تكريم يوسف العاني: 90 عاماً بالأحمر (ملف/4)

فنان الشعب العراقي يوسف العاني مكرّما من قبل حاكم الشارقة المسرحي والروائي سلطان القاسمي
فنان الشعب العراقي يوسف العاني مكرّما من قبل حاكم الشارقة المسرحي والروائي سلطان القاسمي

لا ينتمي المسرحي العراقي، المؤسّس، يوسف العاني إلى الكتابة بتقاليد الفرجة المسرحية. نشر باللغتين الحيّتين، العربية الفصحى والمحكية العراقية. في نصوصه عودة إلى الأصول والموروث الثقافي العربي والتقاليد الشعبية. كتب “المفتاح”، إحدى أبرز إنتاجاته، على أهزوجة شعبية، اقترح عبرها عدم القطع مع الروافد الإنسانية ذات الأبعاد الثقافية الواضحة أو المخبوءة.

تسعون عاماً، ضد القرارات التفصيلية، التعسفية، في العراق. بلغ المسرحي العراقي، التسعين، هذا العام (مواليد ١٩٢٤). تجربته الإشكالية، أثارت غضب السلطات باستمرار، ما دفعها إلى نفيه إلى خارج العراق، بحجّة الانتماء إلى تنظيم خارج على الشرعية، في عهد “بعث” صدام حسين. كرّمته “أيام الشارقة المسرحية” في قصر الثقافة، لأن جائزة الشارقة للإبداع المسرحي العربي “تدفع وتدعم الجهود العربية المتميزة وتحتفي بالأسماء الرائدة التي كان لإسهامها الدور الكبير في تثبيت وتدعيم تجربة أبو الفنون، في الساحة الثقافية العربية”، بحسب بيان الجائزة.

الدورة الثامنة، إذن، تكرّم المسرحي العراقي يوسف العاني. الكاتب والممثل. تكرّمه، بعدما كرّمت على التوالي، المسرحي المصري الراحل سعد أردش والفنانة المغربية ثريا جبران (وزيرة الثقافة السابقة في المغرب) والفنانة اللبنانية نضال الأشقر والفنان الكويتي سعد الفرج والفنانة المصرية سميحة أيوب والفنان السوري دريد لحام والفنان الكويتي عبد الحسين عبد الرضا. لا يعود، منح الجائزة إلى الفنان العراقي، إلى كتابته العديد من النصوص المعبّرة عن قلق الإنسان العادي، في خضم الأزمات الكثيرة في العالم بل يعود إلى تأسيسه بعض التجارب الرائدة على ساحة التجربة العربية المسرحية. تجارب، أدركت الأسئلة الأساسية، على جدول “من الأولويات، التي لم أعها، إلا بعد فترة، على تصدّي التجارب هذه للمشاهد القاسية على المنصات العربية الممختلفة”، بحسب العاني في دردشة مع “المدن”.

يروي العاني، أنه لجأ إلى الدول الأوروبية، على خلفية قراءة سياسية لشيء عابر في واحدة من مسرحياته “حيث وجد وزير الثقافة ووزير التربية في واحدة من حكومات صدام حسين، أن لون النار، أحمر. وجدا في اللون إحالة على إيديولوجيا. وجدا أن النار حمراء. وجوهر الشيوعية أحمر. وجدا في اللون شيوعيتي”، ما دفعهما إلى إصدار تقرير يدعو إلى محاسبته، بحجّة الترويج إلى أفكار هدامة، معادية لفكرة وجود الدولة.

فنان الشعب يوسف العاني مع المخرج جعفر علي
فنان الشعب يوسف العاني مع المخرج جعفر علي

بالعودة إلى التجارب المؤسسة، في تجربة يوسف العاني، غير تجربة الكتابة، الطرية الثرية، أسس العاني، مع رفاق له، فرقتين مسرحيتين، لم تلبثا أن استقرتا في وجدان المسرحيين والمواطنين العراقيين. “فرقة المسرح الفني الحديث” أولاً. ثم، “فرقة المسرح الحديث”. تجربتان، طرحتا قوة المصوغات المسرحية وجبروتها على المساءلة والاختبار. بداية عفوية، أضحت معلماً من معالم التجربة المسرحية العراقية والعربية، بانضمام الكثير من الأسماء البارزة إليها. ابراهيم جلال وقاسم محمد وسامي عبد الحميد وفاضل السوداني وفؤاد التكرلي وكاظم حيدر وغيرهم، ممن يعتبر جزءاً أساسياً في المشاغل المسرحية العربية.

ترك المحامي المحاماة. لم يعمل فيها على الإطلاق ، لصالح العمل بالمسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة.
كتب ومثّل وأخرج، وعيّن مديراً للبرامج في الإذاعة والتلفزيون ومستشاراً في مؤسسة السينما والمسرح. غير أن الكتابة شغلت حيزاً واسعاً من أوقاته واهتماماته، بحيث قدم إلى المكتبة العربية، ما أحاله الكثيرون على مناهج في المسرح العالمي. وجد المخرج العراقي سامي عبد الحميد “أن يوسف العاني في مسرحيته “الخرابة” اقترح على تجربة المسرح بالعراق، تجربة المسرح الوثائقي”. يقول لـ”المدن” بأن يوسف العاني “لم يقترح المسرح الوثائقي وحده، على التجربة العراقية. اقترح الملحمية، البريشتية، في “المفتاح”، في ذلك التسلسل، غير المغلق، الدائم الذهاب من مرحلة إلى مرحلة. كما طرح التغريب البريشتي في “السائق والبيك”. تحسب الأخيرة على التغريب البريشتي، لا من كتابتها على منهج التغريب المناقض للأرسطية المسرحية، بل من اقتباس نصّها من واحد من أبرز نصوص المسرحي الألماني برتولد بريشت “بونتيلا وتابعه ماتي”. ولوج بقضايا الصراع الطبقي، في بلاد البعث المعادية للشيوعية والشيوعيين. ما اضطر يوسف العاني إلى الاختفاء خلف أسماء مستعارة، قبل أن يضطر إلى مغادرة البلاد، حيث آوته فرقة “البرلينر انسامبل” بقيادة هيلينا فايغل زوجة بريشت وواحدة من أعظم الممثلات بالعالم.

يوسف العاني والفنان الراحل عبد الجبار عباس
يوسف العاني والفنان الراحل عبد الجبار عباس في مسرحية “النخلة والجيران”

الآن، لا يكتب يوسف العاني، لا لأنه أحال نفسه على التقاعد “بل لأن الوضع الأمني لا يسمح بالتجمّع. لا أريد أن أتسبّب في مقتل أحد، لا أريد أن أتسبّب بمقتل مجموعة مسرحية، حين يلتقي أفرادها في قاعة أو صالة مسرح، ويأتي أحد الانتحاريين مفجّراً نفسه وما تبقّى من فنانين في العراق. الوضع الأمني هناك ليس مزحة. التجمع مسؤولية. لا أريد، لا يريد أحد أن يتحمل دم أحد على يديه أو في عنقه. ولا يقول أحد أن عروض الساعة الثالثة هي عروض مسرحية. هذا ليس صحيحاً”.

لا تزال لهجة يوسف العاني شابة، في كلامه إلى “المدن”. لا يزال حياً وحيوياً وأنيقاً. جاء إلى حفل تكريمه بالقلبق العراقي الأسود على بذلة أنيقة وربطة عنق حمراء، تذكر بالنار الحمراء في مسرحيته الغابرة. بكى حين بدأ المقدم بالكلام على شخصه وتجربته. ثم تمالك نفسه. لم يقدم مداخلة، إذ قدم تجربته في قصيدة مكثفة. صاحب “المصيدة”، شرح أن ما على رأسه ليس قلبقاً. “إنه سيدارة. تسمّى الفيصلية، لأنها وجدت في فترة حكم فيصل الأول في العراق. شرعها نوري السعيد بمرسوم خاص بها. وهذه التي ارتديها، هي نفسها التي ارتديتها في دوري في فيلم سعيد أفندي بالعام ١٩٥٧”.

لا يزال الرجل يقظاً، لا تفوته فائتة. وجدت فيه الكلمات المرحبة بحفل التكريم، غوغول العراق أو غوركي البلد، غير أنه بقي على بساطة كلامه في مسرحياته. “أنا كاتب، عراقي، عربي، انحزت وأنحاز إلى الإنسان وجوهره والإبداع وكرامة الأرض والحق لأجل الوطن والوطن بالدرجة الأولى. ما يشهده العراق، ليس الغزو الأول. تعرض العراق إلى أربعة وأربعين غزواً واجتياحاً، من غزو هولاكو إلى الاجتياح الأخير من الأميركيين. غير أن العراق، ما زال يمتلك القدرة على النهوض والاستمرار. العراقي صاحب روح وعقل”.yusef-ghazwa-alkhaledi

وذكّر د.فاضل السوداني بتجربة فرقة المسرح الجديد، بمواجهاتها مع السلطة. “لطالما قطعوا الكهرباء عن عروض الفرقة. لطالما استمرت العروض على ضوء الشموع والقداحات”، يؤكد ذلك لـ”المدن”، حتى يؤكد على معارك يوسف العاني صاحب “تقاسيم في المسرح” وكاتب “المسرحيات القصيرة الأولى في تجربة المسرح العراقي، ذات الطابع الأرسطي”، لصالح المسرح واستمراره. يقول: “لديه القدرة على كتابة مسرحية شعبية ببساطة طالعة من نبض الإنسان”. المخرج المسرحي السوري أسعد فضة، عاد إلى إخراج “المفتاح” في نسختها السورية. يصرح لـ”المدن” بأنه أخذها لأنه وجد “أن مسرح العاني، يقود إلى حيث يقود، من دون أن يقود. لا يفرض مسرح العاني شيئاً، يقترح ويتركك أمام الاقتراحات. حضور الحروفية العربية في المفتاح عندي، من ما يقترحه النص من دون سلطة”.

حين نفض صاحب أبرز الأدوار في المسرح العراقي، كحمدي في “النخلة والجيران” وحيران في “المفتاح” سيدارته بين يديه، لم ينفض تاريخه، نفض الغبار عن التاريخ. الرجل في التسعين، قضى سبعين منها على منصات العالم العربي، والعالم، فوق الأصوات المهدّدة بنهاية التاريخ والتوترات والمعاضل، محققاً حياته في المسرح ومسرحه في حياته.

*عن موقع المدن

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *