نزار السلامي : تألق القصة القصيرة جدا في الأدب الكركوكي التنكة” نموذجا

nazar alsalamiتعد القصة القصيرة جدا ، واحدة من أجناس الأدب الحديث ، التي استطاعت أن تشغل حيزا واضحا فيه ، وتلاقي تأييدا كبيرا واهتماما واسعا في الوسط الثقافي ، رغم كونها كانت ولا تزال محط تأييد وإعراض وشد وجذب ، يثير التساؤل والجدل في آن معا ، لاسيما من لدن أولئك الذين أنكروا ،، هذا اللون الأدبي وجحدوا بحقه بحجة كونه حالة طارئة ، سرعان ما تمر وتتلاشى وتذهب ريحها .
وقد كانت هناك حاجة ضرورية لولادة ونشأة هذا اللون الأدبي ، فرضتها عوامل ذاتية وموضوعية ، تمثلت بالتطور الكبير الذي آلت إليه القصة القصيرة وما رافقه من حداثة وتجديد ورؤى عصرية ، والانفتاح الكبير على الأدب العالمي شرقا وغربا ، والتأثر بالتحولات الاجتماعية التي أفرزتها السياسات الخارجية ، التي ساهمت بشكل أو بآخر بالحالة المعيشية للإنسان في مجتمعنا سلبا وإيجابا . والقصة القصيرة جدا أوجدت لها مناخا جيدا تمثل في إقبال الكثير من الكتاب ، على تناول هذا اللون الأدبي مما ساعد على نموه وتطوره وقبوله الحسن من لدن القراء لاسيما وإنها ولدت بشكل طبيعي ، وهذا ما ساعد على تحقيق ذلك ، فضلا عما حققته من إضافة جديدة في الجانب السردي من حيث الأشكال والمضامين التي كانت حكرا على القصة القصيرة والرواية .
وان أهم ما تتميز به القصة القصيرة جدا هو التكثيف والإيجاز والابتعاد عن الاستطراد والحد من تناول الموضوع من حيث التفصيل والإطناب ، مع بعض الطروحات التي تقتضيها الزيادة في حدة التشويق لدى القارئ بأسلوب رمزي يحتمل أكثر من وجه وتأويل ، فضلا عن أغناء المادة (الحكاواتية) بما قل ودل ، على وفق منظار يتابع الأحداث عبر فتحات صغيرة جدا ، يجتمع من خلالها المادة القصية التي تتكون منها مادة القصة .
ويفضل أن يرعى في هذا اللون الأدبي ، اللغة الشعرية المرنة ، التي يمكنها جمع أكثر من صورة في جملة قصيرة كما هو متعارف عليها في الجمل البرقية ، خالية من أي مقدمة ومختمة بضربة تدهش القارئ وتفضل أن تكون بدون نهاية مغلقة بشكل كامل .
وقد استخدم هذا اللون بشكل واسع في عموم المناحي الحياتية ، وجميع ما يتمتع ويشعر به الإنسان من علاقات اجتماعية أو عاطفية أو مكابدات منوعة سواء كان مصدرها الذات أو المحيط .
إن ما يميز القصة القصيرة جدا ، ويعد من أهم قواعد كتابتها هو القصر والسرعة في التعبير ، وهذا ما جعلها تتناغم مع الحياة العصرية التي تقتضي السرعة والاختصار في كل شيء ، وقد أجاد فيها وأبدع عدد غير قليل من الأدباء لاسيما في العقود القليلة المنصرمة ، حيث كانت هناك قصص غاية في الروعة نشر اغلبها في الصحف والمجلات ، وعبر مواقع (الانترنيت) ، وفي مجاميع طبع جلها على نفقة أصحابها خصوصا في محافظة كركوك التي كان لها حظا لا بأس به في هذا المضمار ، إذ أتحفنا الأديب والصحفي المعروف عدنان القطب بمجموعته الرائعة (آمال) والزميل القاص موشي بولص بمجموعته الجميلة (أشجان هائمة) والأديب والصحفي اللامع الأستاذ جليل البصري بمجموعته الراقية (التنكة(.jalil-albasri
وحينما نقرأ قصص هذه المجموعة (التنكة) نجد اغلبها كناية عن مشاعر نابضة بظروف زمانية ومكانية تثير الانتباه وتجعلنا نطل عليها وعلى الكائن الذي خلفها ، واذا تعذر علينا ذلك ساعدنا هو بتنظيم العناصر الاشارية ضمن اندراج دلالي واحد ، فالكلمة المعبرة لديه إحساسا ومشاعرا تخطر على بال الإنسان الأديب ، ليشعر أحيانا انه يريد أن ينفس عن مشاعر مكبوتة في نفسه ، بجمل منه وهذا غالبا ما يخضع لمناسبة او موقف معينين لينطلق الى آفاق بعيدة من الخيال الممزوج بالواقع حتى يقترب من الناس في اختيار اللفظ والمعنى والتعبير عنهم بكل صدق ، ليحيلها إلى عالم مرئي وفق عبارات ذات إيقاع يتلائم مع واقع الحدث ومحتوى الصورة الإنسانية في الزمان والمكان والتي تنتقل ببطىء من شكل لأخر ، دون أن تشكل صدمة في المشاعر والأحاسيس عبر بناء فني تعبيري يدخل فيه أحيانا عبر المبالغة والتضخيم ، دون أن يؤثر ذلك على ذهنية المتلقي .
والواقعية التي امتازت بها أقاصيص البصري لها صورة حية تستند على حدث أو حكمة ، يعبر فيها عن الوجود الإنساني من خلال رؤية معبرة تسكن في الكلمات ، والكاتب يسكن فيها وسيطا بين الكون وبين الآخرين عن طريق اللغة الوصفية والتعامل الإنساني مع الواقع ، وما يطمح هو الآخر عبر تكنيك فني ، وإحساس عميق حيث وظف الكثير من المفردات الحية توظيفا نفسيا وفكريا وفنيا من خلال ذهن يتسم من كينونة الواقع التي تنبعث عنها الحركة ، في مجرى الأحداث المتصاعدة شيئا فشيئا ، بشكل جميل kh jalil tankaووفق أسلوب بنائي بسيط يعطي المشهد فعلا انعكاسيا ، إذ نراه يعمل جاهدا على أن لا يضيق حدود المشهد ، بل يكثف جوانبه الحسية بشيء من التهويم من خلال إشارات من تشكيلات من الصور وتجمعات من المعاني فتتداخل الصورة مع المعنى . ونجد إن البصري في معظم قصصه في هذه المجموعة أرادها أن تكون عبارة عن رسائل يريد إيصالها إلى القارئ وهي تحمل في طياتها خوالج نفسه المثقلة بالحزن وما يكابده من أوجاع عصره فضلا عن كونها حافلة بالمواقف الإنسانية التي تهم الجميع ، حيث صور فيها ما يتمناه الإنسان لنفسه وللآخرين من خير ، ومحاولاته اقتحام المحظور الاجتماعي في بيئته خلسة مع إن ذلك من مسلمات المتع البسيطة والتافهة عند الآخرين من الناس البعيدين عن الواقع الشرقي كما في قصة (التنكة) ، ووصفه للمرأة الساذجة المحرومة من العلم والتعلم ، والجدل الذي يفضي إلى اللاشيء ، والطرافة والظرافة في الموضوع سواء في الشخصية أو الحوار أو النتيجة التي يخلص لها القارئ واستذكاره لمأساة شعبنا الكوردي في مدينة حلبجة على وفق قفشات عفوية تحكى على لسان الكبار والصغار ، بشكل معبر ومقتضب ، وتطرقه إلى الفساد المستشري في بعض الدوائر والمنظمات ، وأسلوبه الناجح في الخاتمات التي تكتنفها الدهشة التي تدفع القارئ أحيانا إلى الذهول والانكماش والحب وما يعتريه من انفتاح وانغلاق في العلاقة بين الرجل والمرأة ، والتناقض بين الطموح والواقع وظروف الإنسان المعقدة والمنهكة في البيت .
وأخيرا نقول : إن هذه القراءة الموجزة لمجموعة الزميل جليل البصري الموسومة بـ(التنكة) قد استندت إلى قيمة المادة المكتوبة ، ومدى معالجتها وتحليلها لظاهرة ما أو حدث معين ، أو دلالة إيمائية مهمة ، نأمل أن تكون موفقة بعض الشيء فيما هدفت إليه.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| جمعة الجباري : قراءة الدلالات الشعرية عند الشاعر صلاح حمه امين في ديوانه “عقارب الساعة التاسعة”.

* صلاح الدين محمد أمين علي البرزنجي المعروف بالاسم الحركي صلاح حمه أمين،  شاعر وفنان …

| اسماعيل ابراهيم عبد : على هامش ذاكرة جمال جاسم امين في الحرب والثقافة – تحايثاً بموازاة عرضه .

الكاتب جمال جاسم أمين معروف بين المثقفين العراقيين باتساع نتاجه وتنوعه كمّاً وجودة , فضلاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *