عصام القدسي : الوهم ..

osam alkodsi 2كانت يده تشد على معصمه ، بقبضة من حديد ، وهو يجول معه في السوق المزدحمة حد الاختناق. فالعيد على الأبواب ، والجميع في حماسة شديدة لاستقباله بشيء جديد. وبالرغم من أن الموسم شتاء ، والسحب الرمادية في السماء تومض كل لحظة بالمطر ، إلا إن الجو حار. لذا كانت حركته وهو يمسك بمعصمه ، بطيئة متأنية ، وفجأة وجد نفسه أمام معركة حامية ، بين أشخاص لم يتبين وجوههم لشدة الزحام . وقف ذاهلا وارتخت قبضته من الخوف ، فهو يخشى العراك ، ولم يجربه طيلة حياته . وحينما هدأت نفسه ، عاد يشد قبضته فوجدها خالية. التفت صوبه فلم يجده . جن جنونه وكاد أن ينهار على الأرض ، ولكنه تماسك وراح يجري في مسالك السوق المكتظة ، ويشق الزحام من حوله بيديه وكتفيه وصدره كغريق يحاول النجاة . كان ينادي باسمه بلوعة ويدور ، ويدور ويسأل كل من يصادفه . يحدق بالناس بريبة رجالا ونساء وأطفالا ، وكأنه يبحث عنه بين أيديهم وفي ثنيات ملابسهم . وما لبث أن أعياه التعب ، فأسند رأسه إلى جدار احد الدكاكين ، ومن ثم رفعه إلى السماء متضرعا .كانت السحب الرمادية تصطخب كروحه وتدمدم كضربات قلبه المتألم .وراحت السماء تمطر مطرا ناعما ، استسلم له وهو يبلل شعره الأبيض وينحدر ليغطي لحيته الأشد بياضا ، مما شجعه على البكاء . لقد بكى طويلا .بل أجهش ودموعه تختلط بماء المطر . وفي البيت قص ما جرى فلم يكترث له احد . وحينما بكى مرة ومرتين ، رأى المرارة بوجه زوجته وأبنائه الكبار ، بينما راح صغيرهم يقهقه ثم يهرب من أمامه .كان يفكر بالحادث ليل نهار ، ويرى الجميع من حوله كأن الأمر لا يعنيهم .وأخيرا قرر البحث عنه ، فراح يختلق الأعذار للخروج من البيت . وإذا منع ، تسلل خلسة في غفلة من الجميع .كان يهيم على وجهه في المدينة الكبيرة ، المترامية الأطراف ، المتشعبة المسالك . فيدخل الأسواق ، يحدق بالوجوه ، يسأل أصحاب الدكاكين ويجوب الشوارع ، يدق على الأبواب بحجج مختلقة . يتربص في الساحات علّه يجده . وكلما عاد استقبله أولاده بنظرات مرتابة ، وصرخت به زوجته وطلبت منه أن يكف عن جنونه هذا . ومرت سنوات طويلة ، أضعفت فيها الأيام ذاكرته فأصبح لا يتذكر تفاصيل الحادث كاملة . ولكنه لم يكف عن البحث ، وكان يروي لمن يصادفه ما يتذكر منها ، وينسى بعضها الآخر .وربما روى ما حصل بشكل مغاير عن الحقيقة أو بطريقة مثيرة للضحك ، حتى ظن بعضهم انه مجنون وان حديثه عبارة عن خيالات مريضة ، بينما سايره بعضهم بطريقة ماكرة وراح يدله على مكان وجوده . ولكنه كان كما يدعي ، انه أذكى من أن يخدع فهو لا يصدق كل ما يقال . لذا كان ينفر ممن يحاول تضليله ، ليعاود البحث من جديد .
وذات يوم حصلت المعجزة حسبما يظن . فقد رآه ينزل من سيارة أجرة أمام إحدى البنايات الكبيرة العالية ، ويدخل فيها مسرعا . ولكنه عرفه من علامات لا يعرفها فيه إلا من كان جزءا منه. كان يرتدي البنطال والقميص نفسيهما اللذين كان يرتديهما عندما ضاع منه .لقد كبر وأصبح أكثر وسامة مما كان عليه.بهت أول وهلة ، لما رآه وأحس إن ساقيه تخونانه في هذه اللحظة . ولكنه استجمع قواه ودخل البناية وراءه . واخذ يدور مع سلالمها ويبحث في غرفها وهو ينادي باسمه .ثم توقف فجأة وهو يلهث وتذكر حقيقة قاسية وهي: انه لا يعرف أحدا بهذا الاسم .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مها عادل العزي : قبل ان تبرد القهوة .

-الخامسة فجرا بتوقيت مكان قصي خلف البحار والمحيطات- اشعر بانهاك شديد.. او انها الحمى تداهمني …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| د. زهير ياسين شليبه : المهاجر .

كان علىَّ اليوم أن أرى فيلم المهاجر! اتصلتْ بي شريكة حياتي، أو “نصفي الأفضل” كما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *