جمال علي الحلاق* : عيسى حسن الياسري : قديس خارج الوقت (ملف/23)

jamal aliإشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تحتفي بالشاعر الكبير “عيسى حسن الياسري” بهذا الملف الذي – على عادة الموقع – سوف يستمر لحلقات كثيرة لأن الإبداع الفذّ لا يحدّه زمن . لقد وضع عيسى الياسري بصمته الشعرية الفريدة على خارطة الشعر العربي والعالمي . نتمنى على الأحبة الكتّاب والقرّاء إثراء هذا الملف بما يتوفّر لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق تحتفي بمنجز هذا المبدع الفذّ وتوثّق حياته الشخصية والشعرية الحافلة بالمنجزات والتحوّلات الإبداعية الثرة.

النصّ : 
لم يكتب أحد عنك هذه الأيام لأنك لم تمت بعد ، إذن ، لتكن هذه الكتابة احتفاء بوجودك في لحظتي ، ولتقرأها قبل أن تفتح الباب أنت أيضا وتخرج .
– 1 –
” تعلّم أن تقول وداعا ” ، هذه الجملة أوّل ما قرأت لك – ولم تكن الأخيرة بالتأكيد – كان ذلك في منتصف الثمانينات ، أو قريبا منها ، أُعذُر خرفي الذي ينمو ، جملة جعلتني أقف عندك ، ولم أك قد تجاوزت العشرين يومها ، هكذا رأيتني ، أقف في بستان صغير ، في قرية نائية عن التمدّن ، وأقول وداعا للأوراق التي تتساقط ، أكون الماء وأقول وداعا للضفاف ، وأكون التمر وأقول وداعا للأعالي ، كنت الباقي الوحيد في ذهاب الكائنات ، أبدي التجاعيد ، كل لحظة هي منحن في زمن يستقيم .
كان هذا درسك الأوّل ، ولم أك قد وصلت إلى بغداد بعد .
وفي بغداد ، التقيت بياسر ، قال : أنا ابن عيسى الياسري ، قلت : أنت ابن تعلّم أن تقول وداعا . كان انطباعي الأول عن ياسر – أحببته حقّا في ما بعد – ليس جميلا ، وأظنّه بادلني الانطباع ذاته ، حتى أني خشيت أن يكون هذا الشبل من ذاك الأسد ! وأن تكون الجملة التي قرأتها خرجت سهوا ، ثم تزوجت التي أصبحت زوجة مزمنة ، ودون أن أدري كانت تمتّ لك بصلة قربى ، لأنها التقت بك صدفة في حفلة عرس عائلي ، ولم تك قد رأتك منذ زمن طويل ، فاقتربت تحييك ، فسألتها : من أنت ؟ قالت : بشرى لطيف جواد ، قلت لها : لا ، بل بشرى زوجة جمال علي الحلاق ، أذكر أنها جاءتني بذات منتفخة ، قالت : الياسري عرفني بك
ثم التقيتك ، لا أدري أين ، ولا أشكّ أبدا أن المكان كان عزاء وموت ، تحدثنا عن الشعر ، كنت أقرأ أنفاسك يومها ، فحمدت الطبيعة ، وقلت في قاع نفسي : لم تأت الجملة سهوا ، وذكرت لك التفاصيل ، أخبرتك ما تموّج في ذهني ، إنّك إما أن تكون شيئا عاديا جدا ، أو قديسا خارج الوقت ، وقد كنت الثانية بحق ..ثم دعوتني لبيتك ، فأصبحت كلما شعرت بالضجر ألوذ بك ، فأجدك قائما تصلي.
– 2 –
أذكر أننا أقمنا لك أمسية في ملتقى الصليخ الأدبي عام 1990 ، قرأت فيها شيئا منك ، وتحدّثت عن رحلة لك إلى أوربا ، حين مررت صدفة بقرية نصبوا فيها تمثالا لشاب ، فلما سألت عنه قيل لك أنه شاعر القرية ، وكان قد كتب نصا واحدا نشرته صحيفة مهمة في ذلك البلد فأقاموا له تمثالا .

الياسري في حفل تكريمه بهولندا
الياسري في حفل تكريمه بهولندا

-3 –
كنت جريئا جدا في ابتعادك عن المؤسسة ، بينما تهافت الآخرون عليها كالذباب ، وكان من السهل جدا أن يكون لك حضور فيها ، لكنك آثرت ذاتك والشعر ، كنت صفعة على وجوههم طيلة جلوسك على الرصيف .
هكذا ، تذهب إلى موتك اليومي حيث تجلس أمام محكمة ما ، في ركن بعيد عن المركز ، ومع هذا كان الشعراء الشباب يأتون إليك باحثين عنك كي يعطوك نسخا من كتبهم المستنسخة ، لقد ابتعدت عن المركز بإرادتك ، وبقيت في الذاكرة بإرادتك أيضا
أذكر يومها أن حسن العاني كتب عن ابتعادك عمودا في مجلة ” ألف باء ” ، واتهم الاتحاد بالتقصير ، لكنه بعد سنوات قليلة عاد فكتب عمودا في نفس المجلة يصفك فيها بالبصير الذي سبق برؤيته الوقت ، وأن الأدباء الآن يبحثون عن أماكن على الرصيف فلا يجدون.
– 4 –
مرّة دخلتُ بيتك وكنت تصلّي المغرب ، فلما أتممتها جئتني تحيّيني ، ثمّ قلت لي : أتمم صلاتي ، قلت لك : اذهب إلى ربك ، قلت : نعم إنّه ربّي .
كنت تتحدّث عن الجنوب بحنين مؤلم ، المخطوطات التي احترقت مع القصب ، تفاصيل الناس وتضاريس أفراحهم وأحزانهم ، كما لو أن خروجك من الجنوب كان استئصالا في غير أوانه ، أنت في بغداد ، وحبلك السرّي يمتدّ إلى ” أبي ابشوت ” نهرك العالق فيك ، النهر الذي تسرّب عبر حقائبك إلى كندا ، وأظنه تجمّد فيها ، ربما أصبح زلاجة لمن يهوى الرقص. .
– 5 –
أذكر مرّة ، وكنت أمشي في باب المعظم مع الجميل جليل وادي ، التقيناك صدفة ، يومها قبّلت جليلا ، ورحت تعاتبه على الشيب الذي غزى رأسه فجأة ، تعاتبه بألم صادق ، كانت الشيخوخة تغزو تفاصيلنا ، وكنت تخشى أن يأكل الماء الضفاف الفتية ، أن يشيخ الأبناء قبل الوقت ، قلت لك : لماذا لا ترى رأسي الذي تساقط بعد الشيب ، قلت لي : أنت يئسنا منك ، أما هؤلاء الشباب فحرامات ، ثم تجاوزتنا في ألمك الخاص ، وحيدا تمشي على الوقت.
– 6 –
مرّة زرتك ، وكان في الغرفة جماعة قدمتهم لي على أنهم شعراء من العمارة ، وكنت أنا يومها ملتحيا ، ودار حوار طويل ، لا تندلق الكلمة الأولى حتى تسحب معها القاموس كله ، تفاصيل لا تنتهي ، ثم حان وقت الصلاة ، فقمتم جميعا إليها وبقيت قاعدا ، قال أحدهم : ها مولانا ؟ أجبته : أنا لا أصلي ، قال آخر : ظننّاك سيدا ! أجبته : ولماذا تقرأ لحيتي على أنها لحية محمد وليس ماركس مثلا ، هنا تدخلت أنت وقلت : دعوا الرجل وما يعتقد ، إنه حرّ ومن حقّه أن يعتقد أي شيء . .
كان قولك هذا مهما جدا بالنسبة لي ، إنه يكشف لي هويتك أيضا ، فأنا أحد وجوهك ، مثلما أنك أنت أحد وجوهي ، وأعتقد أن هذا ما كان يجمعنا معا .
بعد الصلاة طلبوا مني أن أقرأ نصا لي ، بعد أن اتهمتني بالشعر ، وقلت إنه شاعر ، لحظتها قرأت نص لم “” ، وهو نص يبدأ ببودلير فالأسكندر فنابليون فغويا ففان كوخ ، وهنا اعترض أحدهم : بويه وين البومحمد أشو كلها ما أدري شنهي ، ضحكتُ وقلت : لو صبرت قليلا فإنك ستجد
البومحمد ، وقلت أنت : انه لا يذكر اسما إلا علما فمن لا يعرف بودلير أو فان كوخ وغويا .
فلما قلت في قراءتي :
” إنك حتى
لم تك حاضرا مراسيم ذبح الحسين ”
قال الذي اعترض : أي بويه هذا البومحمد .
– 7 –

يوما ، زرتك مع فرج الحطاب وعباس اليوسفي ، بعد أمسيتك الجميلة عن الشعراء التسعينيين في أوّل أماسي الاتحاد عام 1998 ، كان موقفا جريئا منك أن تقف الى جوارنا نحن الخارجين على المؤسسة في بغداد ، تحدثّت عنا ، ودافعت أيضا عندما انبرى لك أحد ذوي الكروش ، الحمدني أو ما شاكل ذلك ، لا أحفظ التافه من الأسماء .
خرجنا بعد العشاء نتمشى في منطقة الطالبية حيث كنت تقيم ، ثم في نشوة الحديث عن شعراء العمارة ، قلت أنت : الشعر عمارة ، أجبتك لحظتها ضاحكا : عبّرها على اهل العمارة ، قلت لي : ولك انت نشاز ، ديالى ما بيها شعر ، قلت لك : وحسين مردان ؟ أجبتني : أنت وحسين مردان ، بس العمارة كلها شعر ، فانتفخ فرج الحطاب وعباس اليوسفي .
-8 –
قيل أنهم منحوك جائزة شعر في هولندا ، لا استغرب ذلك أبدا ، فالشعر موقف تجاه الحياة يتجلّى عبر السلوك ، وأنت شاعر بالممارسة ، في حين أن الآخرين شعراء كتابة ، ولا قران ولا مقارنة بين الأ ثنين. .
– 9 –
يحزنني أنني لم أرك منذ سنين.
…………………
*سدني – أستراليا .. صدرت له مجموعة شعرية بعنوان – صعادات –

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

2 تعليقان

  1. جمال علي الحلاق

    أبارك خطوة الاحتفاء بالشاعر والانسان النبيل عيسى حسن الياسري ، وأشكر للموقع إعادة نشر إحتفائي بالشاعر على موقع الحوار المتمدن عام ٢٠٠٦ ، لكنّني أثناء قراءة النص وجدت الفقرة السابعة وقد سقطت منها جملتين لذا أحببت أن أشير الى ذلك وأن ارفق الفقرة بتمامها مع تعليقي هنا . حياتي

    الفقرة رقم ٧

    يوما ، زرتك مع فرج الحطاب وعباس اليوسفي ، بعد أمسيتك الجميلة عن الشعراء التسعينيين في أوّل أماسي الاتحاد عام 1998 ، كان موقفا جريئا منك أن تقف الى جوارنا نحن الخارجين على المؤسسة في بغداد ، تحدثّت عنا ، ودافعت أيضا عندما انبرى لك أحد ذوي الكروش ، الحمدني أو ما شاكل ذلك ، لا أحفظ التافه من الأسماء .

    خرجنا بعد العشاء نتمشى في منطقة الطالبية حيث كنت تقيم ، ثم في نشوة الحديث عن شعراء العمارة ، قلت أنت : الشعر عمارة ، أجبتك لحظتها ضاحكا : عبّرها على اهل العمارة ، قلت لي : ولك انت نشاز ، ديالى ما بيها شعر ، قلت لك : وحسين مردان ؟ أجبتني : أنت وحسين مردان ، بس العمارة كلها شعر ، فانتفخ فرج الحطاب وعباس اليوسفي .

  2. شكرا للأخ الشاعر جمال الحلاق على مشاعره النبيلة والتفاتته إلى هذه الغلطة غير المقصودة
    تمّ تصحيح الخطأ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *