فاطمة خليفة* : شاعر منفيّ .. وقصائد منفية (ملف/68)

aisa 11 (2)إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تحتفي بالشاعر الكبير “عيسى حسن الياسري” بهذا الملف الذي – على عادة الموقع – سوف يستمر لحلقات كثيرة لأن الإبداع الفذّ لا يحدّه زمن . لقد وضع عيسى الياسري بصمته الشعرية الفريدة على خارطة الشعر العربي والعالمي . نتمنى على الأحبة الكتّاب والقرّاء إثراء هذا الملف بما يتوفّر لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق تحتفي بمنجز هذا المبدع الفذّ وتوثّق حياته الشخصية والشعرية الحافلة بالمنجزات والتحوّلات الإبداعية الثرة.

المقالة :

*كاتبة لبنانية تقيم في أميركا `

من منا في العالم العربي قرأ للشاعر العراقي عيسى حسن الياسري؟. أسأل بعض المثقفين عنه فيقولون بأن الإسم ليس غريباً عنهم، فأعلن لهم بأنه الشاعر العراقي الذي وصلت كلماته إلى مثقفي الغرب ولم تصل للأسف كلماته بعد إلينا، وأزيد لهم بأنه الشاعر العربي الذي خصّه مهرجان الشعر العالمي الذي أقيم في روتردام عاصمة الثقافة الهولندية بتاريخ 25-5 2002 بجائزة الكلمة الحرة العالمية وهي الجائزة التي استلمها قبله الشاعر رافائيل البرتي. من منا لم يسمع بالشاعر الاسباني رافائيل البرتي؟، لعل اشتراك الأديبين في الحصول على الجائزة ذاتها قد تفتح اهتمام الناس بمتابعة نتاج هذا الشاعر.
منذ فترة وأنا أتابع أعمال هذا الشاعر، التقيتُ به عام 2005 في إحدى الندوات الأدبية في أميركا ولا يزال اهتمامي بكل ما يكتبه قائماً. منذ فترة وصلتني مجلة “صدى المهجر” لرئيس تحريرها الدكتور لطفي حداد، فإذا بي أعثر بين صفحاتها على قصيدة غير منشورة سابقاً للشاعر الياسري تحت عنوان” الممثل”. هي قصيدة لا تشبه إلا نفسها، إنها قصيدة فريدة تجعل المشاعر الداخلية تخرج عن كامل إرادة القارئ فيعيش بعدها بحق في ذروة متعة القراءة. سأعرض هنا قراءة لبعض الأبيات علّني أنقل عدوى المتعة النفسية والذهنية إلى القارئ، وعلّني أحث دور النشر على إعادة نشر أعمال الشاعر .
****
يقف ممثل على خشبة مسرح أمام الجمهورٍ فيسرد لدموعهم خلاصة تجربته ثم احتضاره. هل نحن أمام مسرح أو رواية أو قصيدة؟، ربما هي بوتقة من هذا المزيج للعناصر الأدبية التي انسجمت في اشتراكها منذ بداية القصيدة:
” قبل أن ينتهي العرض
سأعلن لكم
بأنني لستُ الوحيد الذي تنتهي
أدواره بالهزيمة ”
وضعنا الممثل إذاً أمام نهايته منذ البداية ثم أنبأنا بوجود ممثلين دائميين وأعلن عن قدوم ممثلين جدد كانت وستكون لهم الأدوار نفسها والنهايات ذاتها، لم يعددهم ولم يذكر أسماءهم ولم يروِ لنا حكاياتهم الطويلة، لكنه اختصرها بكلمتين نقلتنا في لحظةٍ قصيرة إلى صراعات وهزائم وانكسارات لا حصر لها :
” كثيرون هم الذين يصعدون على
هذه الخشبة
وستسدل عليهم الستائر
وهم مجللون بالهزيمة مثلي ”
عندما وقف الممثل أمامنا ، لم يحضر إلا بنفسه، لم يكن هناك وجود لممثلين آخرين. صحيح أنه كان يتحدث عن خشبة مسرح وأدوار معينة لكنّ هذا الكلام لم يكن سوى عرضاً لطواعية في التعبير تقود بالممثل إلى حيث يشاء. فالمسرح الذي كان يتحدث عنه تحوّل بعد حين إلى سفينة تغرق بمن فيها وبما عليها:
” السفينة ستغرق
ومعها سأغرق أنا وكل الذين
يشاركون في تمثيل
هذه المهزلة ”
مع اقتراب الغرق أطفئت الأنوار وغاب الجميع في عتمة أبدية لكن عجلة التمثيل على المسرح لم تتوقف!. .لا أحد قبل هذا الممثل -الشاعر جعلنا نقرأ ونشاهد مسرحية في عتمة ومن دون أية إضاءة، لكننا مع هذا استطعنا متابعة الأحداث :
” إنها العتمة
وها هي تطبق عليّ كحائط من القار
والذي كان يعزف على مفاتيح الإضاءة
قد تخلى عن دوره ”
مسرح هذه القصيدة استغنى عن كل المؤثرات الصوتية والموسيقية والحركية وعن كل الألوان والإضاءات والإضافات التي تساهم عادة في إنجاح العمل المسرحي المعروف واكتفى بدلاً من ذلك بالإعتماد على المؤثرات العاطفية والإنفعالية وبالمطلق. وبما أنّ أغلب الأحداث جرت في الظلام فإنّ الشاعر شدّد على العتمة بمخاطبته الدموع التي شاهدها في أعين الناس وهي تضيئ القاعة بالرغم من الغرق والإحتضار، هذه الدموع التي وجد فيها بعضاً من العزاء فجاءت كلماته ممتنة:
” رأيت دموعكم رغم عتمة القاعة
وصغر دوري
كنتم تبكون
وأنا أغني لحزانى أهلي
وأربت على يتم أطفالهم ”

هذه الطواعية في قلب الأشياء وفي التعبير بصور مختلفة هي ميزة في قدرة الشاعر على التعبيرعن مأساة كل شخص لا يملك إلا صوته ومخيلته في استخدام التشابيه والإستعارات. وكانت هناك بالفعل قدرة سحرية في جعل صوت الممثل ينتقل متكسراً إلى مسامعنا فيلوي فينا غصة في قلوبنا:
” وأنا أوشك أن أنهي دوري
أعلن لكم
أنني سأتداعى فوق الخشبة
بلا رغبات أو أحلام
أو حتى أمنيات صغيرة ”
أما حركة الممثل المتعبة، فهي انتقلت مباشرة إلينا مع ذاك القميص الذي خلعه بوهن، هو لم يقل وهناً، لكنه جعلنا نشعر به من خلال النبض الضعيف لإيقاع كلماته عندما رفع قميصه مع حركة تعب لكنها بالتأكيد حركة نهاية :

” رفعت آخر خرقة من قميصي
كجندي نفدت ذخيرته
والمعركة ما تزال على أشدها ”
وانتهت أخيراً حتمية الموت مع تأكيد ممتن من قبل الممثل باقتراب النهاية لأن الغرق هو بمثابة “خشبة” الخلاص:
” انظروا
ليس ثمة قارب نجاة
أو حتى خشبة طافية ”

****
انتهت حياة الممثل إذاً بعد هذا الغرق وسط عتمةٍ وصمتٍ عميقين. استبق الممثل موته بالدعوة إلى الإلتزام بهذا الهدوء وبأن لا يُعكّر بأي تصفيق لأنه سيعلن أمامهم وصيته الأخيرة :
” ما أريده في نهاية العرض ألا تصفقوا لي
فقط
أريد أن ترقدوا جسدي في
قبر عراقي ”
هذه الوصية التي تبدو بسيطة للبعض إلا أنها تعكس ظروف الشاعر وصعوبة تحققها، لهذا كررها مرة أخرى مختتماً قصيدته الرائعة برجاء منفعل :
” أرجوكم أن ترقدوا جسدي في
قبر عراقي
إذا لم أحصل على هذا القبر
فإن روحي ستظل هائمة على وجهها
تندب وتبكي
كروح من مات وظل جسده..
في العراء ْ ”
****
تسدل الستارة أخيراً على العتمة و الممثل والوصية وكامل العرض الجنائزي المحزن، تماماً كما أُسدلت على من سبقه وعلى من ستلاحقه الهزائم من بعده :
” ستسدل عليهم الستائر
وهم مجللون بالهزيمة مثلي ” .
…………………………
*نشرت في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ 27 تشرين الثاني 2007 .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *