إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تحتفي بالشاعر الكبير “عيسى حسن الياسري” بهذا الملف الذي – على عادة الموقع – سوف يستمر لحلقات كثيرة لأن الإبداع الفذّ لا يحدّه زمن . لقد وضع عيسى الياسري بصمته الشعرية الفريدة على خارطة الشعر العربي والعالمي . نتمنى على الأحبة الكتّاب والقرّاء إثراء هذا الملف بما يتوفّر لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق تحتفي بمنجز هذا المبدع الفذّ وتوثّق حياته الشخصية والشعرية الحافلة بالمنجزات والتحوّلات الإبداعية الثرة.
الحوار :
*أكتب من أجل ألا أموت .
*ليس جميلا ًأن ننتهك أسرار أحلامنا .
*أنا مثل بيدر قمح التهمته الحرائق .
………………………………………………………………………………….
حاورته .. نجاة عبد الله
” بين شتاء الغابة وخريف الحقل ِ.
.أفتش عنك ِ..
أوراق ذابلة تسقط فوق ثيابي
وبقايا العشب اليابس تدمي قدمي ّ … ”
لم نكن أبدا ًفي غفلة ًعن تلك الزنابق ألخجلى التي تزهر بين فرحة الياسري – قصيدته – وبين حزنه الشفيف الذي يقطر منه شعر الجنوب وجنوب الشعر .. –الشاعر عيسى حسن الياسري – تشغله عنا الحياة أياما ًوشهورا ً.. فإذا هو يضم دمعة في واحدة من أكواخ روحه .. أو يجمع خبزا ًيقيه شر العزلة وصخب السؤال .. بحثت ُعنه كثيرا ًلأحاوره في ” صمت الأكواخ – شتاء المراعي – المرأة مملكتي – سماء جنوبية – فصول من رحلة طائر الجنوب – حتى العبور إلى مدن الفرح ” , هذه دواوين الشاعر التي صدرت بين 1973- 1996 , أسئلة عن الشعر , والحياة حيث الشعر ,والشعر حيث الحياة .. قلت له :
* حين يضع الشاعر زهرته على أعتاب الستين .. كيف ينسل إلى عالم الطفولة والشجن وسط هذا الضجيج من الذكريات … ؟
-لقد وضعتها على أعتاب الستين , وبرغم هذا الركام المتكدس من الأزمنة المرة والقاسية , وبالرغم من أن ّقدميّ ما عادتا قادرتين على حمل جسدي الذي ينوء بثقل الصخور ” السيزيفية ” التي أحملها على أكتاف القلب والروح إلا إذا استعانتا بقدمي الخشبية الثالثة , أقول بالرغم من كل هذا فإنني لم أغادر مراتع طفولتي , وكلما عدت مقتولا ًمهدودا ًبالتعب والخسارات الفادحة أرتمي بين أحضانها , فتناولني حلمة ثديها , ثم تهدهدني بأغانيها العذبة لأطبق عيني ّوأنام كي أنسى بأنني ما زلت ” أعيش ” .
*الياسري لم ينقطع عن الحب .. هل يعني أنك َشاعر حب ؟..ذلك أن حنينا ما غافل عن النسيان .
-امنعي الماء عن الزهرة تذبل وتموت , ضعي الفأس بيد الحطاب واطلبي منه أن يقطع شجرة وارفة فأنها تذوي وتنطفئ كذبالة مصباح نفد منه الزيت , كذلك هو أنا , فمتى توقفت عن
” الحب ” غادرتني الحياة , ثلاثة أقانيم أقف في حضرتها موقف الناسك المتعبد , – الله –
– الجنوب – و المرأة التي مست قلبها يد الله فتحولت إلى ملهمة وخالقة , لقد التقيت أكثر من امرأة بلغت هذه المنزلة , إنها تعطيني باستمرار من دون أن تطمع بامتلاكي أو أطمع بامتلاكها .هي تعرف ألا شيء أقدمه لها سوى هذا القلب المتعب الذي ينحني أمام مجد محبتها , كم أشعر بخجلي أمامها لأنني لست ُموهوبا ًبما فيه الكفاية لأكتب قصيدة حب جديرة بمجدها , لذا فأنني لا أعطي لنفسي صفة – شاعر حب – بل أنا إنسان مسكون بالحب .
*الشاعر الأكثر جنوبا ً من – البردي – ماذا يمثل لك فتى ًياسريا ً يكتب الشعر منذ ثلاثين عاما؟
-عندما امتدت يد مخالب –التآكل – لتشوه تضاريس خارطة ” الجنوب ” لم أجد مكانا ً سريا ًأخبئها فيه وأحميها من الاندثار سوى الكلمات , فمنذ ثلاثين عاما ًوحتى هذه اللحظة وأنا أمر بتحولات منتزعة من عوالمها الساحرة , ففي داخلي تزدحم حقولها المهجورة بالزارعين , ومراعيها الجرد بالعشب والماشية والرعاة , وأهوارها وأنهارها التي كفنها الموت تزدحم بأشرعة السفن المحملة – بالرز – . والزوارق التي تتهادى على صفحة الماء التي تلمع تحت ضوء الشمس ونور القمر , إنني وأنا أكتب عن هذا العالم أشبه – قصبة – تتخفى من عتبة باب إلى أخرى , – بردية – تبحث عن منزلها المائي , طائر عاد من هجرته ولم يعثر على العشً
– راعيا ً- فصلته العاصفة الهمجية عن قطيعه وعن راعيته , إنني مثل جهة أسمها – الجنوب – , بيدر قمح التهمته الحرائق , – رحى – ما عادت تدور , – عاشق – كُمم فمه فتوقف عن الغناء ,ليس هناك من محاريث , ولا مناجل حصاد , وأقفرت الطريق من حاملات الحطب , إن هذا العالم الذي غادر خارطتي الجنوبية خبأته كله بين كلماتي , وأنا أكيد بأن يدا ً ما ستأتي ذات يوم وتعيد ترتيب هذه الخارطة ثانية ً .
*كيف تقلع الدمعة من محاجر الحياة وتجعلها – فراتا ً- في الشعر , كيف يكتب الشاعر , ولمن؟
-لا شيء أجمل من الدموع كما يقول – مجنون إلزا – , إن أول لعبة وضعت بيدي لألهو بها هي الدموع , فقد تعرفت ” الفقد ” منذ نعومة أظفاري , والآن وقد تعذر علي ّأن أحصي أشيائي العزيزة المفقودة فقد صارت – الدموع – الصاحب الذي لا يمل رفقتي , لذا فأنني أكتب من أجل ألا أموت وتموت معي أشيائي التي أحبها .
” إني أحلم حلما ً مجنونا ً..منذ ولدت ُ..وأنا أحلم حلما ًمجنونا ً … ؟ .
*هلا أبحت بهذا الحلم … ؟
-الكتابة بحد ذاتها كشف عن حلم وهذا يمهد الطريق أمام ولادة أحلام أخرى , وليس جميلا ًيا سيدتي أن ننتهك أسرار أحلامنا .
” ماذا لو أكتب شيئا ًفرحا ً … ؟ ”
*يتخلل قصائدك نعاس الحب , وحزن شفيف غادره الفرح , أقول .. ماذا لو تكتب شيئا ًفرحا ً؟
-أود هذا من كل قلبي , ولكن ألا ترين معي أنني وفي أقصى حالات كتابتي عن الحزن أحرص على أن يفتح الإنسان طريقا ًفي قلبه ليمر منه الفرح , وأن يطلق صرخته بوجه كل من يمتهنون إغلاق الحدائق في وجه العشاق وقطع َ الشفاه التي ترغب أن تقبل وتبتسم وتغني , وتتذوق طعم خبز التنور الساخن .
* هل يمكن أن تتحول مجموعتك الأخيرة ” صمت الأكواخ ” بلمسة ” سينارست ” ماهر
– الشاعر الياسري – إلى رواية طويلة عن حياة الشاعر بلا – ممحاة – … ؟
-إذا كنت ِتقصدين بسؤالك التحول – فنيا ً- فأنت ِوسواك ممن يحبون ما أكتبه هم الأجدر مني بذلك , لأنني وضعت بعض لمسات هذا – السيناريو – وتركت مساحات بيضاء كثيرة ليملأها من يحب أن يكمل عملي , أما إذا كنت تقصدين بسؤالك – السرد الروائي- المادي لهذه الحياة فعلا ً, فأنا دونت ُفصلا ًمهما ًمن فصولها في روايتي التي ستصدر قريبا ًعن – دار الشؤون الثقافية – وهي بعنوان – أيام قرية المحسنة – ,والتي تمثل أيام طفولتي وصباي , والناس والأرض التي وهبتني اسمي وصوتي وكلمتي أيضا ً .
……………………….
” شاعرة وصحفية .. المقابلة نشرت في مجلة – ألف باء – عدد الأربعاء 6- آب – 1997 “