِ يا قدِّيستي…حبلٌ من النور نشرتُ فوقَه قميصَ أسراري”؛ إنَّ من يتأمل في حيثيات هذه الصورة المركبة، يلحظ أن كل جزئية من جزئياتها تشكل نسقاً جماليًّا؛ مكتنزاً بالإيحاء والدلالات؛ والأنساق اللغوية المفاجئة التي تزيد ألق الصورة عاطفيًّا؛ فالصوتُ وهو شيء مسموع أصبح مرئيًّا؛ مجسداً بحبلٍ وهذا الحبل ليس حبلاً عادياً؛ وإنَّما حبلٌ من النور؛ ثم فاجأ القارئ بقوله: “قميص أسراري”؛ إذْ إنَّ السرَّ شيءٌ معنويّ جسده الشاعر بلفظة قميص (شرتح (آ)، 2011م: 250).
وتتكرر مفردة “الحبل” في ديوان “شاهدة قبر من رخام الکلمات” في قصائد هي : ما قاله التاريخ ، أنا مثلك يا أنطوان ، من وحي تمثال الحرية في نيويورك ، كلمات متقاطعة ، وأوراق العزلة. في قصيدة ” ما قاله التاريخ ” تأتي وقفة الشاعر التوظيفية مع ” الحبل ” كأداة عقاب – مشنقة – يتدلى منها خونة الوطن، لكن الشاعر الذي يتسامى بروحه النبيل على أعمال السفّاحين يخفف التعبير القصاصي ويجعلها حبالاً تتدلى من سقف صفحات التاريخ السوداء. وباستخدام مفردة السقف تكتمل ممكنات الصورة المادية ولكن مجيء ” الصفحات ” في الوقت المناسب يلغي العنف الفعلي فيها :
.. وخونة الوطن من الحبال
الحبال المتدلية
من سقف الصفحات السوداء
في كتاب التاريخ (شاهدة قبر من رخام الکلمات: 88 ) .
ولكن لاحظ ما الذي يحيل إليه ” واو العطف ” في بداية هذا المقطع. إنها تحيل إلى ” تدلّي ” نقيض يؤجج الوقع النفسي للصورة ، ويشيع الإحساس التفاؤلي رغم النهاية العنيفة (سرمک (ا)، 2010 م: 222):
لا تقنطي يا حبيبتي
لا تقنطي
الغد يتسع للفرح
ستتدلى الزهور من الشرفات
العناقيد من الأغصان
الحقائب المدرسية من ظهور الأطفال
وخونة الوطن من الحبال … إلخ – (نفس المصدر)
وبعد عدة نصوص تتكرر هذه المفردة في قصيدة ” أنا مثلك يا أنطوان ” كأداة قصاصية مميتة أيضا ، ولكن محجمة بالنزعة الشعرية النبيلة نفسها أيضا، يقول يحيى :
مثلك أحلم
أن أصنع من أضلاعي
مسامير لنعوش الطغاة
وأن أضفر أهدابي حبلا
لرقاب أعداء الطفولة (المصدر السابق: 121 و 122 ).
وحبل من أهداب جفن الشاعر لا يشنق ولا يخنق !! و لكنه – شأنه شأن الكثير من العراقيين الشرفاء – يحلم بالمساهمة في دحر المحتلين.
ثم يعود الشاعر إلى استثمار هذه المفردة في القصيدة اللاحقة ” من وحي تمثال الحرية في نيويورك ” حيث يكررها أربع مرّات تكون في كل مرة أداة مادية لنشر الغسيل القذر للخنازير الأمريكان:kh-yahia-12-2
يلزمني حبل أمدّه
من ” هيروشيما ” حتى ” بغداد ”
لأنشر عليه
ثياب الأطفال الذين حصدتهم
مناجل البنتاغون
يلزمني حبل
من ” ناغازاكي ” حتى ” الفلوجة ”
لأنشر عليه
قائمة بأسماء الأمهات اللواتي
أثكلهن الديناميت الأمريكي
………………………..
………………………..
يلزمني حبل
من ” غوانتنامو ” حتى ” أبو غريب ”
لأنشر عليه
آخر مبتكرات شرطة أمريكا
في فن التعذيب (المصدر السابق: 124 و 125 ).
وفي قصيدة ” كي نغفو مطمئنين دون كوابيس ” يصبح الحبل تعبيرا عن فاجعة احتلال بلاد الشاعر بأكملها. فهو الحبل الدموي المسلّح الذي نُشر عليه جسد العراق الشهيد :
غسلوا الوطن بدم أبنائه
مدّوا حبلاً من سرفات الدبابات
من قمة ” بيره مكرون ”
حتى آخر نخلة في ” جيكور ”
نشروا عليه العراق (المصدر السابق ، 2010م: 151 ).
و في هذا المقطع “يحسب” السماوي موقع ودلالة كل مفردة . فاستهلال المقطع بالفعل ” غسلوا ” يجعل المسار الدلالي متسقا لكي يرتبط بالفعل ” نشروا ” ليصبح الأول تمهيدا لاستكمال دور النشر على الحبل. وإذا كنا قد اعتدنا أن نجمل جغرافية العراق الكلية بالتعبير المتداول : من زاخو إلى الفاو ، فإنه قد استعاض عن الفاو بجيكور التي لها منزلة كبرى في ذاكرة ووجدان المتلقي العراقي فهي قرية السياب الكبير أعظم رموز الروح العراقية الحيّة (سرمک (ا)،2010: 224و 225).
ولكن كيف تنتهي هذه القصيدة ” كي نغفو مطمئنين ..” التي استهلها بصلب جسد الوطن” حيث نشره على حبل سرفات الدبابات من الشمال إلى الجنوب : من بيره مكرون إلى جيكور ؟ هنا تظهر احترافية السماوي العالية فهو يختمها بالمكونات نفسها : الحبل وبيره مكرون وجيكور مع إضافة هي أن الحبل سوف ينشر بفعل انبعاثي عظيم وخارق فهو حبل من ضوء يمتد من قمة جبل بيره مكرون إلى آخر نخلة في جيكور ، ولا يجرؤ يحيى على نشر جسد الوطن على هذا الحبل فهذا فعل تمثيلي من أفعال الغزاة يشجبه ويمقته ويترفع عنه هو العاشق لبلاده ، إنه ينشر عليه تقاويم أعياد الفرح الدائمة ، لنحتفي بعيد كوني نردد فيه أناشيد الشاعر عبد الله كوران/ بيره مكرون وترانيم لبدر شاكر السياب/ جيكور (المصدر السابق: 225) :
.. ومن قمة ” بيره مكرون ”
حتى آخر نخلة في ” جيكور ”
سنمدّ حبلا من ضوء
ننشر عليه
تقاويم أعيادنا
مردّدين أناشيد ” عبد الله كوران ”
وترانيم ” بدر شاكر السياب ”
وأغاني محمد القبنجي (شاهدة قبر من رخام الکلمات: 153 ).
هنا يجمع شمال الوطن ممثلا بكوران بجنوبه مجسدا بالسياب ، يلتقيان بصوت القبانجي الصادح من حنجرة وروح بغداد الأم .
کان السماوي معارضاً سياسياً للنظام السابق في العراق و قد حُوکِمَ بالإعدام شنقاً قبل فراره من العراق، فلا شک ان حبل المنشقة لا يغيبُ عن خياله و ذاکرته:
دعاؤها
و ليس الحظّ
أبعد الحبلَ عن رقبتي! (المصدر السابق: 60)
فالحبل هنا هو الموت المحتّم الذي کان ينتظر الشاعر و المشنقة التي کانت تتراءی له في کل حين. kh yahia 5
موتيف الشامة:
الشامة (الخال) هي عبارة عن بقع جلدية بنية اللون تظهر على أي جزء من الجلد وتوجد لدى الجميع رجالا ونساء ، صغارا وكبارا.
تتكون الشامة نتيجة إنقسام الخلايا في طبقات الجلد وتظهرعلى أي جزء من جلد الانسان، وتختلف في عددها من شخص لآخر، كما أنها تختلف في الحجم والوزن، ويعتمد ذلك على سرعة نموها وعلى النسيج الذي تكونت منه (فريحات، 2011م، موقع الطبي).
تشير أحدث الدراسات البريطانية إلى أن الذين يظهر لديهم عدد كبير من الشامات على أجسادهم، يشيخون ببطء مقارنة مع الأشخاص الآخرين، حيث وجد علاقة ما بين ظهور الشامات وأحد المؤشرات البيولوجية التي ترتبط بتأخر ظهور الشيخوخة (المصدر السابق).
على مر العصور ومنذ قديم الزمن، تغنّى الشعراء والمطربون بالخال والشامة أو الشامات، وكانت الشامة مصدر إلهام للقصائد الغزلية والطربية، والفتاة التي كان على خدها شامة كانت تعد من الجميلات بين قومها وفي بلدتها.
هناك وصف أسطوري ومثير للقاء بين حافظ الشيرازي والشخص الأكثر شرّا في ذلك الوقت، الغازي القاسي تيمورلنك، الذي اندفع بقوة في جنوبي فارس، وقتل سبعين ألف شخص في أصفهان، ودخل شيراز في ديسمبر من سنة 1387 م. استدعى حافظا الكبير السنّ، كانت سنّه آنذاك سبعا وستين سنة، وقابله بأبيات من إحدى القصائد:
(إن قبلتنا التركية الشيرازية
فسأعطيها بدل خالها سمرقند و بخارى)
ثم قال تيمورلنك بغيظ: “بسيفي الصقيل أخضعت معظم العالم، وأنت شاعر بائس سيّء الحال تبيع مدينتي وقاعدة ملكي بخال على خدّ فتاة ؟!”
أجاب حافظ حانيا رأسه احتراما:
” أنت على حق، إنه بسبب هذا الإنفاق المتهوّر آليتُ إلى الحال البائسة التي تجدني عليها الآن”.
أُعجبَ الأمير تيمور كثيراً بما ردّ عليه حافظ، ، فأعفاه من العقوبة و لم يكتفِ بذلك بل قدّم له أُعطية سنية (عنايت خان، 1998م: 221 و 222).
كانت ومازالت الشامة وخاصة تلك التي تظهرعلى احد الخدين تعتبر من علامات الجمال، و الفتاة صاحبة الشامة على خدها تلفت الإنتباه لها، والتي لم تولد مع شامة وضعت شامة إصطناعية من الكحل لتبرز جمالها وجمال خدودها.
أما الشاعر العراقي يحيی السماوي فقد أکثر من ذکر هذه المفردة و تغنّی بها في دواوينه. فيری سواد شامات حبيبته أکثر بياضاً من مرايا الصبح ويقرنها مع الحجر الأسود ليضفي عليها جانباً قداسياً، فيقول:
ثمة سوادٌ
اکثر بياضاً من مرايا الصباح..
الحجرُ الأسود
و شاماتکِ مثلاً (مسبحة من خرز الکلمات: 47)
و في ديوان ” لماذا تأخرت دهرا عليّا ” تأتي القصيدة الثانية لامرأة اسمها ” نهاوند ” يقول في حركتها الختامية :
ضوئية الشامات
” عشقائيل ” أوكل لي
رسالة أن أبشر باسمك
الوطن العليل
أن الهوى
سيعيد للبستان
عافية النخيل
فأنا
رسول هواك
للزمن الجميل (لماذا تأخرت دهرا: 28 و 29)
ثمّ تأتي القصيدة الثالثة من هذه المجموعة الشعرية معنونة بـ “ضوئية الشامات” ويبدو أن “ضوئية الشامات” موضوع حب جديد علامته الفارقة الأساسية هي الشامات الضوئية الساحرة التي خلبت لب الشاعر فعاد إلى التغني بها وإيفاء حقها لتكون عنوانا مستقلا للنص: “ضوئية الشامات”..
وعندما نقول إنّ “ضوئية الشامات” تمثل حبّا جديدا، فلأن الشاعر لا ينفك يعود إليه حتى وهو يراجع خسارات الستين عاما التي انقضت بعذابات وخيبات متلاحقة من عمره المديد .. يعود الشاعر في القصيدة الرابعة “على مشارف الستين” في المجموعة الشعرية نفسها، فيقول:
إن التي بالأمس تلحفني
دفء النهود وبردة الخُصل
أشركت حتى خلت مبسمها
لاتي .. وناهد صدرها هبلي
ضوئية الـ … ما عاد يجمعنا
خيط من السلوى فلا تصلي (المصدر السابق: 45 و 46)
السماوي هنا نراه يتشبّث بالماهية ويترك الأصل الماديّ، أي أنه ترك الشامة وتابع يستنطق ضوءها، مشغوفا ببعدها النائي، وعودة على حكايات جداتنا، بأن الشامة مقرونة بالضوء، و إنها تضيء قبر الإنسان بعد موته، فالمحظوظ مَن يُجني أكبر قدر ٍ من الشامات لتتحول إلى شموع مضيئة في عالم القبر (الثوري، 2010م، موقع المثقف).kh yahia 3
موتيف القلب:
يدلّ القلب علی معاناة الإنسان المناضل الذي يفور غلياناً ضدّ الطّغيان، و الذي يری من حوله الجياع و يصعب عليه أن يقدّم لهم شيئاً ينتفعون به. هذا القلب هو سلاح الشاعر في حياته وفنه، و ذخيرته في كل ساحات مواجهاته العاطفية والسياسية والاجتماعية.
والقلب كما هو معروف يمثل ثوب الإنسان في الثقافة الإسلامية والثوب الأبيض يعني القلب الأبيض والعكس صحيح، وله دلالات في الثقافات غير الاسلامية حيث يقول “فيليب سيرينج”: «إن القلب مقر لإقامة الشجاعة والمشاعر الدارجة كالفرح والحزن والخوف وكذلك المشاعر النبيلة كأن يقال هذا رجل له قلب طيب» (1992م: 251) والحب لا يمكن أن يكون مقره إلآ القلب، و يرتبط القلب بالدم أيضا ويرمز له بالروح في التوراة وهو رمز الطاقة الحيوية أيضا (المصدر السابق).
من خلال قراءتنا لشعر السماوي لفت نظرنا تداول ملفوظ القلب وتكراره بصورة كثيرة حيث يتكرر ملفوظ القلب في ديوان “مسبحة من خرز لکلمات” في حوالي عشرين مقطعا /خرزة لذا سنقرأ هذا الملفوظ و نبيّن دلالاته المختلفة في قسم من خرز هذه المجموعة.
يبدأ الشاعر في استخدام هذا الملفوظ من المقطع الأول في مجموعة “مسبحة من خرز الکلمات”، حيث يقول:
صغيرٌ – كالبرتقالة- قلبي..
لكنه
يسعُ العالم كله! (مسبحة من خرز الکلمات: 5)
وهنا نجد الشاعر يشاكل بين حجم البرتقالة وحجم القلب الذي حجمه بقدر كف اليد، ورغم صغره لكنه يسعُ العالم كله، وهي مفارقة يتوسلها الشاعر لخلق شعرية المقطع أعلاه؛ إن قارئ المقطع السابق يؤکد إنسانية الشاعر العظيمة و رؤيته الممتدة؛ و ما تنطوي عليه من نظرة إنسانية سامية شاملة للوجود، فقلبه الطيب الدافق بالمحبة يسع الوجود بأکمله.
في مقطع آخر يتوسل الشاعر ثنائية أخرى هي ثنائية (قلب – عباد الشمس) لخلق شعرية باذخة لخرزته النثرية حين يقول:-
أنتِ لستِ شمسا..
وأنا لستُ
زهرةَ دوّار الشمس..
فلماذا
لا يتجه قلبي
إلآ نحوك؟ ( مسبحة، 2010م: 6)
فالشاعر كان موفقاً بثنائيته أعلاه خصوصا عندما قدم ما يدعمها وظائفيا وهي التشاكل الحركي مابين قلب العاشق والمحبوبة وحركة زهرة عباد الشمس مع حركة الشمس، كما أن الشاعر خلق شعرية مضافة عندما نفى المشابهة بين ثنائية(الحبيبة – الشمس) عندما قال (أنت لست شمسا) وكذلك (الشاعر – دوار الشمس) عندما قال:(أنا لست زهرة دوار الشمس)، كذلك استعار ملفوظ القلب ليمثل الجسد(جسد الشاعر) أي أنه استبدل الكل بالجزء (شاهين، 2010م: 197).
و في مقطع آخر نقرأ ثنائية أخرى هي ثنائية (قلب – راية ) عندما يقول:
ألقيت قوسي وسهامي..
رافعا قلبي رايةَ استسلام..
فكوني المشنقة التي ترفعني للسماء
أو القيد الذي يشدني إلى الأرض( المسبحة من خرز الکلمات: 9)
في مقطع آخر يشابه تقنيا المقطع الأول نقرأ ثنائية أخرى (قلب – بستان)، حيث بالرغم من كل ما مر على الشاعر من معاناة وقسوة إلآ أن قلبه لا يزال عامرا بالمحبة وأخضر بل أعمق خضرة من كل البساتين حين يقول:
أكل هذه السنين العجاف..
الهجير..
الحرائق..
معسكرات اللجوء..
المنافي..
وقلبي لمّا يزل
أعمق خضرة
من كل بساتين الدنيا؟(المصدر السابق: 9)
السماوي بالرغم من کبر سنه إلّا ان قلبه مازال أخضر و طفلا فالإخضرار و الطفولة من الصفات الملازمة لقلب الشاعر و قد أصبح قلبه موطناً للحب و الهوی:
قلبي انا وطنُ الهوی
و وجوه أحبابي حدودي (قليلکِ لا کثيرهنّ: 109)
و أيضاً يقول:
قلبي انا مدينةٌ للهوی
فکن عليها سيّدا.. أميرا! (عيناکِ لي وطنٌ و منفی: 133)
و يری القلب دون حبيبة کالمبخرة التي ليس فيها بخور:
في آخر العمر اکتشفتُ
أنّ قلباً دونما حبيبةٍ
مبخرة ليس بها بخور…( قليلکِ لا کثيرهنّ: 40)
صحيح أنه قد اكتهل أو شاخ أو هرم بنيانه المادي ، إلا أن قلبه مازال راعشا بالجمال والحب:
هرمت قناديلي .. وشاخت جبهتي
لكنّ قلبي ما يزال فتيّــا (البکاء علی کتف الوطن: 123)
لعل نوعا من قلق الفناء .. من “قلق الموت” يقف وراء مثل هذا التأكيد المتكرر، والذي لا يتعب منه الشاعر. يزداد تواتر هذا التأكيد كلما تقدّم الشاعر في العمر، وكلما نهشت وجوده مخالب النوائب وكلما انتفي بعيدا عن رحم الوطن الأم؛ هذا التأكيد على أن القلب حي لا يموت، هو إجراء دفاعي ضد الفناء و محاولة لتأمين امتداد خلودي (سرمك (ا)، 2010م: 135).
فكرّر مفردة “القلب” وألح على هذا النمط الأسلوبي ليؤكد على أهمية القلب الذي يشكل مصدراً لوجعه وآلامه:
فأنا عدتُ بجرحٍ فاغرٍ
يمتدّ من قلبي الی المقلتين (قليلکِ لاکثيرهنّ: 124)kh-yahia-14
و في المقتبس التالي يری الشاعر ان الحزن لا يری مکاناً آخر يجتمع فيه غير قلبه:
ايها الحزن:
أما من مکانٍ آخر
تنصبُ فيه خيمتکَ
غير قلبي! (شاهدة قبر من رخام الکلمات: 77)
القلب هو مصدر حياة الإنسان وسر شقائه وسعادته ومستودع الأسرار. و في هذا المقبوس يخاطب السماوي الحزنَ الذي اجتمع في قلبه طيلة حياته؛ هذه الحياة التي حرمته من ملذاتها و زينتها، و جعلته غريباً يشقی بغربته.
موتيف الجنون:
و من الموتيفات الأساسية التي تتصل بموتيف “القلب” هو موتيف “الجنون”، إذ يکثر الشاعر من تکرار مفردة الجنون في نصوصه و كثيراً ما نجد هذه المفردة قرينة لمفردة القلب. فجنون السماوي يختلف عن معنی الجنون المتفق عليه لدی العامة بل أحياناً يکون الدليل علی سلامة عقله:
“جنونُ قلبي:
الدليلُ على سلامةِ عقلي!
…. …… ……..
…. …… …….
نهرُ رجولتي
لا يستعذبُ الجريانَ
إلاَّ
في حقول أنوثتكِ” (مسبحة من خرز الکلمات: 94)
إنَّ هذا الجدل الذي يعتمده يهدف إلى مسرحة تجربته، وإكسابها بعداً تأمليًّا؛ فالشاعر بإثارته المقابلة الفنية بين لفظة “الجنون” ولفظة “العقل الراجح” وسَّع آفاق رؤيته؛ مؤكِّداً أنَّ عاطفته ليست اعتباطية وليست عشوائية؛ بل هي متصلة بعقلانيته؛ هي عقلنة الغريزة وعقلانية الإحساس الدافق بها؛ لهذا لا يستعذب رجولته إلاَّ في حقول أنوثة المحبوبة، ودفقها وينابيع خصوبتها؛ فخصوبته لا قيمة لها بمعزل عن نعيم أنوثتها وبريق جسدها؛ ورجاحة عقله لا دليل عليه إلاَّ جنون قلبه وسمو عاطفته وعذوبة شعوره وإحساسه (شرتح (ا)، 2011م: موقع المثقف).
يذكرنا (القلب المجنون) أو في بعض الترجمات (القلب المضطرب) بما قالته ننسون للآلهة (شمش) حول ابنها جلجامش حين اعتزم السفر إلى غابة الأرز: “علام أعطيت ولدي جلجامش قلبا مضطربا لا يستقر؟” (باقر، 2007م: 104).
إن جنون قلب جلجامش لا ندري إن كان يشير إلى سلامة عقله أو إلى عذابه، فهو عندما ينوي شيئا لايعيده أو يمنعه عما انتواه أحد، حتى عندما أراد الذهاب إلى أتونابشتم لم تستطع فتاة الحان من أن تردعه حين قالت له:
“إلى أين تسعى يا جلجامش
إن الحياة التي تبغي لن تجد” (المصدر السابق: 142)
وإذا كان جلجامش يبحث عن عشبة الخلود، فإن الشاعر السماوي يبحث عن عشبة أخرى هي عشبة القصيدة لأنه موقن أن الخلود للآلهة فقط وأن بقاءه الروحي مرتبط ببقاء القصيدة، أما بقاؤه الجسدي فهو مستحيل ولكنه مرتبط ببقاء نسله الذي توفرها له حقول الأنوثة الخصيبة. وبالتالي فجنون قلب الشاعر دليل على سلامة عقله فهو اختار الطريق الصحيح لاحتيازعشبته عكس جلجامش الذي عاد فاشلا من رحلته وسرقت الأفعى العشبة منه (شاهين، 2010م: 200).
يقول السماوي في مقطع آخر:
أيتها البعيدة كقلبي عن يدي..
القريبة كالشمس من عيوني
ادخلي صحاراي آمنة
لأبايعك مليكة ً
في أقاليم جنوني
أنا الملك المتوّج
رعاياي:
الوردة..
السنبلة..
والعصفور.. (مسبحة من خرز الکلمات: 11)
فالشاعر هو ملك متوج في مملكة القصيدة وأقاليمها المجنونة كما أن القصيدة حبيبة بعيدة كقلبه عن يده وأن الشاعر ذلك المجنون المبدع الذي لا يحكم سوى الوردة والسنبلة والعصفور، وهو سليل أولئك الشعراء(المجانين المولّهين) من أمثال قيس بن الملوح وجميل وعمر بن أبي ربيعة (شاهين، 2010م: 201).
يدعو الشاعر حبيبته البعيدة القريبة لأن تأتي إليه هو الملك المتوّج في أقاليم جنونه ليبايعها ملكة في مملكةٍ رعاياه فيها الوردة والسنبلة والعصفور. على أرض الواقع هي مملكة قناعة، أما كونه ملكا متوّجا فهذا من حقوقه الدفاعية التخييلية، وهي نتاج طبيعي مادام الشاعر حاكما على ” أقاليم جنونه “. لكن الشاعر يعود في المقطع الثاني عشر ليتحدث عن نيته في إقامة “مملكة” للقناعة مشرعة الوديان (لا الأبواب) للورود والأطيار والغزلان، مملكة تكون أبعادها على سعة البصيرة (لا البصر).
سـأقـيـمُ ممـلـكــة َ الـقـناعـةِ
مُـشــرِعـا ً وديانـَـهـا لـلورد ِ ..
والأشـجارَ للأطـيـار ِ ..
والـيـنبـوعَ لـلغـِـزلان ِ ..
مَـمـلـكـة ً عـلى سَـعَـة ِ البَـصـيرةْ
الـمـالُ ؟
عـنـدي مـنـه ما يكـفي لأنْ أبْـتـاعَ
أشـياءً كـثـيـرةْ :
عِـطـرٌ لِـجـيـدِك ِ ..
مِـعْـضـَـدٌ مـن فِـضـَّة ٍ ..
ثـوبٌ من الكـتـّـان ِ ..
مِـشـْـط ٌ لـلضـَـفـيـرةْ
وقِـلادَة ٌ خـَرَزٌ ..
وكـحْـلٌ للعـيـونْ
وبطاقـَـة ٌ مفـتـوحَـة ٌ
لـدخـول ِ
فـردوس ِ الجـنـونْ (المسبحة من خرز الکلمات: 16و17)
وإذا كان قد فاجأنا سابقاً بين سعة المملكة في خياله وضيقها المكاني واقعيا، فإنه يُسأل الآن من قبل حبيبته عن مقدار المال الذي يملكه، فيخبرها بأن لديه منه ما يكفي لأن يشتري لها مستلزمات بسيطة .. هي حاجات جمالية عابرة لإمرأة اعتيادية: عطر ومعضد فضة وقلادة خرز وكحل للعيون فهي في مملكة القناعة كما وصفها .. لكن الشيء الفريد هو أنه سيشتري لها بطاقة مفتوحة تدخل بواسطتها إلى فردوس الجنون. وهذا هو قاسم مشترك ثانٍ بين المملكتين ، بالإضافة إلى القناعة، وهو الجنون الذي كان هناك إقليما فصار فردوسا. وتحت خيمة الجنون يمكن أن تُشاد الممالك. لكن الشاعر لم يبنِ ممالك ” جنونية ” ، بل كان ” عاقلا ” في رسم حدودها ورعاياها وثرواتها ، إنه ملك ” على نفسه ” كما يُقال (سرمک (ا)، 2010م: 125 و126).
وقد يرتد السماوي إلى ذاته؛ ليؤكد أن معرفته بما سيحدث هي من مصدر إلهامه، وحكمته؛ ولكن هذه الحكمة هي التي ستقوده – يوماً ما – إلى الجنون؛ لأنّ من الجنون لحكمة؛ ومن الحكمة لجنون وما حكمة السماوي إلا أن يصل إلى جوهر وجودي نبيل؛ ينشر العدل، والسلام، والوئام بين أفراد البشر؛ فنظرة السماوي الوجودية نظرة تفاؤلية لعالم جديد طاهر من دنس القتل، والدمار، والموت. لهذا، نجده يطعم أشعاره بالحكمة، والتأملات الوجودية الواعية بمسار الأحداث ومصائر الأمور (شرتح (آ)، 2011م: 143) إذ يقول:
لا تسأليني من أنا
فإنني أجهلُ من أكونْ
كلُّ الذي أعرفُه عني
أنا مدينةُ الحكمةِ لكنَّ الذي يدخلُها
لا بد أن يصابَ بالجنونْ” (السابق: 135)
يری السماوي ان الجنون من نعم الله عليه، فيقول:
من نعم الله عليّ:
نعمة الجنون (المصدر السابق: 27)
فيأخذ علی عاتقه صيانة هذه النعمة الإلهية و يحاول ان يعيد الاعتبارَ للجنون:
لي أن أعيد الاعتبار الی الجنون ( قليلکِ لا کثيرهنّ: 11)
و الحقيقة ان جنون السماوي هو نفس التعقّل و الحکمة، بل انه تعلّم الحکمة في متاهة الجنون:
أشکّ أن يکون مثلي عاقلٌ
تعلمَ الحکمةَ
في متاهة الجنون (البکاء علی کتف الوطن: 136)
و أيضاً له:
أشکّ أن يعودَ لي عقلي
إذا لم أکن المجنون (المصدر السابق)
کما يقول:
فلستُ بالعاقلِ إن لم أکُن
مجنونُ عينيکِ الشريد الشّقي! (عيناک لي وطن و منفی: 160)kh yahia 18
موتيف العين:
العين حاسة البصر و الرؤية. و مرآة النفس، و مفتاح شخصية الإنسان. فيها يتجلّی الحب، و البغض، و العداوة و الصداقة، و الرحمة، و القسوة، و الذکاء و الغباوة، و القوة، و الضعف، و الحزن، و السرور، و الصحة و المرض، و الأمر و النهي، و الهدوء و القلق. العين ترجمان الضمير، کوة علی المدی، باب الی التعرف، مصدر للجمال (الحطاب، 2003م: 13).
وجد فيها الملهمون عالم أسرار، و جمالات، و استيحاء، و قابل بها المحبّون من أحبّوا بقولهم: “انت عيني”، و أقسم بها الواثقون:”و حياة عينيک” و قرنها المغنّون بالليل فأکثروا من ترديد “يا عيني يا ليل”.
العين و القلب جناحان للحياة. هذه تری الوجود علی سطحه، و ذلک يری الکون في أبعاده و أعماقه، و لذلک سمِّيت عين الوجه باصرة، و سمّيت عين القلب بصيرة. العين أمّ الحواس لا تقوّم المقدّرات إلّا بعد أن تمرّ علی ميزاتها أولاً.
العين أداة البصر، و أرقی الحواس الخمس. و هي مع ملحقاتها الحاجب و الجفون، و الجهاز الدمعي أغلی شيء يملکه الإنسان في دنياه، لأنها الصلة بينه و بين عالم الضياء و النور. و هي وعاء سحري رائع تنطوي فيه صورة الأرض و السماء. لحاظها سهام تصيب جوارح، و تذکي قرائح. و هي ينبوع الوعي و الجمال يعجب الشاعر بظاهرها و تفتنه لحظاتها و غمزاتها، و يتخيّل ما في أعماقها من أسرار حسب إحساساته و وجدانه، و يصفها بمقدار ما في شاعريته من ضعف أو قوة. هي أجمل قطعة فنية وصفها الله في خلقه و جعلها فتنة للناس «وزوّجناهم بحور عين» (نفس المصدر: 14).
مفردة “العين” بمرادفاتها ومكوناتها ومشتقاتها الأفعالية حاكمة في أغلب قصائد السماوي.. لن تجد قصيدة واحدة لا يذكر فيها العين، المقلة، الجفن، الضوء، القنديل، الحدق، الأهداب، الجفون، الأرق، النظر، الصور، .. إلخ. و يحيى الآن يشكو من مرض خطير في عينيه .. ومن أطروحات التحليل النفسي أن العضو الذي يُصاب بمرض مزمن من جسد الإنسان يكون له في الغالب معنى رمزي، معنى عاطفي مشحون بالنسبة للفرد. و من المعلوم ان آفة السماوي المرضية جعلته يحن الی “العين”، و يلح عليها في قصائده، و کأن بقية أعضائه زوائد، و هو معذور، فقديماً قالوا «من ملک زهد»، و لا تُعرف قيمة الشيء إلا بفقده.
حتی أحياناً تنوب العيون في شعر السماوي عن سائر اعضاء البدن، فتحکي العيون بدل الشفة اذا ما أصابها خرس أو جهل لذهلها:
خرساء تجهلُ ما تقولُ لذهلها
شفتي .. و لکن العيون حواکي (البکاء علی کتف الوطن: 137)
کما يتخيّل الشاعر عيناً لسمعه فيقول:
أنقذتني مني .. فکيف خذلتني
وغضضتِ طرفَ السمع عن قيثاري؟ (المصدر السابق: 31)
و هذا من باب تراسل الحواس عمد له الشاعر لشغفه و هيامه بالرؤية و النظر دون السمع و لأهمية منزلة العين لديه.
من يدرس شعر السماوي منذ ثاني مجموعة شعرية له وهي “قصائد في زمن السبي والبكاء” الصادرة في عام 1971، يری أن رمز العين ومكوناتها والمفردات المرتبطة بفعلها طاغية علی القصائد السياسية والوجدانية على حدّ سواء. وحين يخاطب حبيبته في قصيدة “في ليلة الميلاد” – من مجموعته الشعرية قصائد في زمن السبي والبكاء ، ص 44- 46 – فإنه يخبرها ” كتبت عن عينيكِ ” ، وفي خطابه لشقيقته “غيداء ” وكانت في عامها الثالث وذلك في قصيدة ” إلى غيداء ” – ص 56 و 57 – فإنه يقول ” كتبت عن عينيك ” .. وفيها – أي المجموعة – تتكرر مفردات العين والحدقة والجفن والأهداب والرموش والأفعال التي ترتبط بفعل البصر بدرجة كبيرة . وفي القصيدة الأخيرة ” ضاحكة العيون ” تكون عينا الحبيبة الكون والسماء والروح والموت والحياة، هما اللتان في العلا، هما أسطورة خليقة كل شيء في هذا الوجود، في ماضيه وحاضره ومستقبله (سرمک (ا)، 2012م: 103) :
أذوب بها ، لها وجه صبيحُ
يصومُ على طهارته المسيحُ
لو ابصرها التقيّ لصار صبّا
يهيــــــم بحبّها لا يســـتريحُ
لها وجه يسكر ألف قـــــسٍ
وثغر للمسيح هو الضريحُ
أضاحكة العيون شغلت فكري
ففي عينيك شــــيطان وروحُ
رأيت الليل في عينيك صاف
رأيت الله فاتـــقد الطمـــوحُ
وأرغب أن أحدّث فيك عيناً
على أهدابها قد طاف نـوحُ
يباركـــها يقبّل كــــل جفن
ويغفو فالسفين هنا مــريحُ
ليصلبني هواكِ وأي صلبٍ ؟!
على عينيكِ لو أني المسيحُ ( قصائد في زمن السبي والبكاء: 101 – 104 ).
و في البيت التالي يقول الشاعر:
فرشت لك الأحداق عشب حقولها
أما الفؤاد فقد أتاك حفيّـا (البکاء علی کتف الوطن: 122)
هنا أسند عشب الحقول (الخضرة) الی الأحداق ليدلّ علی طراوته و حيويته تجاه المحبوبة..
و للشاعر تعبير يتکرر کثيراً في شعره وهو “نخلة الله في بستان عيوني” و يقصد بها الحبيبة كما يقصد بها المئذنة والمثُل العليا ورمزا من رموز الوطن.
يحيی السماوي يری الحب و الوطن في عينيّ محبوبته فيطلب منها ان تحترس و تخبّئ ياقوت عينيها قبل ان يُسرَق في هذا الزمن، فيخاطبها:
فاحترسي
و خبّئي ياقوتَ عينيکِ
فهذا زمنٌ يُسرَقُ فيه العشقُ و الوطن (هذه خيمتي فأين الوطن: 240)
کما انه يعتبرُ عيونَ محبوبته وطناً و منفیً له، و قد جاء عنوان أحد دواوينه تحت عنوان “عيناک لي وطن و منفی” و قد أخترنا البيت التالي أيضاً من هذا الديوان:
عيناک لي وطن و منفی.. فالهوی
ما بين موجٍ صاخب .. وسکون (عيناک لي وطن و منفی: 101)
کما يقول:
أبصرتُ في عينيکِ لي
بعد ضياعٍ وطنا (المصدر السابق: 86)
وطالما نری الشاعر يتغزل بعيون محبوبته، و يکتب الشعر لعيونها:
أبعثُ الشعر لعينيکِ .. عسی
اننا فوق سطور نلتقي! (عيناکِ لي وطن و منفی: 117)
وفي ما يلي يصف الشاعر قدسيّة عيون هذه المحبوبة فيقول:
عيناکِ محرابٌ و خمّارةٌ
شرقيّةٌ سُقانُها جمعُ جان (لماذا تأخرت دهراً: 106)
في هذا البيت أسند الشاعر”المحراب” الی عينيّ الحبيبة ليدلّ بذلك علي قداستهما و نزاهتهما، ثم جاء “بالخمّارة” ليدلّ علي صفاء العينين و استحواذهما علي لبّ الشاعر.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *