جليل البصري : المصابيح الصفر

jalil-albasriكم هو مؤنس تلألؤ النجوم في سماء الليل.. وكم هي مؤنسة تلك المصابيح الصفراء الكبيرة التي تزين الساحات والشوارع الرحبة، فتمتد أذرع أنوارها لتدفع الوحشة الليلية عن الرصيف واسفلت الشارع والدكاكين التي تقف متراصة كأنها تخشى السقوط في العتمة… تتكور على يافطاتها المضيئة وانوارها الشحيحة لتتقي جلدة الظلمة خلف جدارها الغائب.. كم مؤنس أن تتموضع أبنية صغيرة متواضعة في فيض الكتل الكونكريتية المتسامقة الصماء في المدينة لتضم في أحشائها الدفء.. موقد النار والسماور وأصوات صحون الشاي حين تهرب من وقع الأستكان (قدح الشاي) فترتطم بالمنضدة الصغيرة المصنوعة من التنك ويستكين هو مطلقا بخاره الحميم وقطرات تزيد صفرة المنضدة فتشوه بقعاَ قد جفّت لتوّها… تسحبك رائحة الصمون المنبعث من الفرن المجاور والشواء المنساب من مواقد المطاعم الصغيرة (الشاورمة و الكباب والتكة..) لتتحسس جيبك.. تتمنى أن يحل (حجي زبالة) ضيفاَ على صف الدكاكين المقامة على رصيف هذه المدينة الجبلية، ليتأجج بخار الحليب والصمون الحار ويكبح جماح الأسعار… لكنه ظل جزيرة في بحر ليل الحيدرخانة و ظلام شارع الرشيد وواحة ساكني الليل مثلي.
اتسعت عيناي وهما تغرفان هواء الشارع العاري كصدر إمرأة، تشم عبير الأضوية الصفر و تتابع حركة السيارات الشحيحة في هذا الوقت المتأخر من الليل وهي تمزق بحدتها صفاء أنوار الشارع الهادئة و ثبات أنوار الدكاكين… لماذا لا تقف هذه العربات تكف عن نزقها و عجرفتها وتباهيها المختبئ خلف أشكالها الجميلة الزاهية، هل هو ثمن الجمال دائماَ؟!!
كانت عيون أصحاب المحال المجهدة تتابع بعد يوم مضني القادمين على الرصيف والمترجلين من السيارات المتوقفة حتى يدخلون مكان ما أو يتوقفوا عند واجهات دكاكين الحلويات أو الأدوات الكهربائية، بفضول لا تشوبه رغبة أنانية بأن يكون ضيفهم..
سيارة حمراء حديثة توقفت فترجلت منها امرأة سمراء جميلة مدورة الوجه تعتمر نظارات شفافة تفضح عينيها الصفراوين، وهي تتأبط ذراع رجل، قد بدأ الشيب يتسرب الى صدغيه. اقتحما عليّ خلوتي ووحدتي.. أحساسي بملكية المكان و الليل والأنوار الصفر، وهذا النفس الأخير من باعة الليل في الدكاكين و على عربات الرصيف المستأنسة بأضواء الدكاكين ودفئها …جالت عيناها في كل إتجاه وتمسكت بذراعه أكثر، تراصت معه ألتصق فخذها به، فتناثر القلق المتسرب الى عينيها في بشرتها السمراء.
دخلا المطعم الكبير وأسترخت على كرسيها، أفردت ذراعيها على المنضدة ونفضت عن كتفيها تكورها القلق.
ما أتى بها في هذا الليل.. هل هي مثلي تعشق الأضواء.. حركة الشارع والدكاكين والتسكع على أبوابها بعيداَ عن دفء البيوت و حماية الغرف و لسعات النار في المواقد… هل تعشق مثلي أختزال الليل للمدينة الى رقعة صغيرة يحجبها الظلام عما حولها، فتصبح كالقلب في جسد ينام.. تحسست أكتافي المسترخية … تطلعت الى عيوني في زجاج الواجهة كانت تفيض بالهدوء.. فتكور كتفاها وهي تغادر المطعم ليسترخيا على مقعد السيارة الوثير.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| د. زهير ياسين شليبه : المهاجر .

كان علىَّ اليوم أن أرى فيلم المهاجر! اتصلتْ بي شريكة حياتي، أو “نصفي الأفضل” كما …

| عبدالقادر رالة : زّوجي .

    أبصرهُ مستلقياَ فوق الأريكة يُتابع أخبار المساء باهتمام…      إنه زّوجي، وحبيبي..     زّوجي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *