لكل منا , نحن معشر الأطباء قصص وحوادث قد تمر مرور الكرام أو تلتصق بذاكرتنا لأعوام طويلة ,نعتصر منها الدروس العبروتعيننا على فهم حياتنا ومن يحيطون بنا من المرضى والمنتسبين وهذه لربما من نعم مهنة الطب حيث قيضت لنا أختراق الستر والأحجبة عن سائر البشروالمساس بالأنسان في اضعف لحظاته و أكثرها يأساً فهل ياترى أننا محصنون ضد الأحباطات والأنهيار النفسي عند مواجهة الألم الصارخ وشهقات الموت أم اننا بالأعتياد والتعود قادرين على ان نألف ما يخشاه غيرنا من محترفي المهن الأخرى؟
تصاحب الفرد أثناء حياته أنظمة للمناعة النفسية شأنها شأن جهاز المناعة الفسلجية وهي مجموعة من العمليات يقوم بها العقل الباطن لدرء الصدمات الشديدة والتخفيف من وطأتها ومنها عملية (التذاكي )Intellectualization اي تحويل الحدث والمنظر المؤلم الى رطانة علمية وابعاده عن الصيغة البشرية وكان هذا رصيدنا النفسي منذ كنا ندرس الطب في الجامعة وعند مواجهتنا لأول جثة انسان في مختبر التشريح ,حيث طفقنا في تسمية مانراه بالمصطلحات العلمية الصماء ودربنا أنفسنا على التعامل مع الجثث كتماثيل ومع المرضى المتعبين لا حقاً حيث يدعى المريض ب(الحالة ) case تجنباً لأشراك عاطفتنا في العملية التشخيصية والعلاجية.
بتناوب الأيام والشهور والسنين الفنا مئات المشاهد الحزينة التي صارت من ضمن يومنا الروتيني ولكن بقيت بعضا من هذه الروايات داخل الوجدان والذاكرة رافضة المغادرة ولعلنا نحن العاملين في الطب في العراق نلنا حصة الأسد من العمل الشاق المضني وفي احلك الظروف لقلة اعدادنا قياساًالى الأعداد الهائلة من المرضى والمصابين بفعل ظروف الحروب المستمرة والتحاق اعداد كبيرة من الأطباء الشبان والمتدربين بجبهات القتال لأدائهم خدمة التجنيد الألزامي لفترة لا تقل عن خمس سنوات اثناء الحرب العراقية الأيرانية وتقل بعدها حسب المتغيرات التعبوية . أمابقية الفئات العمرية من المشمولين بها فلا فكاك من أداء الخدمة الأجبارية والتي يعتبر التهرب منها خيانة للوطن وجريمة يعاقب غليها قانون الحروب ويسمونها في لغة العسكر (السوق )ولا عجب أن اللفظة تؤدي المعنى المطلوب وهكذا سيق مئات الألاف من الشبيبة العاملة والمتعلمة الى أرض جحيمية يقال لها هل أمتلأت ؟ فتقول هل من مزيد؟.
في اواسط الثمانينات كانت أحدى المستشفيات المركزية التعليمية التي كنت اتدرب فيها على التخصص في الطب النفسي قد حورت بعض ردهاتها لأستقبال الجرحى مباشرة من ميدان القتال وعدت أحد خطوط الأخلاء الخلفية اما القسم الذي نعمل به فبقي على وظيفته الأولى في استقبال المدنيين من المرضى النفسيين ولذا كنا في شبه عزلة عن ما يدور في الأقسام الجراحية وفروعها .
وردت شكاوي عديدة من الجرحى الراقدين وخصوصا أصحاب الجروح العميقة التي يتطلب تمريضها اعطاء المسكنات القوية بصورة متكررةلأجل تغيير الضمادات أوأجراء بعض التداخلات الجراحية الموضعية وكنتيجة لهذا تولد لديهم نوعا من الأدمان المشرعن على العقاقير المخدرة أي الذي تسبب به الأطباء وكنتيجة لذلك صعب عليهم النوم الطبيعي وقرر المسؤؤلون الأستعانه بخبرة المتخصصين في الطب النفسي ووقع على الأختيار لكوني المتدربة الوحيدة والتي تتوفر داخل المستشفى ليلأ ونهارأً ستة أيام في الأسبوع ويالها من مهمة ؟
أستدعيت في صباح رمادي كئيب الى جناح الكسور بدلأً عن الأستشاري الذي أنشغل بمهمة أخرى وفي الممر الطويل الذي يخترق الحديقة الوسطية بدأت طلائع الكراسي المتحركة تظهر للعيان متناثرة هنا وهناك يشغلها عشرات الشبان المعاقين حديثاً غضضت الطرف ليقيني اني ساكون على مقربة من نظرائهم بعد لحظات لعلني أخفف العبء عن عيني ووجداني وما أن دلفت الى الردهة المكتظة بالجرحى ومرافقيهم والمنتسبين من الممرضين حتى أستقبلني مسؤؤل الأسعلامات في بزته العسكرية وقادني الى أحد الزوايا حيث يصدر منها جلبة غير عادية قياسأً الى الضوضاء المستمرة لحركة لكوادر الطبية وكانوا في انتظاري :المقيم المتدرب والممرضة وأحد الأطباء العسكريين المنتدب من المستشفى العسكري المركزي كما فهمت لاحقا لمتابعة سير الأمور الأدارية والأنظباطية للجنود الجرحى في مستشفانا المدني .
تطلع الجميع الى بنظرة لا تخلو من الأندهاش ربما لعدم توقعهم وجود أنسة شابة في حقل الطب النفسي وهو ما يغاير الصورة النمطية لديهم عن شكل وجنس وعمر الطبيب النفسي أو (دكتور المجانين) .
أتخذت موقعي قبالة الجريح الشاب وانا أصغي لشرح المقيم عن تاريخ أعراضه النفسية ولم أستطع هذه المرة أن أحول عيني عن وجهه الشاحب الجميل وعينيه الواسعتين المنكسرتين ,كانت نظراته المفعمة بالألم تكاد تحفرصدغي وكانني قد رأيت سابقأً مايشبه هذه النظرة في بعض التراجيديات التاريخية المصورة أو في صور صلب السيد المسيح(ع ) ,يدل عرض منكبه على جسد كان معافى ويبدوناشزاً مقارنة بنقطة نهاية جذعه حيث يبرز من تحت الملاءة البيضاء أمتدادين لحميين تحت الحوض كانا يمثلان ساقين طبيعتين ,كانا يتحركان في اتجاهات دائرية كأذرع الأميبا وقد غطى الشاش الطبي موضع البتر الجراحي فوق الركبة .
تولدت شهقة داخل الفؤاد لرؤية هذا الأنقطاع الصارخ لديمومة بنية صحيحة .
تنحت الممرضة جانباً بتجهم وهي تقول لا أدري ماذا دهاه كل ما في الأمر انني عاتبته عتابا رقيقاً فاذا به ينفجر في البكاء والصراخ الهستيري وهو يضايق بقية المرضى ويعيق عملنا
وعلى ماذا وجهت له العتاب ؟
لربما لم يمر على من قبل ان اي شخص يمكن ان يوجه اللوم لمثل هذا المخلوق التعس.
وماذا حدث بعدها ؟ فاجابت بانها توجهت بالشكوى ضده الى الضابط المسؤؤل عن مراقبة تصرفاتهم فماكان منه الأ ان أعاد توجيه اللوم له وتذكيره بان رغم كونه بطلاً فان عليه أن يتصرف بتهذيب داخل المؤسسات المدنية .
لا استطيع النوم ولا اتمكن من نسيان ساقاي واتخيلهما موجودتين
أذن فهي ظاهرة معروفة لدى كل الأطباءولا سيما الجراحين ومن هم بتماس مباشر مع عمليات البتر بانواعها وتدعى (الساق الشبح) حيث يبقى المريض لفترة طويلة وبسبب القطع المفاجئ للمسارات العصبية , يحس بوجود ساقيه ويعذبه هذا الأحساس وبالأخص عند أخباره انها مجرد (هلاوس) ,فاردف قائلأً ليس هذا السبب فانا اعرفه وسكت بعدها .
فهي أذن الممرضة التي عن حقيقة او شك أدعت أنه قد تغزل بها وأسمعها كلامأً مشتقاً من أحد الأغنيات المبتذلة الشائعة أنذاك وما أن أشتكت من تصرفه حتى أخذ بالبكاء كالطفل الصغير
-كرر القول لي مع شهقات بكاءه :
– ألمن ذبيت رجلي ؟ مو لخاطر الحرائروالماجدات ؟
أي لأجل من رميت ساقاي ؟ اليس لهن ؟أي النساء العراقيات كما درج الأعلام المحلي انذاك على تسميتهن
سحبت وريقة على عجل وسط دموعي ووصفت له حقنه مهدئة ومضادات الأكتئاب وسلمتها الى الممرضة التي أخذت بالبكاءالصامت ايضاً وهي غارقة في خجلها .
خرجت بسرعة الى الفضاء الخارجي فاذا بمطر الخريف قد بدأ بالأنهماروبكت السماء ايضاً ,ولم اتمكن بعد هذا بسنوات طويلة من نسيان سؤاله الصعب : لأجل من ؟
عزيزتي د مها يونس ..
متألقة دوما في اهتماماتك الادبية مذ كنا طلبة في كلية طب الموصل للاعوام 1975 – 1981 .. و في تصوري ان هذا الاهتمام تكرس في اختيارك لتخصص الطب النفسي .. فكسب العراق اديبا من الاطباء .. سعيد جدا بما تكتبين .. فقد صادفت مقالك حول كتاب تاريخ الطب في العراق للاستاذ فرحان باقر و اعجبت بالحقائق التي كان يجب ان يتضمنها اي كتاب تاريخي يؤرخ لتاريخ الطبابة العراقية .. و بدات البحث عن كتاباتك الاخرى ..
اتمنى لك كل الموفقية و السعادة .. و تحياتنا انا و د ندى للاستاذ د سرمد خوندة.
د ماهر خليل جلو
استاذ مشارك و استشاري اول طب الغدد الصم و السكري
جامعة الخليج الطبية – الامارات العربية المتحدة
حرب عبثيه أكلت الآخظر واليابس وراح ضحيتها الأف الشبان وترملت الأف النساء بسبب عقليه النظام السياسي الأرعن المتعطش للدماء وأبتلينا بعد ذلك بشله من اللصوص وتجارالدين والطائفيين… لله درك ياعراق والله يعين الشعب العراقي على هذه المحن والأبتلائات.. عاش قلمك دكتوره.