*ناقدة وأكاديمية من العراق
(ضباب ليس ابيض) هي المجموعة الشعرية الثالثة للشاعرة غرام الربيعي بعد مجموعتيها (تراتيل في محراب النخيل) و( حلم آيل إلى الصباح).
وتشترك نصوص هذه المجموعة الشعرية في أن السواد هو القسيم اللوني الذي يطغى على سائر الألوان الأخرى ليصنع فجائعية المشهد الشعري وليكون الوجه الآخر للألوان التي توشح مظهرية تراجيديا النص.
ومثلما اعتاد الرومانسيون في مرحلتهم التنويرية الارتكان إلى العنصر الطبيعي كوسيلة أسلوبية للتعبير عن هول الإحساس بفجيعة الواقع وسوداويته؛ فان الضباب في مجموعة (ضباب ليس ابيض) بنصوصها العشرين كان قد شكل مع الغيم والصحو الزوايا المنظورة للأبعاد الطبيعية داخل اللوحات الشعرية.
أما العنوان الرئيس فانه نفسه العنوان الذي استهل به أول نص كعتبة أولا وومضة مكثفة الدلالة آخرا ليتلاقى الشعور بالفجيعة متواشجا مع مسحة الاختزال القولي عاكسا البعد النفسي لهواجس اللاوعي التي تغلغلت لتترسب متلبسة داخل القصائد :
أفرحنا التاريخ
معزوفة
تكربلت
عند الفرات ص7
وقد اتخذت النصوص شكل قصيدة النثر تارة وقصيدة الومضة تارة أخرى وبقي عنصر الضباب هو الثيمة التي بها تتوحد النصوص جميعها.
وإذا كان النص الأول ومضة برق بلا غيمة فان سائر النصوص الأخرى كانت قد استظلت تحت غيمات خمس تتلوها صحوة سادسة انضوت تحتها ثمانية نصوص هي ( شعراء، اهداءات، أبي، عذرا لك يا عيد، الراحل إلى القلوب، يأتيك الصباح مكبلا بالقصائد، قلق النوافذ). وامتازت الومضات الشعرية إلى جانب تكثيفها الاختزالي بتوظيفها للمفارقة الساخرة :
القاعة محتشدة
:
قرأ قصيدته
:
وحده
من صفق للصدى ص133
وتتوزع ترددات اللون الأسود على فضاء اللوحة الشعرية ليغدو الضباب ليس ابيض والليل ليس اسود :
مذ ابيضت ليالينا
والغسق أجهض حمرته
…
تخضب الليل المتهدل بأزمنة المرايا ص16ـ 17
وتستحضر الغيمة الأولى مشهدا واقعيا لفاجعة ذلك الجسر الذي لم تكمل عبوره امرأة وفجيعة الموت استشهادا على حرب لم تبق إلا الخسارة ووطن مرتجف :
الوطن يعتريني
موعدا للانتماء
سرت
والخارطة تضم أحرفي
مرتجفا يلقيني
أنت بي وطن وبك أنا الغريب ص15
وتتوالى ألوان الحمرة والخضاب والخاكي والأصفر متعاضدة مع اللون الأسود ليمنحها من ثم مسحة داكنة لحكايات اسمها الوطن وأضغاث تحيل اللون الأصفر إلى مجرد سواد يرمز للفجيعة وقتامة المأساة:
على شفا الريح
والتراب غير ندي
يمر بالقرب منها.. رصاص معطوب
يصفر وجهها
تتضرع الأمكنة ص40
ويكون في توزع الظلال ما يضفي مزيدا من السواد على حيز المنظر الشعري لتبدو الأشياء والليل والمواسم والفصول كلها مستاءة من سوادها الذي ظللها تاركا إياها فحما :
جهلت هوياتهم
بأمرٍ من ظلٍ* اسودَ (وردت في النص ضل كذا )
يتماهى
حتى آخر بطل راوده النصر
والفصول تنساب
بين الظل
ورزمة صراخ ص69
ويندمج اللونان الذهبي والفضي ليكونا الصدأ . أما السواد ظلا فانه اجتمع مع الأصفر ضوءا ليجسدا الوجع الممض لوطن يبحث عن أيام من الصحو لا أكثر:
في ثنايا الظل
تلبّس الزقاق زمنا.. اصفر الوجع
آهات الوطن
تحوم حولها
أيام ملفقة الأسماء
تأوي عاهاتها
صحوة وهم معتق ص20
وعلى الرغم من أن الغيم يتلوه صحو وينقشع الحزن ويحل العيد إلا انه هو الآخر لا ينفك أن يكون تحت وطأة السواد .
وإذا كان الأسود واحدا فان ما هو بياض سيكون مجموعا في إشارة رمزية إلى التفاؤل بالعنصر اللوني في معادلة الحياة /الموت:
يعشقون الشعر
وشمُ رجولتهم
مداهمة البياض
بجدران تخفق جنوبية ص86
والسواد سمة من سمات الحروب والدخان لون من ألوانها وبه تصطبغ كل الأشياء اللغة والجسد والعيون والأرحام :
سكنت الحرب جسدي بلون الدخان
نصحت الملامح قلقا
والعويل انتاب العيون
لحرب اغتالت غد الأرحام
بحوار مميت
لونه الدخان ص119
ولون السمرة هو هوية الكادحين وبصمة قناعتهم بالشمس التي وشمت أجسادهم لتعلنهم فقراء وليكونوا عنوان الطيبة التي تعشق القمر :
وسمرة بسحنة الوفاء والمحبة
…
تصفق للمخبولين
ولذكريات ليال جرداء
تجمع الأصدقاء ص162
والحرب هي متلازمة الوطن وإحدى حكاياته ومنها تستلهم الشاعرة نصوص (اضغاث ومخاضات وفقراء ونفايات) ولان للحرب هيمنة واضحة على المستوى الواقعي فإنها كذلك تهيمن على المستوى الجمالي فيما هو خارج المتن النصي إلى صفحة الغلاف الخلفي.
وعلى الرغم من ملمحية الفجيعة السوداء إلا إن الأمل يبقى معقودا بغد قريب وهذا ما يجعل النص مخاطبا الآخر مستنهضا همته معليا فيه روح الإباء والرغبة في التغيير :
كن أنت
ولا تكن ضميرا منفصلا
أو مستترا
كن دوما
متصلا
ثمة فجيعة
أن تكون واحدا ص82