أضع إبريق الشاي على النار وأتجه الى النافذة، شقتي الصغيرة معلقة على مرتفع يطل على سفح منبسط لمسافات بعيدة، تنفتح أمام صالتها سماء رمادية قاتمة أغلب فصول السنة، ألوان الطبيعة المبهجة اختفت بعد رحيل الربيع والصيف، وها هي الأشجار عارية تماماً وبلون كالح.
مزاجي مثل كل يوم، بلون هذي السماء، لكنني أعرف كيف أصنع سعاداتي، وكيف ألوّن الرمادي لتطلع من بين ثناياه الألوان.
هل قلتُ سعاداتي؟ ليكن إذا كانت حزمة الأوهام تنتشلني من صمت الجدران ورتابة ساعات النهار.
المطر ينث خفيفاً هذا الصباح، أفتح شاشة الموبايل لأقرأ النشرة الجوية، بعد ساعة سيكون المطر غزيراً تصحبه رياح متحركة تستمر الى ما بعد الظهر، عند المساء ستنخفض درجات الحرارة الى ما تحت الصفر بسبع درجات.
أخلف نافذة الصالة ورائي، وأتجه الى المطبخ، أسكب الشاي في قدح وأضعه على المائدة، خيوط البخار تتماوج في فضاء الغرفة، ورائحة الشاي تعيدني الى أيام خلت، وأقول لنفسي: أنا لا أحب الشاي ولا أشربه، لكنني بانتظار من يجلس قبالتي ويشرب الشاي.
تتزاحم الوجوه في رأسي، أستعرضها لأختار واحداً منها، لكن أي أحدٍ منها ليس المقصود، وهي أيضاً تقف بحيادية، ولم يبدُ أنها معنية بأمري، وهذا شيء يريحني، ذلك أنني تمنيت شخصاً بعينه، من الواضح، وبحسابات عاطفيه أعرفها في داخلي فهو رجل أحبه، بيني وبينه خطوة تبدأ بكلمة نعم ليعبر المحيطات التي بيننا، أو أعبرها أنا لأصل إليه حاملة قدح الشاي الساخن.
المطر يعزف وراء نافذتي ومايزال الشاي ساخناً، والوجوه تبدأ رحلة العودة فتتلاشى من رأسي، مفسحة الطريق للرجل الذي أحبه، يخرج من النقطة التي تلاشت منها الوجوه، ويسطع بحضورٍ باهر، أستقبله بابتسامة رائقة ويدور بيننا هذا الحوار:
ـ هل تشرب الشاي معي هذا الصباح؟
ـ بكل سرور.
ـ إذن تعال اجلس، صنعت الشاي كما تحبه، بنصف ملعقة سكّر، فأنا لم أنس عاداتك، هكذا أنت دائماً، تحب أنصاف الحلول.
ـ ألم يقولوا بأن خير الأمور أوسطها؟
ـ ولذلك تركتني في منتصف الطريق.. وكان الفراق.
ـ لكننا نلتقي مجدداً، حتى ولو كان الأمر على قدح شاي ساخن.
ـ وستغادرني بعد أن تنتهي من شرب الشاي.
ـ ربما.
ـ وهذه الربما التي لا أحبها تعيدني الى منتصف ذاك الطريق الذي تركتني فيه، إنها أداة غير حاسمة، مثل ريشة في مهب الريح، لا تصعد الى الأعالي ولا تحط على الأرض.
ـ هكذا أنا، وهكذا أنتِ، على هامش الاحتمالات منذ الأزل.
ـ هل تصدّق بأنني نسيت الأسباب التي فرّقتنا؟
ـ هذا أفضل، لكل شيء أسبابه التي تنتهي بنهايته.
ـ هل انتهى الحب بيننا؟
ـ يمكن القول إنه انتهى الى ذكرى عزيزة لم يمحها الزمن.
ـ الذكريات داء عصي على الشفاء إذا كانت من النوع الفاجع.
ـ لكننا مانزال مشدودين من خلالها، وبمرور الوقت تخف الآلام ويحل محلها التسامح.
ـ هل تظن بأنني سامحتك؟
ـ بالتأكيد، وإلا ما دعوتني لتناول الشاي معك.
ـ هذا صحيح، والعمر الذي نحن فيه لا يسمح بذلك.
توقف الحوار فجأة، فقد خبط شيء ما على زجاج نافذتي وسقط الى الأرض، بفعل هبوب عاصفة لم تكن متوقعة في النشرة الجوية، تطايرت أشياء كثيرة من بالكونات الشقق المجاورة، اهتزت مفاصل النوافذ، ارتعشت الأشجار، وتحولت قطرات المطر الى فراشات ثلجية تدوّرها الريح في الاتجاهات كافة، أعاين المنظر من وراء زجاج النافذة، وأعود الى جلستي، وحيدة ومتوحدة مع ذاتي، أتداول الحوار مع نفسي، متقمصة شخصيتين لا يجود الزمان بلقائهما، يتأرجحان على خيط وهمي لا يستقيم، وقدح الشاي لم يعد ساخناً.
إنه قدح شاي ليس إلا.
يقولون بأن الشاي يعدّل المزاج ويخلص الرأس من أوجاعه، وأنا أصدق ما يقولون على الرغم من أنني لا أحب الشاي، مثلما أصدق أن رجلاً عبر المحيطات في يوم عاصف وجلس قبالتي، نتحاور حول قدح شاي لم يشربه أحد منا.
هدية حسين : قدح شاي لرجل أحبه
تعليقات الفيسبوك
جميل ابداعك عزيزتي الكاتبة هدية حسين , ها انت مرهفة الشعور كما عهدناك
تحياتي