ناظم السعود : لا صحافة أدبية في العراق (15)
أنت يا “رعد زامل” تذكّرنا بجروحنا!

nadum alsod 6إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ بنشر الكتاب الجديد للناقد والصحفي والمجاهد الثقافي العراقي الأستاذ “ناظم السعود” “لا صحافة أدبية في العراق” على حلقات. وناظم السعود مدرسة صحفية عراقية أصيلة ، وقلم نقدي بارع ، وسمته المشتركة الأهم في الحقلين هو أنه مبضع لا يهادن، ولكنّه مبضع جرّاح فيه الشفاء للنصوص والنفوس العليلة، فناظم لا ينسى دوره التربوي الخلّاق أبدا. في هذه الحقات دروس عميقة ثرة من تجربة السعود.. فتحية له وهو يبدع وسط لهيب محنته.

المقالة : 
لأكثر من شهرين وهذا الديوان أمامي ، انه يتحداني ويستفز فيّ الذائقة الشعرية والقرائية كلما اقتربت منه : محاورا وقارئا ومتلصصا على محاوره ورؤاه العديدة التي تشير ألينا – في مجملها – بل تشهد علينا كأننا سبب لهذا الخواء الذي يلف المجتمع وينخره بشكل عياني ومستمر ! ويحصل لي هذا الحال مع الدواوين الكبيرة فقط ( تلك التي تحفر في الخراب بحثا عن الحقيقة الغائبة او المغيبة وسط أكداس الفضائح والأكاذيب ) وفي ظني ان دواوين الشاعر ” رعد زامل ” هي إحدى ما أشير اليه وانوه الى أسمائها كونها تكشط مجمل الزيف الذي يجلل مجتمعنا وتكاد متونها تبصرنا بما صمتنا عليه طويلا ” أما تواطئا أو خوفا ” ولهذا نرتعش أمام نصوص هذا الشاعر الجنوبي لأنها تحث علينا وتعرفنا بما لا يمكن أن ينسى ونتصابر على تجهيل أسبابه (وبالتذكير المستمر تكمن ضرورة الشعر يا جان كوكتو !!),
الديوان الجديد لرعد زامل يحمل عنوانا مدببا هو ( خسوف الضمير ) ليكون الثالث المنشور بعد (ربما الشمس رغيف حار _بغداد 2002 ) و (انقذوا أسماكنا من الغرق_بغداد2009 ) فإذا أضفنا لهذه الدواوين ما تسميه الصحف مجموعة شعرية جديدة لهذا الشاعر قد صدرت هذا العام في العاصمة المصرية ” القاهرة ” تحت عنوان ( قصائد نثرية) أمكن لنا القول – او حتى الجهر – بان هذا الشاعر البليغ قد نطق بما لم نستطع القول فيه وانه في دواوينه الثلاثة الأولى قد شرّح لنا ما نخفيه او نخشى من الخوض فيه ولو همسا لعظم الكارثة او المصيبة او حتى الفضيحة – الوطنية التي باتت حديث العالم كله !.
ولكن قبل تحليله ، والإمساك بأهم مفاصل الديوان الجديد ، عليّ هنا ان افتح كوة للذكرى : في مستهل العقد التسعيني الماضي ، وصلتني رسالة ورقية – لكوني يومها كنت مشرفا على عدة صحف بغدادية – واخبرني صاحبها انه يكتب الشعر ويترجمه وقد نشأ في البيئة نفسها التي خرج منها شاعرنا ” حسب الشيخ جعفر ” وهي مدينة ميسانية ( ام كانت هورا ؟) اسمها ” دار السلام ” وأرفق برسالته قصيدة له عنوانها ” أنقذوا أسماكنا من الغرق ” ووقع الرسالة رعد زامل ، برغم انه مرت سنون كثيرة ومحن لا تحصى إلا أنني أتذكر في كل آن تلك الرسالة وما حوته من معلومات اعرف بعضها أول مرة ولا سيما ان هذا المرسل قد عرفته جيدا كانسان وشاعر وزرته خلال العقدين المنصرمين أكثر من مرة ، وطبعا فقد نشرت له وكتبت عنه في صحافة بغداد وتأكد لي أنني أمام شاعر صموت ولكنه يمتاز بشجاعة شعرية نادرة(تتضادد تماما مع شخصيته الوادعة) تتيح له الإطاحة بالبناء المهتز لو شاء !.

?
?

ثمة خصيصة فنية وفكرية لا بد ان يعرفها من يريد مقاربة الشعر الذي يكتبه الشاعر رعد زامل وهي انه يجهر ( بكل صدقه وعفويته وموهبته ) بما يرى ويرش فيضا من الضوء على المرئيات فإذا هي تتعرى مما يحيطها وتشهد على الذين أمعنوا فيها قتلا وخدشا ورياء ! ولعل التوغل في عالم رعد زامل ومحاولة تبيان اهتماماته وانشغالاته هي أولى المراحل للامساك بالإثم الذي يشلنا او يتغلغل فينا ، ولهذا السبب فانا لم اكتب عن ديوانه الأول ( ربما الشمس رغيف حار ) وعملت جاهدا ان ابعد قلمي عن ديوانه الثاني ( أنقذوا أسماكنا من الغرق ) وكنت في سبيلي لاتخاذ القرار ذاته من ديوانه الجديد لكنني لم استطع أو لك أن تقول أنني قد هربت نفسي ونفضت يدي من القرار أعلاه خصوصا حين أدركت ان الإثم كله سيتحقق لو تجاهلت ديوانا باسم (خسوف الضمير )!.

واللافت للنظر والقراءة ان الشاعر قد وزع ديوانه الجديد على أربع عشرة قصيدة ( هذا ان عددنا المدخل قصيدة موحية كاملة القصد و الأركان) وهذه القصائد تحوي صرخات الشاعر ووصاياه وتحذيراته مما جرى ويجري من امتحانات عسيرة تناوشت الإنسان العراقي – باسم حجج وعناوين مزورة- فسقط من جرائها ، او بسببها أرضا – كما ان الماسكين لخيوط سقطاته وهوانه جعلوه أمثولة لا حد لبشاعتها وضياعها ويمكن ان تكون للتندر محلا وللبؤس شكلا وعنوانا ! نعي هذا من الضيم الشعري الذي بنزفه رعد زامل أمامنا ليذكرنا بجروحنا التي لم تشف بعد في صدرنا وليشير ، ربما بجهر ومكاشفة حادتين ، الى مصائبنا المتراكمة التي باتت تسد دروبنا وتتكدس في قلوبنا ( أنّى حولنا أبصارنا ) وبرغم من كل هذا فنحن نغض مشاهداتنا عنها وندعي أننا لا نراها حتى يدخل علينا شاعر عنوة ( ليس له غير بلاغة المصداقية ) فيكشف لنا ان الفضائح والهزائم في كل مكان ! .
واقسم لكم ان أصابعنا ستحترق لو اطلعنا على شعر كهذا :

(( انظري الى الحرب
أنها تشيخ
انظري انهم
يتبادلون رفات الجنود
ولكن لا احد بالذكر
يمرّ على دمي
الذي لا زال
يفور على
قمصان الغياب .. )) ص 18 kh raad zamel 2
وأعجب لو لم يخلف فينا قلوبا معطوبة وذاكرة مستباحة هذا الشعر:

(( الأبواق والطبول
ثم الغنائم والشرارة الاولى
هذا ما جنيناه من الحرب
ولأن الأبواق للمنشدين
والطبول للمهرجين
والغنائم للمتخمين
الذين لا خوف عليهم
ولا هم ينزفون
فلم يبق إذا غير الشرارة
لبيوت المساكين … )) ص 25

غلاف كتاب السعود. لوحة الغلاف للفنان المبدع مؤيد محسن
غلاف كتاب السعود. لوحة الغلاف للفنان المبدع مؤيد محسن

وإذا أضفنا الى ما ذكرناه قي أعلاه ان شاعرنا رعد زامل يصف الإنسان العراقي او بقاياه– بفعل الحروب والخراب والظلام –بأنه عابر سبيل ويحمل عمره كأنه ” كيس من النفايات “! ولا حاجة للسؤال فالإجابة معروفة وأزلية بفعل التكرار :لماذا اتخذ الإمبراطور من دم هذا الإنسان ” وقودا في الحرب “؟ لكنه يحذرنا جميعا من ان ” الحيتان قادمة ” ولا نندهش حين نجد الشاعر يفتش طويلا في ” الخرائب التي اسمها البيوت ” فلا يجد الا التعاسة ،ونتفهمه حين يسم تاريخنا المجيد بالدهليز الذي أضاع ب ” الأمس ” غرناطة واليوم ضاعت غزة ولا يجد طفل الغوث من احد يغيثه رغم كثرة القمم فلعنة الشاعر قد جمعت طرفي التاريخ : القديم والجديد !.
وفنيا فقد قسم الشاعر قصائده ، او غالبيتها ، الى نصوص قصيرة ولكنها عمودية ومرقمة لسهولة قراءتها والعودة اليها وقد انتهج ذلك حرصا منه على الهروب من الإطناب وتكثيف صورها وتمرير المعنى بأقصر التعابير والكلمات ، ولئن كانت العرب استمرأت كتابة القصيدة بأربعين او خمسين بيتا شعريا كي تستخلص
– هي او نحن – منها ” بيت القصيد ” فان رعد زامل يحمل قصيدته القصيرة عدة بيوت من القصد ( بيّنا او مضمرا ) وتلك فضيلته ، كما انه حرص على أمر آخر هو ما نسميه ( مجاورة الضمائر ) بمعنى ان الشاعر – في سعيه لتوضيح القصد – قد جمع الضمائر الثلاثة معا :
الأول ( ضمير المتكلم / أنا ) والثاني ( المخاطب / أنت ) والثالث (الغائب / هو ) وجاور بينها في نصوصه القصيرة او خضها سوية لإظهار معانيها البعيدة وشفراتها الصادمة للمتلقي العارف ! وعموما أرى ان هذا الشاعر قد كتب ( في ديوانه ) تلك القصيدة التي حلمنا ان نكتبها .. نحن !.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| طلال حسن : رواية للفتيان – خزامى الصحراء

إشارة: بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال …

هشام القيسي: أكثر من نهر (6) محطات تشهد الآن

ينفتح له ، وما يزال يرفرف في أفيائه مرة وفي حريق انتظاره مرة أخرى ومنذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *