(ورشة لصناعة التوابيت شبه مظلمة، واجهتها المطلة على الشارع مغلقة، “سليم” كهل نحيل يجلس على مقعد قرب الواجهة، الى جانبه يقف “خالد” وهو شاب في حوالي الخامسة والعشرين يرتدي بدلة عمل، على مقربة منهما يجلس شاب آخر “عادل” يقرأ في كتاب).
سليم: والآن ماذا سنفعل؟…هل سننتظر الى ما لا نهاية؟
خالد: بالطبع لا، سنمهله عشر دقائق أخرى فقط. إنها مهلة أخيرة ولا شيء بعدها.
عادل: وبعد ذلك؟
سليم: سنفعل ما هو مناسب، سنبحث عن حلٍّ ما.
عادل: ولماذا لا نفكر من الآن بما سنفعله؟
سليم: مازال لدينا بعض الوقت، إنها بضعة دقائق قد يتغير فيها كل شيء.
خالد: ولكنني أخشى أن يعود أبي خلالها.
سليم: إذا حدث ذلك سنجد عذراً معقولاً لننهي كل ما بدأناه، سنتخلص من هذا الجنون ربما الى الأبد.
خالد: ستنفذون بجلودكم لتقع الكارثة على رأسي…سيتحول الى بركان حين يجد أن ورشته قد أصبحت مسرحاً في السرِّ، وبدلاً عن أشباح الموتى التي يراها ويسمع تنهداتها لوحده…ستلاحقه بين جدرانها أصوات كائنات الورق الخيالية.
سليم: كان رأيي منذ البداية أن نطلعه على الحقيقة.
عادل: لم يكن ذلك ليجدي كثيراً.
خالد: كان سيطردكم، ثم يستدير ليحطم جمجمتي بأقرب مطرقة.
عادل: إنها مغامرة إذاً من أجل المسرح والحب والحرية، محاولة للإنتصار على الموت.
سليم: لا نريد كلمات كبيرة، نحن لم نزل في البداية، ليس بين أيدينا سوى مخطط بائس لشيء نعتقد أن إسمه مسرحية…لا بداية له ولا نهاية.
عادل: قلت لكما منذ البدء أن الإعتماد على “سامر” في كتابة النص يشبه المراهنة على سلحفاة في سباق للركض، بماذا يختلف عنّا؟ هل نعطيه الحق في ترؤسنا لأنه مثَّل دوراً ثانوياً في إحدى المرات…حدث ذلك بالصدفة وفي مسرحية بائسة.
سليم: ولكن ما قدمته أنت من أفكار خلال أسبوع كان تافهاً، أنت ياصديقي تقرأ ولا تفهم. أنت تطارد مشكلة واحدة هي “اللاوضوح”.
عادل: بل قل هي مشكلتك، أنت لا تفهم الأفكار والصيغ الجديدة، لا تفهم ما هي الحداثة ولا ما حدث بعدها.
سليم: لا يهمني ذلك، لست معنياً بتاريخ الأفكار أو الأشكال، ببساطة أنا لا أعترف بأي نصٍّ لا يُفهم أو يحاول أن يجعلني لا أفهم.
عادل: كل ما هو جديد يبدو غريباً في البداية.
سليم: ولكنه في كثير من الأحيان مفهوم وممتع ومثير.
عادل: هذا كله موجود في ما أكتب، وإذا كنت تتهمني بالسوداوية، فماذا أفعل إذا كان ما يحيط بنا مظلم وسوداوي. ماذا أفعل إذا كنا نعيش في دوامة من القتل والخراب تبدو كأنها بلا نهاية؟
(يحدث إنفجار مفاجيء، تعقبه رشقات رصاص)
هل تسمع؟ ها قد بدؤوا ترديد أصواتهم الليلية، إنهم يقتلون الأجساد في النهار ويعذبون الأرواح في الليل. ثم يغيِّرون الطريقة غداً، يقتلون أرواحنا في النهار ويعذبون أجسادنا في الليل، الدوامة نفسها، المهم أنهم نتذكر في كل لحظة رائحة الموت.، ونراه ماثلاً أمام أبصارنا.
سليم: (كأنه يحدث نفسه بيأس) ولكن ياصديقي، توجد وسط أي ظلام بارقة أمل. هناك بصيص من الضوء حتى وإن كان ضئيلاً.
(يلتفت بإتجاه خالد)
لم أنت صامت؟ هل نمت؟…قل لي كم تبقى من الدقائق العشر؟
خالد: لا أدري، ربما بإمكاننا أن نبدأ الآن.
عادل: ولكن بماذا نبدأ؟ ليس لدينا ما نبدأ به.
(تسمع أصوات في الخارج، يصدر صرير عن الباب ويفتح جزئياً، يظهر رأس شاب كأنه يتلصص وحين يتأكد من الموجودين، يدفع دراجته ويدخل).
سامر: (يضع الدراجة في إحدى الزوايا). ها…هل حضر الجميع؟
سليم: نعم يا عقلنا المدبر…ألا ترانا؟ نحن هنا منذ ساعة.
سامر: ولكن موعدنا هو السابعة.
عادل: كلا، لقد إتفقنا على السادسة والنصف، وبالتحديد بعد نصف ساعة على إغلاق الورشة، هل حقاً أنت لا تتذكر،؟ أم تحاول أن تشغلنا عن محاسبتك؟
خالد: لِمَ لا تعتذر عن التأخير؟ إنها ليست المرة الأولى التي تتأخر فيها.
سامر: إفترض أنني تأخرت، أليس ذلك أمر طبيعي؟ أليس من الأفضل أن أتأخر بضعة دقائق من أن لا أحضر أبداً… ثم تعثرون على جثتي غداً بلا رأس، أو ربما لا تعثرون عليها أبداً…لقد قطعت الطريق يراودني إحساس بأنني ذاهب الى الموت، ثم حدث إنفجار في الشارع الذي يؤدي الى هنا وإنطلق الرصاص من كل مكان، لا شك أنكم سمعتم….
خالد: نعم سمعنا، نحن لا نعيش في عالم آخر….
سامر: بل أقرب إليه، فإلى أين تؤدي هذه التوابيت المنتشرة في كل مكان، إنها أغلفة الموت التي تحيط بصوره الأولى…تجعلها أكثر ألفةً وأكثر قبولاً.
عادل: وهكذا ستحلِّق بنا بعيداً حتى ننسى أنك تأخرت وأخرتنا معك.
سامر: إفترض أنني تأخرت، أليس في تأخري أحياناً الكثير من الفوائد؟ ومنها المفاجأة التي سأكشف عنها بعد قليل.
سليم: أية مفاجأة؟ لقد خسرنا أكثر من ساعة، كان بإمكاننا أن نفعل فيها أشياء كثيرة…أين الأوراق التي أخذتها بالأمس؟ الملاحظات والخطوط العامة والحوارات التي إتفقنا على أن تمهد للفكرة في الفصل الأول.
سامر: لا جدوى منها، لقد راجعتها في البيت وإكتشفت أنها عبث وهذيان، فمزقتها….سنبدأ من فكرة جديدة.
عادل: ماذا تقول؟ من أين جئت بهذا الإقتراح؟ لقد وصلنا بالأمس الى بداية نصٍ معقول ومقنع.
سامر: ولكني حين قرأته بإمعان إكتشفت سذاجته، بصراحة: أريد شيئاً آخر، مليء بالحيوية…فيه روح وغرابة، نص جديد وساحر لم يكتب من قبل.
عادل: هل تسمع يا سيد سليم؟ هذا ما كنت تنتقدني من أجله.
سليم: إسكت قليلاً ودع فيلسوفنا يقول كل ما لديه.
خالد: رجاءً، لاوقت لدينا، لنبدأ أو لننتهي من كل شيء…لقد بدأت أحس بالضجر.
عادل: بل أنت خائف، فإذا كان بإمكاننا أن نهرب في أية لحظة، فإن الكارثة بأكملها ستقع فوق رأسك.
خالد: ولكنني لن أنتظر وقوعها بينما يحتدم النقاش في ما لا جدوى منه، لماذا لا نبدأ الآن؟…
سامر: لماذا؟ لقد قلت أنني قادم ومعي مفاجأة…وها أنا أعلن عنها الآن.
سليم: ولكن قبل ذلك، لنتفق على صيغة أخيرة وواضحة، فإما أن نعمل أو ننتهي من كل شيء…لا نريد أن تدور بنا هذه الدوامة الى مالا نهاية.
سامر: بل سنقوم بما هو مناسب، سنصنع ما هو جديد، ما يتفق مع الأفكار التي بدأنا منها، ما الذي تغير فينا؟ هل تلاشت في أذهانكم جذوة الأمل؟
سليم: لقد إتفقنا على أن نصنع شيئا ما أمام لحظة الموت الطويلة، أمام الظلام واليأس والدمار، أمام الرداءة والمجانية وفساد الأرواح، أن نضع ولو حصاةً أمام الطوفان.
سامر: وهذا ما سنفعله، ولكننا لن نستطيع ذلك بأفكار متخلفة، قديمة، لا تحرك عصباً واحداً في ذهن المشاهد الذي نريد أن نشعره بالصدمة.
عادل: صدمة؟هاهاهاهاهاهاها، أتريد أن ترعب المشاهدين منذ البداية؟ ألا تكفي الصدمات التي تتساقط فوق رؤوسهم في كل لحظة؟
سامر: لماذا تفهم كلامي دائما بشكل سطحي؟ ما أعنيه بالصدمة مختلف قليلاً، أريد أن يضيء نور خافت مكاناً ما في عقل المشاهد، يشعره أن بارقة الأمل لم تنطفيء بعد، أريد شرارة تضيء بسرعة ولكنها قبل أن تنطفيء، تترك أثراً، جرحاً، خدشاً، لحظة من الصفاء مع النفس، وإعادة تسوية أمور كثيرة معها…ذلك ما أعنيه بالصدمة…..
خالد: سنظل إذاً بإنتظار أن تصدمنا، إصدمنا يا صديقي وإنقذنا من عذاب الإنتظار…إنهِ كل مشاكلنا بسرعة.
سامر: سأفعل كل ما تريدون، ولكن قبل ذلك إمنحوني قليلاً من الوقت.
عادل: وهكذا…أوقات مستقطعة متتالية، لنظل ندور معك في حلقة مفرغة بإنتظار الصدمة، لماذا لا نحرق الورشة مثلاً ونصنع صدمة لا مثيل لها؟ صدمة تأخذ ما تبقى من عمر العجوز المسكين الذي يجهل ماذا يجري هنا.
خالد: إنه يجلس الان أمام المدفأة يفكر بما سيصنعه في الغد، أعتقد أن الخشب قد تغلغل في كل أجزاء جسمه، حتى أحلامه وأفكاره صارت من خشب.
سليم: (الى سامر) يا صديقي العزيز، لِمَ لا نتجاوز هذه المشكلة؟ لِمَ لا نبدأ من نصٍ مطبوع؟ هناك مسرحيات كثيرة تناسب ما نفكر به، فيها عنف وقتل ودمار. فيها مزيج من التراجيديا والسوداوية والكوابيس، هل تريد أن أذكر لك بعض الأمثلة.
سامر: وهل هذا ما نريده؟ ما أفكر به شيء مختلف، نص نخترعه بالكامل، يمثل كل آلامنا وعذاباتنا ومخاوفنا، نطارد من خلاله الموت ولا نترك له فرصة ليستمر في مطاردتنا…نص نصنعه معاً في ورشة التوابيت هذه من مادة الموت الأولية، نستمده مما نراه ونحس به، من الواقع الذي نريد أن نتركه بلا جدوى خلف ظهورنا…أليست هذه هي فكرة الورشة التي إتفقنا عليها؟
سليم: بالتأكيد، ولكن هل سنظل في كلِّ مساء ندمِّر ما صنعناه بالأمس؟
سامر: نعم، حتى نصل الى ما نفكر به، الى نصٍّ واضح وموجز وحافل بالأفكار، نص عن محنتنا الراهنة، عن الكائنات المعذبة التي يحاصرها الظلام من كل جانب.
عادل: ومتى سيحدث ذلك؟
سامر: سيحدث، سيحدث…ولكن قبل أن يأخذنا الجدال بعيداً، إمنحوني بضعة دقائق لأريكم المفاجأة، بضعة دقائق فقط.
(ظلام)
سامر: (يظهر وحده في دائرة الضوء) سوسن، إدخلي رجاءً، أين أنتِ؟
(الباب يفتح ويصدر عنه الصرير المعتاد، تدخل الى المسرح فتاة في العشرين تقريباً بخطوات متعثرة وتقترب من دائرة الضوء).
سامر: هيا يا سوسن، هل مازلت مرتبكة؟ لا يهم، بعد لحظات ستعتادين على الفوضى وستجدين أن كل شيء في مكانه الطبيعي…تخيلي نفسك في مسرح كبير. تخيلي أنك ترين مناظر وستائر وأضواء بدلاً من هذه التوابيت.
سوسن: إعذرني، لم أدخل الى مكان كئيب كهذا من قبل، وخصوصاً في وقت متأخر، لست مرتبكة فقط، أنا خائفة….
سامر: لا يهم، إنها البداية فقط، ستعتادين بالتدريج، سنحاول غداً أن نبدأ في وقت مبكر.
سوسن: ومع ذلك سيظل هذا المكان مخيفاً بالنسبة لي، كيف سأنام وأنا أفكر بهذه التوابيت؟ ثم كيف سأتجاوز مشكلة الوقت؟ لن أستطيع الحضور دائما في مثل هذه الساعة.
سامر: إنها متاعب أول الطريق، مشاكل يمكن حلها، ثم ستكتشفين ما هو سحر المسرح الذي حدثتك عنه، ما هي متعة أن يمثل المرء وأن يصنع شيئاً من العدم، شيئاً لم يوجد من قبل.
سوسن: لن يحدث ذلك وأنا في هذا الخضم الغريب من الأشياء: توابيت وآلات وألواح خشب و…..
سامر: حاولي أن تتآلفي مع المكان، تعاملي مع الأشياء كأنها كائنات حية مقيدة.
سوسن: لا تأخذني بعيداً، ليست لدي مثل هذه القابلية على التخيل، قدرتي على التآلف مع الأشياء ما زالت محدودة.
سامر: ولكن، ما هو غريب في النظرة الأولى يصبح عادياً خلال ساعات وربما خلال دقائق.
سوسن: سأحتاج الى بعض الوقت من أجل إستيعاب ما تقول، ولكن هل أستطيع الإنصراف الآن؟
سامر: بالطبع لا…عليك أن تتعرفي أولاً على شخوص مسرحنا الكبير.
(يضاء المسرح كما كان سابقاً)
سليم: هل هذه هي المفاجأة التي صدَّعت رؤوسنا بها؟
سامر: بل قل أنها نصف مفاجأة وسأعلن عن النصف الثاني خلال لحظات.
عادل: أتوقع أن تكون عودة جدتك من الموت بعد غياب طويل….
سامر: لا وقت للمزاح، ينبغي أن نعمل، المفاجأة التي أخفيها تتعلق بالنص الذي سنمثله.
خالد: قبل ذلك، قل لنا من هي هذه الفتاة ومن أين جئت بها؟
سامر: إنها بإختصار فتاة عاقلة، تعشق المسرح، تقرأ كثيراً وتحلم كثيراً، وتحاول برغم كل شيء أن تصل الى عالم المُثل…ترفض الظلام والقتل وإنتهاك الحرية.
سليم: مرحباً بك يا عزيزتي، هل أنتِ مثلما يقول؟
سوسن: لا أدري…لقد إلتقينا قبل ساعة بالصدفة في موقف الباص، تحدثنا قليلاً، ثم أخبرني أنه ممثل ومخرج وأن فرقته المسرحية بحاجة الى فتاة في مثل عمري، حدثني في الطريق أيضاً عن مسرح كبير كالحياة وأضواء ساطعة وبشر يصفقون، قال أن الأمر لا يستغرق سوى بضعة دقائق. فجأة حدث إنفجار قريب فإضطررت الى مرافقته والمجيء الى هنا.
سامر: لا تغيري الوقائع ياعزيزتي، ولا تكوني متواضعة الى هذا الحد…هناك تفاصيل كثيرة لم تذكريها.
سوسن: لم أقل سوى الحقيقة، وليس لدي أكثر مما ذكرت.
سامر: على أية حال، سنترك هذه المسألة جانباً، ليس لدينا الكثير من الوقت، لنناقش الآن فكرة النص الذي سنمثله الليلة.
سليم: ليس قبل أن ننتهي من قضية الفتاة.
عادل: خصوصاً وقد ظلَّت خلف الباب، تصغي الى ما نقول.
سوسن: سأنصرف إذاً لكي تكملوا نقاشكم، لم يحدث أن تأخرت هكذا من قبل.
سامر: بل إنتظري قليلاً، أنت الآن جزء منّا، لقد قطعت نصف الطريق ولم يبق سوى….
سوسن: لا…أرجوك، تأخَّر الوقت، ستكون أمامي أسئلة لا تنتهي حين أعود الى البيت، سيقفون جميعاً بإنتظاري، وسيتحول قلقهم بالتدريج الى خوف وعذاب وتأنيب ضمير.
سامر: سأوصلك كما وعدتك، وسأخترع لك في الطريق عذراً مناسباً، أرجوك، نحن بحاجة إليك، لا تتركينا في ورطة.
سوسن: ماذا تقول؟ أي عذر؟ أية ورطة؟ كفى…دعني أنصرف.
سامر: قلت لا… لن تغادري هذا المكان قبل أن ننهي ما بدأناه. إنتظري لبضعة دقائق أخرى…
(يبدو الوجوم على الوجوه، يستمر الصمت لبضعة لحظات، تجلس الفتاة على مقعد قريب نافدة الصبر، تنحني وتخفي وجهها بين يديها، سامر يقطع حالة التوتر، يتحرك بأتجاه المنتصف).
سامر: (صوته يبدأ متهدجاً ثم يستقيم) والآن سنبدأ…تتذكرون ما قررناه، أن نعتمد في النص المقترح على أجزاء مختارة من مسرحيات وقصص الكاتب الروسي “غوغول” وكنا سنجعل من واقعة حرقه لكتبه وهي واقعة تكررت في حياته ثلاث مرّات خيطاً أساسياً يجمع بين الأجزاء، إتفقنا أيضاً على أن واقعة الحرق تشكل أقصى ما يمكن للكاتب أن يفعله تجاه….
سليم: هذا ما نعرفه جميعاً…ما هو الجديد الذي سنبدأ منه؟
سامر: سنبدأ من واقعةٍ مشابهة حدثت في مكان آخر وزمان آخر، ولو إنتظرت قليلا لذكرتها، أرجو أن لا يقاطعني أحد بعد الآن…
سليم: لن يقاطعك أحد، نريد أن نعرف بالتحديد ماذا يجري.
(تتردد أصوات إطلاق رصاص وصراخ وإنفجارات بعيدة)
سوسن: رجاءً، أريد أن أذهب الآن، لقد تأخرت كثيراً…قل لي هل هي عملية إختطاف؟ لماذا تتمسك بي هكذا؟ ما شأني أنا بما تفعلون؟
سامر: قلت لك وسأكرر ذلك للمرة الأخيرة: إنتظري لبضعة دقائق أخرى، لم يبق سوى القليل…وستكتشفين بقليل من الألمعية لماذا أتمسك بك؟ إنتظري يا عزيزتي..
سوسن: لعشر دقائق فقط ثم سأصرخ بأعلى صوتي.
سامر: (يذهب الى مقدمة المسرح) بالأمس كنت أقرأ في كتاب….
عادل: وها نحن نسقط في مصيدة كتاب آخر، قل لي هل سنظل نقلب الصفحات الصفر الى الأبد؟…
سامر: (لا يعيره إهتماماً بل يستمر في كلامه) الكتاب يتحدث عن أبي حيان التوحيدي وهو كما تعرفون أديب عاش في القرن الرابع الهجري، عدَّ من أساطين البلاغة ومن عباقرة النثر العربي عبر العصور…كنت أقرأ بهدوء إن لم أقل بملل وفجأة صعقتني واقعة تجسدت في الكتاب، إنها واقعة إحراق أبي حيان لكتبه أيضاً، أحرقها وكتب عن ذلك ليبرر ما فعل، إستمعوا الآن الى ما قاله….
خالد: وهل ذلك مهم؟ لا نريد أن ندخل في تفصيلات لا تؤدي الى شيء، لا نريد أن نضيع بين المتاهات.
سامر: قلت لا أريد مقاطعة، إصغوا فقط، لقد كتب رداً على قاضٍ سأله عن سبب إحراقه لكتبه قائلاً: شقَّ عليَّ أن أدعها لقومٍ يتلاعبون بها، يدنسون عرضي إذا نظروا فيها ويشتمون سهوي وغلطي إذا تصفحوها…وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صحَّ لي من أحدهم وداد ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ ولقد أضطررت بينهم، بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة الى أكل الخضر في الصحراء والى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة والى بيع الدين والمروءة والى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق والى ما لا يحسن بالمرء أن يرسمه بالقلم ويطرح في قلب صاحبه الألم….ها هل أنتم معي؟
سليم: نعم، ولكن كيف سنربط بين هذه الواقعة والواقعة التي إتفقنا عليها في الفصل الأول؟
سامر: لنُعد أولاً تمثيل المشهد السابق، حين يحرق “غوغول” مسودة الجزء الأول من روايته “الأرواح الميتة” ثم سنرى ما نفعله بعد ذلك.(يلتفت الى سوسن) ستمثلين يا سوسن شبح حبيبته العابر على المسرح، لست بحاجة الى قول أي كلام، عليك أن تتقدمي بخطواتٍ بطيئة، بشيء من الرقة والإيحاء بالشاعرية، من هذه النقطة بإتجاه الحائط لتقفي في صمت هناك، كأنك شيء من الأشياء.
سوسن: سأفعل ذلك ثم أذهب على الفور.
سامر: ستذهبين ولكن إمنحينا قبل ذلك إحساساً بوطأة موت المرأة التي ستمثلينها على مشاعر “غوغول”، كان يكنُّ لها حباً بلا حدود، وبفقدانها بدأ يخاف الموت ويرتعب من فكرة أن تنتهي حياته فجأة…لنبدأ الآن، تحركي بإتجاه الحائط كما قلت لك.
(تطفأ الأضواء ثم تضاء على جزء محدد من الخشبة، سليم يجلس أمام مائدة صغيرة عليها دفتر كبير، يبدو حزيناً، يتأمل في ذاته، على الأرض على مقربة منه يجلس عادل أمامه بضعة صحون وهو صامت أيضاً، تمر سوسن في المسار الذي حُدِّد لها بهدوء وشاعرية كأنها فراشة كبيرة، سليم يرفع رأسه ببطء، ينظر في أثر الشبح الذي يختفي في الظلام، يبدو كأنه عزم على شيء، يرفع الدفتر الكبير مع بضعة أوراق متفرقة على المائدة ويتجه الى ما يشبه أن يكون موقداً، يلقي بالدفتر والأوراق فيه).
عادل: (ينهض هو الآخر ويصرخ) لا ياسيدي، ماذا تفعل؟ لا لا، أتوسل إليك، لا….لا تفعل ذلك.
سليم: إخرس ايها الغبي وإخرج من هنا قبل أن ألقي بك أنت ايضاً الى النار، لا تولول، إخرج…لا أريد رؤية وجهك، لا أريد أن أرى أحداً (يعود ببطء الى مقعده، يجلس ويضع رأسه بين يديه على المائدة ويجهش بالبكاء، يضاء المسرح ثانية).
سامر: رائع، هذه هي بالضبط تفصيلات المشهد كما وردت في نصِّنا الأول…إنها توجز الطريقة التي تصرف بها غوغول في تلك الليلة المشؤومة، ليلة الثالث والعشرين من شباط سنه 1852…والآن لنحاول أن نمثل مشهداً موازياً عن إحراق أبي حيان لكتبه كي نثبته في النص الجديد.
خالد: لا أعتقد أن ذلك يجدي في شيء، لماذا نعيد تمثيل مشهد واحد مرتين…في نص قصير.
سامر: إنه ليس المشهد نفسه، الوقت مختلف، المكان مختلف، والحدث مختلف أيضاً. أين التشابه إذاً؟
خالد: لا أقصد التشابه في صياغة المشهد وإنما في فكرته، لماذا لا نقدم مثالاً واحداً عن حالتين؟
سامر: سيستدعي ذلك اللجوء الى الرمز والإدغام وإستخدام الأقنعة، بينما نريد نحن أن نتحدث عن الوقائع كما حدثت، بأبعادها وتفاصيلها وإيقاعها، إنه زمن الوقائع أيها الأصدقاء، لا بد من الوضوح، علينا أن نصف ما يجري بلا إلتواء. لنؤجل البلاغة الى وقت آخر.
سليم: لدي فكرة أخرى، لِمَ لا نقدم مشهدين إفتتاحيين في البداية يتحدث أولهما عن أبي حيان ويتحدث الثاني عن غوغول، ويقدم كل منهما صورة إنسانية للشخصية، لآلامها، لأحزانها، لخيباتها. ولا بأس أن نتحدث أيضاً عن موقعها في عصرها.
سامر: وذلك ما حاولته، هل تعتقدون أنني سهرت ليلة أمس لأراقب النجوم؟ لقد راجعت كل ما لدي المصادر وسوَّدت صفحات عديدة وفكرت في إحتمالات لا نهاية لها…لقد وجدت أن من المناسب أن تتضمن المسرحية في شكلها الجديد صورتين متقابلتين، تعارض كل منهما الأخرى، ينبغي لنا أن نقدم زمنين مختلفين ومكانين مختلفين وبل وروحين تتعارض سماتهما ومظاهر سلوكهما.
سليم: ألن يبعدنا ذلك عن الفكرة الأساسية التي تتحدث عن الفشل البطولي للكاتب؟ وبالذات في ظل الظروف الراهنة لننشغل ببحث الفوارق والتعارضات بين رجلين…في عصرين مختلفين.
سامر: بالطبع لن يشغلنا ذلك، سنحاول أن نقدم الفكرة ذاتها ولكن في صورتين منفصلتين تكمل إحداهما الأخرى. لن نقدم التفاصيل كما ترد في الكتب المدرسية، سنؤلف نصاً تتوزع في ثناياه ما أكتشفته…
عادل: كنا نفكر بتأليف نص يوازي محنتنا، أو يصوِّر الحركة اللا نهائية لآلة الدمار…
(طرق شديد على الباب)
خالد: من هناك؟ من يطرق الباب؟ لعله أبي….
سليم: ولماذا لم يدخل مباشرة؟ لعله شخص آخر (يتكرر الطرق ثانية).
خالد: إختبئوا رجاءً، كل منكم يجد مكاناً ويختبيء فيه…أسرعوا…
(يذهب بإتجاه الباب، يطفيء الأضواء في طريقه، يختفي الجميع، سوسن وعادل وسليم يفتحون ثلاثة توابيت ويدخلون فيها أما سامر فيختفي خلف إحدى الستائر).
سوسن: أي كابوس هذا؟ ما الذي يحدث؟ من سيصدق أن هذا كله قد حدث لي؟
سليم: بل وما سيحدث أيضاً، الليل مازال طويلاً ياعزيزتي.
خالد: (بعد أن يتأكد من إغلاق التوابيت) من هناك؟ من يطرق الباب بهذه الطريقة الهمجية؟
صوت: (من الخارج) إفتح يا سيدي، لقد رأيت النور مضاءً فأعتقدت أن هناك أحد في الداخل، قل لي: أليس هذا دكان صانع التوابيت؟
خالد: نعم، ماذا تريد في هذه الساعة؟
الصوت: ماذا أريد؟ أريد تابوتاً…هل تصنعون شيئاً آخر؟
خالد: الدكان مغلق الآن، تعال في الغد.
الصوت: وأين سنضع الميت؟ ليس لدينا مكان نضعه فيه.
خالد: يا سيدي، تعال في الغد، ليس لدينا توابيت الآن، سنصنع لك تابوتاً في الصباح.
الصوت: قلت لك لا مكان لدينا، لقد تركنا الميت على الأرض، هل تريد أن يبقى هكذا حتى الصباح؟
خالد: وماذا سيحدث له، هل سيصاب بالزكام؟ قلت لك إذهب الآن وتعال في الغد.
الصوت: سأذهب، ولكن أريد أن تعدني بأن تصنع للميت تابوتاً لم تصنعه لأحد من قبل. أريده أن يرتاح في العالم الآخر.
خالد: حسناً، أعدك، إذهب الآن.
(يخرج سامر من خلف الستائر، يجلس فوق التابوت الذي توجد فيه سوسن)
سامر: في الأقل هذه فائدة جاءت من حيث لا نتوقع، سنتخلص من شكاوى الآنسة الفصيحة لبضعة دقائق.
(سليم وعادل يخرجان من تابوتيهما)
سليم: أرى أن ندعها تذهب، ما حاجتنا إليها الآن؟
(تسمع همهمات وصرخات مكتومة وضربات داخل التابوت)
سامر: ستذهب، ولكن علينا الآن أن نهتم بأمور أكثر أهمية، علينا أن لا نفقد الخيط الذي سيدلنا على جوهر المسرحية…لنتأمل مثلاً في حدث يتكرر في حياة كل من بطلينا….
عادل: ألم نتفق من قبل على إلغاء صيغة البطل؟
سامر: إعتراض مقبول، سأصحح الجملة: في حياة كل من….
سليم: في حياة أي شيء، علينا أن نحترم الوقت وأن نذهب الى ما نريده مباشرة، إختصر أرجوك.
سامر: سأختصر، أما الحدث فهو يتعلق بمهنة الوراقة التي كان التوحيدي يزاولها، والتي قال عنها أنها حرفة الشؤوم، وأن فيها ذهاب العمر والبصر، لقد هرب بسببها من بغداد الى الري، وهناك سأله الوزير إبن عباد: بلغني أنك تتأدب، فأجابه: تأدب أهل الزمان، فقال له: إلزم دارنا وإنسخ هذا الكتاب، فردَّ عليه: سامع مطيع، ولكنه أسرَّ الى أحدهم ممن كانوا الى جانبه: إنما توجهت الى هنا لأتخلص من حرفة الشؤوم، ولكن دون جدوى.
أما غوغول فكان يسهر الليالي ليدوِّن مجلةً بخطه الجميل بأثنين وأربعين صفحة، إسمها: النفير الأدبي، وعدا ذلك كان يعامل أي كتاب برقة لا متناهية وخصوصاً الكتاب الصغير الحجم، وينظر إليه كأنه طفل.
عادل: هل تعتقد أن ثمة أهمية لتفصيلٍ كهذا؟ أتراه يضيء جانباً مهماً في حياة كل من التوحيدي أو غوغول؟
سامر: ولِمَ لا، إن هذه الحقيقة تتناقض مع الطريقة التي أحرق كل منهما كتبه.
عادل: لا أقصد ذلك، ولكني أجد أن الإهتمام بأفكار كل منهما أكثر جدوى من تفصيل كهذا…ينبغي أن نركز على الجوانب الروحية، على النزوع الإنساني.
سامر: هذا إستباق للأحداث، لقد فكرت في ذلك وسيأتي في تسلسله الطبيعي.
خالد: ألا تجد يا سامر أننا لو أردنا أن نكرر تفاصيل مشابهة سنحتاج الى مجلد بألف صفحة.
سامر: بالتأكيد ولكن تفصيلاً كهذا…سترى أهميته لاحقاً…
سليم: لقد إتفقنا منذ البداية على أن نشترك في صياغة النص، بكل مراحله وأجزائه، وها أنت تحاول الآن أن تفرض علينا رأيك.
سامر: نعم، أحاول فقط ولا أفرض شيئاً، ليبدي أي منكم رأيه وسأصغي له…لنأخذ الآن جانباً آخر في حياتهما، أقصد الشخصيتين، كان كل منهما فيلسوفاً على طريقته، قيل عن التوحيدي عبارة إشتهرت عبر العصور وهي أنه: فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة. برغم أن أفكاره لم تكن عميقة تماماً ولم يكن له منهج فلسفي محدد، أما غوغول…
سليم: سنعود ثانية للتقابل العقيم، ماذا كان؟
سامر: كان فيلسوفاً هو الآخر…
خالد: لم يسبق لي أن قرأت عن شيءٍ كهذا.
سامر: ومتى كنت تقرأ؟ لو فعلت لأستنتجت ذلك من خلال كتبه.
سليم: أنت تقول عنه أنه فيلسوف، ولكن كما هو معروف…الأدب شيء والفلسفة شيء آخر، حدِّد ما تريد قوله بدقة.
سامر: (يخرج بإنفعال ورقة من بين الأوراق التي يحملها ويقرأ بطريقة آلية) ووصل كل منهما الى حالة التصوف والزهد بمباهج الدنيا حين لم يحقق ما كان يريده منها، كانا يسعيان بكل قوة الى زخرفها فإكتشفا ولو في وقت متأخر أن العظمة والسمو هي في العزلة والإقتناع بالقليل.
عادل: وبعد لِمَ لا تحدثنا عن الملابس التي كان يرتديها كل منهما، والعطور والأكلات التي كان يفضلها ولا بأس أن تعطينا كشف حساب….
سامر: هل سنعود الى نبرة السخرية والمناكدة من جديد؟ إنني أبتغي من وراء هذه التفاصيل أن أبيِّن إن كلاً منهما كان غريباً عن عصره(يعود الى الورقة ويقرأ ببرود) لقد حاولا بوسائل متعددة وبكل ما أوتيا من قوة أن يتوصلا الى الجاه والثروة والسلطة ولكنهما فشلا لأسباب ذاتية أكثر منها موضوعية، لقد كان كل منهما ذا مظهر لا يناسب ما يطمح إليه، كان التوحيدي قبيح الهيئة، رث الملابس، أما غوغول فكان ذا شكلٍّ كاركتيري، بأنفٍ طويلٍ وعينين ثعلبيتين وفم صغير يغطيه شارب رفيع.(ينهض عن التابوت).
سليم: يا سامر، هل سنقدم مسرحية أم محاضرة في التاريخ؟
سوسن: (ترفع غطاء التابوت)، أريد أن أذهب، أنتم مجموعة من المجانين، أطلقوا سراحي، ماذا تريدون مني.
سامر: (يعيد غطاء التابوت ويجلس ثانية، يستل إحدى الأوراق ويعطيها الى عادل) خذ إقرأ، من هنا.
سليم: (يخرج نظارته ببطء ويتفحص الورقة ثم يبدأ بالقراءة بصوت متهدج) كان التوحيدي من الأشخاص الذين حكمت عليهم المقادير بالشقاء، ولعل من أشد بواعث شقائه أن الطبيعة أودعت في نفسه ميلاً قوياً للتنعم بالعيش….
سامر: ما هذا؟ أهكذا تقرأ النصوص؟(ينهض ويأخذ الأوراق منه) أنظر إليَّ، إصغ قليلاً وسترى الفارق بيننا: كان يحترق أبداً في فقره حتى غدا فكرة ثابتة لديه، شغلت الجانب الأوفى من حياته، وقد قال مرة: القبر عندي خير من الفقر،(يلتفت الى سليم) أتريد أن تقرأ ثانية؟ (سليم لا يرد، يبدو كانه في عالم آخر فيواصل القراءة)، أما غوغول فكان مثالاً للأنانية والفردية، يعيش على حساب أمه وأصدقائه ومعارفه، كان مهملاً وهارباً من الدرجة الأولى، يتنكر بشخصيات مختلفة ليخفي شخصيته الحقيقية (ترتفع نبرة صوته بشدة)، كتب مرة الى قريب له يقول: إن العرق البارد ليجلل وجهي حين أفكر أني قد أوارى الثرى دون أن تتاح لي الفرصة للقيام بعمل كبير يقترن بإسمي،(ينهض خالد بإتجاهه) إنه لأمر مرعب حقاً أن يعيش المرء في هذه الدنيا دون أن يأتي عملاً يبرر وجوده فيها.
خالد: (يشتبك معه أثناء إلقائه للجملة الأخيرة) إخفض صوتك، هل تريد أن توقظ أحداً؟ أم تريد أن تقول للمارة في الشارع أننا هنا؟ أصمت، هناك أحد ما يقترب. ثمة خطوات… إستمعوا الى وقعها، إنها تقترب.
سامر: دعوني أفصح عن كل شيء، أريد أن أصنع مسرحاً جديداً، أريد تدمير الأفكار القديمة.
سوسن (تخرج من التابوت، تعدل هندامها وتتجه الى الخارج) سأذهب الآن، لن يوقفني أحد…ولكن قبل أن أخرج: أتمنى من كل قلبي أن ينهار كل شيء على رؤوسكم.
سامر: (يستمر في الصراخ) هذا هو المسرح الذي أريده، هذه هي الروح التي أبحث عنها، هذا هو النهج المغاير، هذا هو التجديد، هذه هي الحداثة.
(تحدث فوضى على المسرح)
سليم: لقد أصيب بالجنون…لنوقفه عد حدِّه.
عادل: قلت لكم منذ البداية إنه مهرج، بلا عقل ولا مباديء.
خالد: لنأخذ الأوراق ونحرقها.
سليم: بل سيحرقها هو، إحرقها الآن، إحرقها وإبدأ من جديد، إحرقها الآن.
(تطفأ الأضواء)
سامر: (يركع على الأرض ويضع الأوراق أمامه، يتوجه الى المشاهدين، يختفي الآخرون في التوابيت، بينما يتكرر طرق عنيف على الباب) أنظروا إليَّ، إنني أنا التوحيدي، لا أقوم بدوره فقط، لقد إمتزجنا، أصبحنا شخصاً واحداً، إنني أتكلم بلسانه، إستمعوا اليَّ، إصغوا الى عذابي وخيبتي(يبدأ بإلقاء الأوراق الى الصندوق الذي أستعمل موقداً من قبل، الطرق على الباب يزداد عنفاً)، إنَّ لي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمةٍ يقتدى بهم ويؤخذ بهديهم ويعشى الى نارهم، ومنهم: أبو عمر بن العلاء…دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر،(ينهض سليم من أحد التوابيت) وهذا داود الطائي طرح كتبه في البحر وقال يناجيها….
سليم: نِعم الدليل كنتِ والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول.
سامر: وهذا يوسف بن أسباط حمل كتبه الى غارٍ في جبل وطرحه فيه(ينهض عادل من تابوته) وسدَّ باب الغار فلما عوتب على ذلك قال….
عادل: دلَّنا العلم في الأول ثم عاد ليضلَّنا في الثاني، فهجرناه لوجه من وصلناه وكرهناه من أجل ما أردناه.
سامر: وهذا أبو سليمان الدراني جمع كتبه في تنّور وسجرها بالنار وقال…
خالد: (الذي نهض هو الآخر من تابوته) والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك.
سامر: وهذا سفيان الثوري أحرق ألف جزء وطيَّرها في الريح وقال: ليت يدي قطعت من هاهنا بل من هاهنا ولم أكتب حرفاً، وماذا أقول وسامعي يصدق، إنَّ زماناً أحوج مثلي الى ما بلغك، لزمان تدمع له العين حزناً وأسى ويتقطع القلب غيظاً وجوىً وضنىً وشجى.
(ظلام)
سعد هادي: إحرقها…الآن
تعليقات الفيسبوك
هذه المسرحية تخاطب مثقفى الأدب والفن خاصة ،فهى تطرح الجدل حول قضايا تجذب جمهور متخصص فى إطار ثورة المعلومات وتوافر جيل جديد يملكون فهم المصطلحات الفنية وقضاياها.
تعتمد الرموز فى تلك المسرحية على أن الأحداث العالمية تعطى بعدا جديدا للرمز وتحدد سماته عند المتلقى الذى يجبر على تلقى الرمز بشكل تحدده جهات قد لاتكون فنية بسبب الضغط الإعلامى .
تعتمد الفكرة الاساسية للمسرحية على تحويل الموت والدمار والتوابيت التى تحيط بالمبدع العراقى بشكل محكم إلى نبض حى يخلد الانسان .كيف ذلك؟!!!!
المبدع نبتة رقيقة وجميلة تحتاج البيئة الصالحة كى تنمو وتعطى ثمارها ،وإلا من الطبيعى أن تحترق وتموت .
اخي سعد هادي مبروك هذا النشاط المتميز وانت كما عرفتك مبدعا حقيقيا ورائعا والمحنة يا صاحبي في ان الثقافة العراقية منتجة ولكن الشارع العراقي مبتلى واصواتنا بحاجة الى صراخ واحتجاج وتسجيل لكل هذا الموت والقهر لكي يعرف التاريخ اننا مع شعبنا وعلى العالم ان يعرف ما يحدث ، سلامي ومحبتي