إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تحتفي بالشاعر الكبير “عيسى حسن الياسري” بهذا الملف الذي – على عادة الموقع – سوف يستمر لحلقات كثيرة لأن الإبداع الفذّ لا يحدّه زمن . لقد وضع عيسى الياسري بصمته الشعرية الفريدة على خارطة الشعر العربي والعالمي . نتمنى على الأحبة الكتّاب والقرّاء إثراء هذا الملف بما يتوفّر لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق تحتفي بمنجز هذا المبدع الفذّ وتوثّق حياته الشخصية والشعرية الحافلة بالمنجزات والتحوّلات الإبداعية الثرة.
المقالة :
شتاء المراعي
بلاغة البساطة .. وعمق الأداء
……………………..
” هادي الربيعي “
ليس من السهل أن ْيهبط على أسواق الشعر العراقي المعاصر ديوان شعري مثل ديوان ” شتاء المراعي ” للشاعر المبدع ” عيسى حسن الياسري ” بعد أن ْعمت هذه الأسواق حمى اختراع الأشكال الشعرية الجديدة , التي وصلت إلى حد الفوضى , لقد جاء ليقف على طرفي نقيض مع كتابات العديد من الشعراء الذين توغلوا عميقا ًفي متاهة الشكلانية تحت ادعاءات شتى , من بينها تشظية اللغة , وإعادة اكتشافها , وإعلان القطيعة مع الذاكرة , لتأسيس ذاكرة الشعر الحقة .
لقد بدأ الشعر يتبادل المواقع مع العملية النقدية , فمن يتتبع هذه العملية في مراحلها المختلفة , سيجد أن ّهذه العملية كانت دائما ًوراء الآثار الإبداعية في الشعر , حيث تختار النماذج الشعرية التي تراها جديرة بأن تكون محور موضوعاتها ومعالجاتها , أما ما يحدث الآن فأن الأمر يختلف تماما ً, فالشعراء هم الذين يفصلون قصائدهم على ضوء مستجدات التيارات النقدية المستحدثة,
لقد جاء ” شتاء المراعي ” ليعيد الاعتبار للكلمة المقدسة , التي ينبغي أن تكون دائما ًروحا ًللشاعر في الكتاب الذي يمثل كينونة وجوده , وليغسل الكلمات مما تراكم عليها من آثار الأقدام وهي تتزاحم في حركتها اللائبة باتجاه شكلانية شعرية مجهولة الأهداف والمرامي , وليؤكد بما لا يقبل الشك بأن الشعر لا يمكن أن يأتي من كواكب أخرى , مجهولا ً, غريبا ً, محاطا ًبهالات الغموض الذي لا يستند إلى أي ادعاء روحي أو معرفي .
أن الشعر ينمو ببساطة من أعماق هذه الأرض ليس كما ينمو النعناع والأعشاب والأزهار على ضفاف أنهار وجودنا حسب , بل كما تنمو حتى بعض الأزهار الوحشية أيضا ً, لا ليعلن القطيعة مع الذاكرة الشعرية لتأسيس ذاكرة أخرى منفصلة موضوعيا ً , بل لينطلق من هذه الذاكرة في تأسيس الحقيقة الشعرية التي تمثل الملامح والسمات الخاصة بالشاعر ليؤكد على أن أية عملية اكتشاف جديدة في حقول اللغة المترامية الأطراف لا يمكن أن تتم إلا بإعادة اكتشاف المعنى .
إن تأسيس ” بانوراما ” شعرية لعوالم الشاعر الجنوبي الداخلية , حيث الطفل الذي يعدو فوق الحقول بأقدام حافية , والغناء الريفي الذي يختزن أعماق الأحزان الجنوبية , متجاوزا ً أحراش القصب النائية , والغروب الذي تتسارع فيه الطيور المتعبة صوب مهاجعها , والزوارق التي تتوسد أحضان الشواطئ بعد رحلات صيد خائبة , ونهر ” أبو ابشوت ” الصغير الذي يظل
يطارده في خيالاته , والرعاة الذين يجمعون فرحين أزهار البراري وهم يسوقون قطعان خرافهم.والراعية الجميلة التي اقتادت الشاعر بين الأحراش لتنثر فوق وجهه شلالات جدائلها,وتشعل فيه حرائق ما زالت مشتعلة حتى اليوم , والريح التشرينية العنيفة التي تخلع أوراق طفولتها , ورغيف خبز التنور الذي ما زال ساخنا ًفي الذاكرة الشعرية رغم مرور حشد السنوات , وعشرات التفاصيل الأخرى لجزئيات الحياة اليومية للجنوب .
أن ّتأسيس هذه ” البانوراما ” الشعرية لعوالم الجنوب الداخلية هو ما عمل الشاعر ” الياسري ” على ترسيخه حقيقة شعرية ًتمثل المعادل الفني لوجوده عبر خمس مجموعات شعرية , بدأت منذ عام 1973 بصدور مجموعته الشعرية الأولى ” العبور إلى مدن الفرح ” , ومن ثم لتتابع مشاهد هذه ” البانوراما ” في المجموعات الشعرية اللاحقة حتى ” شتاء المراعي ” .
قد يذهب بعضهم إلى أن ّتأسيس مثل هذه ” البانوراما ” الشعرية , قد يفضي إلى التكرار المتواصل في تناول الموضوع الشعري , والحقيقة أن التوجه لتأسيس مثل هذه ” البانوراما ” يمثل مصدر خوف للمواهب ذات الإمكانيات المحدودة , وهي محك كبير لإمكانيات الشعراء ذوي المواهب الكبيرة المتميزة , فهم وحدهم القادرون على تجاوز مثل هذا التكرار ليتحول إلى إضاءات شعرية متجددة ومتجانسة في نسيج البناء المتنامي لهذه ” البانوراما ” الشعرية .
وقد يذهب التفكير أيضا ًإلى أن الشاعر ” عيسى الياسري ” يعمل على ترسيخ اتجاه ” رعوي ” جديد في شعرنا العراقي المعاصر , هذا الاتجاه الذي تبدد بعد أن شاهدنا ومضات منه , مبعثرة على مسافات متباعدة في عوالم الشعراء المعاصرين , متخذا ًمن صرخة ” يسنين ” الرعوية نقطة انطلاق , ونحن نعتقد أن ” الياسري ” لا يعمل على ترسيخ مثل هذا الاتجاه , فهو ينطلق من إحساس عميق بقيمة المفردة الشعرية , وطاقتها الكبيرة في اختزان المعاني الإنسانية النبيلة , فالمهم لديه أن يعود الشعر حقيقيا ًصادقا ًنابعا ًمن الأعماق , بسيطا ً, ثريا ً , يتنفس هواء هذه الأرض , ويعانق عذابات المتعبين , ويضيء الطريق إلى فتنة الكون , وجمال التكوينات الإلهية على الأرض , محذرا ًمن الخراب الروحي الذي هو أشد دمارا ًمن أي خراب آخر , بل أن ّأيّ خراب آخر يكون نتيجة طبيعية وحتمية لهذا الخراب الروحي المدمر , وهو بهذا يسعى جادا ًوجاهدا ًلترسيخ حقيقته الشعرية التي تزداد رسوخا ًووضوحا ًوتناميا ً مع كل إضافة جديدة في الرصيد الشعري , وإذا امتلك تأسيس مثل هذا الاتجاه الرعوي العناصر والمستلزمات التي تجعله قادراً على أن ينهض بنفسه , معتمدا ً على قوة ركائزه , ليتحول إلى مجرى جديد يصب في المجرى الشعري العام , متحركا ًبفاعلية مؤثرة بحياتنا الشعرية فإنه سيكون قد تحول بهذا إلى حقيقة شعرية راسخة , وذلك أقصى ما يتمناه أي شاعر على الأرض .
ومن المهم أن نتذكر أن التجديد في الشعر لا يقف عند حدود تقديم أشكال وأساليب جديدة فقط , وإنما يمكن أن يتحقق من خلال تطويع الأشكال التقليدية للأساليب والموضوعات الجديدة , واستحداث المتغيرات الضرورية في سياقها التقليدي , والتعامل معها بنظرة جديدة , ووعي جديد ,وأن الشاعر الذي ينهمك في محاولات غير واضحة وغير مستوعبة لمتطلبات رسوخها , على أمل أن تكون للمستقبل , وأن المستقبل يقوم بتوضيحها , وإعطائها أبعادها النظرية , إنما هو مقطوع عن المستقبل أيضا ً, لأن المستقبل يستند إلى الحاضر , ويتضح من خلال وضوح الحاضر أيضا ً .
لقد كانت استجابة “الياسري ” للمتغيرات الضرورية واضحة في ” شتاء المراعي ” , إذ ْبدأت أغلب القصائد تعتمد على قوة الفكرة الشعرية , وبساطتها وعمقها , يرافق ذلك اختزال في الشكل الشعري , وقد وصل هذا الاختزال إلى حد اصطياد الومضات الشعرية , وتجميعها في نسيج شعري متنام ٍ, ولكنه ظل مع ذلك أمينا ًعلى التزامه بالتقاليد التي عمل الرواد الأوائل لحركة الشعر الحديث على إرسائها في بناء القصيدة العربية الحديثة .
………………………………….
” شاعر وناقد .. جريدة العراق – 22 آب 1992 “