يسعى الإنسان دائما إلى صناعة ذاته وهذه الذات تختلف في صناعتها بين الشرق والغرب، فبينما الإنسان الشرقي يشرك الآخر في شؤون حياته كافة، فإن الإنسان الغربي يحاول أن يرضي ذاته التي هي مملكته. فسيولوجيا الإنسان الشرقي أكثر اجتماعيا من الإنسان الغربي، وإذا كان صموئيل هنتنكتون قد وضع علم المستقبليات نظريا في كتابه (صدام الحضارات) والصراع بينها بعد تقسيمها إلى عدة حضارات، فإننا نرى أن رواية (الحكّة) لـ عدنان عادل تضع ما يحدث فعلا في صراع بين الحضارة الغربية المدنية والحضارة الشرقية التاريخية. والذي يجعل الرواية تحكم على هذا الصراع بأبديته هو أن السارد يحاول أن يكون خارج النص ويراقب الأمور وكأنه يعرف كل شيء، فرؤية السارد رؤية خارجية تروي ما تعرف وتحكم.
تموج الرواية برموز مزخرفة كثيفة، هي قصيدة ورواية، هي ملحمة ومعلقة، كل الرموز فيها ثنائية، الزمان ثنائي والمكان ثنائي، والشخصيات هي ثنائية الوجهة والفكر والتوجه. رواية مثل هذه تحمل أفكارا كثيرة، وبلغة مكثفة عميقة، الناظر إليها لا يرى ارتباطا كبيرا بين تلك الثنائيات، ولكن بالتأمل والتأويل نجد أنها تترابط ترابطا شاسعا لتناقش مسألة الشرق والغرب و الأحاسيس الإنسان الداخلية أو الذاتية. فالرواية تنطلق من الذات لتعلنها إلى خارجها، على عكس كثير من الروايات التي ناقشت مسألة الصراع بين الشرق والغرب التي كانت عبارة عن سرد لأحداث واقعية منقولة بصورة واقعية، مثل رواية (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم، ورواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب الصالح، وربما نجح سليم بركات في روايته (هياج الإوز) في معالجة مسألة الصراع، ولكن لم يخرج أيضا عن السرد الواقعي للأحداث.
أما عدنان عادل فمشروعه في رواية (الحكّة) مختلف تماما، كما قلنا صراع يحدث في الذات مع الاستعانة بتغيير زمكاني في الرواية، ومهما يكن في شيء فإن الرواية تنساق تحت ثلاثة متغيرات، هي:
المتغير الأول: المتغير الزماني، اختزال الزمان، يحاول البطل في الرواية رمي يومين من أيام الأسبوع في المزبلة، يقول: “رمى يومين متتاليين، في آن واحد، في كيس الزبالة وقرر أن يُكيّف غرائزه بالعيش بالخمسة الباقية، بعد أن تردد طويلا في حسم تسمية اليوم الذي فيه: اليوم، أهو السبت أم الأحد؟…” . فأول الصراع بين الشرق والغرب هو الزمان، فعند كل جهة (شرق وغرب) يعني الزمان شيئا غير ما يعنيه عند الجهة الأخرى، فهو إما كسر الجمود والرتابة من خلال التخلي عن الزمان الفائض(عطلة) واستمرار المتابعة والعمل إلى ما لا نهاية وإما هو الزمان (الرتيب) الذي لا يحتاج إليه أحد مما يكون فراغا كبيرا وبالتالي الشعور بعدم الحاجة إلى سبعة أيام.
المتغير الثاني: المكان ورموزه، تظهر رموز مكانية تعد الصورة الخلفية للزمان في المتغير الأول، وفي هذا المكان تظهر رموز لها ارتباطات بالزمان، ونلحظ ظهور ثنائية الشرق والغرب بشكل أكبر: ” توجه إلى المطبخ… وحدها الصالة تمسحه على بساطها الخشبي تؤطره داخل هذه النافذة، صورة جامدة لا تجد حائطا تزينه. ينبغي اختيار ما ترتسم عليه تقاطيع وجهه… ماذا لو أسدلت الستارة وحجبت أجفان المارة عن تحديقها… وميض ينسل من صورته المنعكسة على الزجاج لينير الصالة بأوهامه: كائنات تتقافز على رف قديم علق على الحائط بمسمارين أحدبين. رجل ينتظر ليموت مرتين كل يوم قبل أن يعوم في بركته المنتظرة، وآخر يحدق بامتعاض إلى شمس حارقة في سماء زرقاء لمنظر ساحل ألصق على الحائط بإهمال متعمد…” ، فهنا الرجل والظل ثنائية بين الأصل والمسخ، بين الغرب والشرق.
المتغير الثالث: الجذور الخارجية، تظهر على البطل ومن بعد ذلك على البطلة جذور وهذه الجذور هي سبب الحكّة:” وينهش أرضية الصالة جيئة وذهابا، يراقب مقدمة قدميه. في الآونة الأخيرة لاحظ بروز الأصابع من جلد الحذاء بشكل يجلب الانتباه، الإصبع الكبير بدا جافا ومتشققا يطل بعنقه خارجا تكسوه طبقة خفيفة من اللون البني مائل إلى الصفرة، الأصابع الأخرى مالت إلى البروز أيضا، تلتصق بعضها ببعض أثر إفرازات مخاطية لزجة خليط إفرازات جلده وعفونة الحذاء. وكلما أمعن النظر في نفسه ألقى التاريخ والجغرافية أمامه…” ، فالجذور الخارجية التي تسبب الحكّة والألم هي جذور في الغربة، فالجذور في الوطن جذور داخلية وغير مرئية، أما هذه فجذور خارجية مرئية له وغير مرئية لغيره، الأولى لا تسبب الألم أما هذه فذات ألم شديد.
وعلى هذه المتغيرات الثلاث تدور الرواية. وأخيرا نعيد ما قلناه مؤكدين بأن كل شيء في الرواية يوحي بأن هناك صراعا داخليا روحيا بين الشرق والغرب، حتى الأسماء هي عبارة عن ثيمة حول المكانين، فنقرأ ثيوفيل / كارول / بينو وأيضا خالد نناسى / كوركه / مام شكرات وغيرها، فكأنني أقرأ الرواية أجد تطبيقات داخل النفس الإنسانية لتنظيرات الصراعات الحضارية.
ربما تقدم هذه الرواية تحليلا لما يعيشه الشرقي في الغرب.
1-عدنان عادل، “الحّكة”، دار السطور، الطبعة الأولى، 2016،بغداد، ص 2
2-نفس المصدر، ص2
3-نفس المصدر، ص3
*د. يوخنا ميرزا الخامس: باحث أكاديمي من مواليد عراق- كركوك.