للقاص أحمد خلف تجربة فنية طويلة جدا ً ، ابتدأت منذ نهاية الستينات وما زالت مستمرة حتى الآن ، وحفل هذا التاريخ الطويل بالعديد من الإنجازات والتحققات في مجال القصة والرواية وقد لفت الانتباه منذ قصته الأولى ” خوذة لرجل نصف ميت ” المنشورة في مجلة الآداب وأثارت في حينها اهتماما ً نقديا ً في الداخل والخارج وتوجهت الأنظار إليه ، على الرغم من بدايته الأولى وسأحاول في مقال سريع ، هو المداخلة الشفاهية التي قدمتها في أمسية نادي القصة الذي احتفى هو واتحاد أدباء بابل بالقاص أحمد خلف حيث أثارت شهادته عديدا ً من ملاحظاتي وكان أولها الإشارة الى قصته ” سمك ميت . . سمك طري ” وهي من القصص المكتوبة عن انتفاضة آذار 1991 وأعتقد بأنها أول قصة عن الانتفاضة وإن لم يفصح عنها أحمد خلف حتى أنا لم أستطع الإشارة لذلك عندما كتبت عن القصة مقالا ً ، نشرته في جريدة الجمهورية . وموضوع القصة بسيط جدا ً ، زيارة الحفيد الى جده الذي ترك عمله في السفن بعد تجربة طويلة . واللقاء بين الحفيد والجد ، هو تحاور بين جيلين مختلفين وثقافتين متباينتين ، ثقافة الحفيد مصدرية ، قراءة الكتب والروايات وكانت معه رواية موبي ديك ، لملفيل ، وثقافة الجد متشكلة من تجارب حياتية طويلة بالعمل في الأنهار . وخبرة الجد بالأنهار أكثر مما يعرفه الحفيد من خلال قراءته لموبي ديك . كان بينهما صراع ، لكنه غير معلن والحوار التساؤلي للجد كاشف عنه . وما يهم هذا الرأي هو التقابل الدلالي والتوازي التعبيري بين تجربة الجد وموبي ديك المصرح عنها وتجربة سنتياغو لهمنغواي غير المعلنة ، لكنها حاضرة لحظة القراءة . وتشترك الشخصيات الثلاث بسياق مشترك ، هو العلاقة مع البحار والأنهار .
وكانت رواية موبي ديك هي مقدمة الكشوف عن حياة الجد وهذا أمر قصدي من قبل القاص أحمد خلف ، وهي مرآة كما أعتقد ، استعان بها القاص ، على الرغم من ملاحظات الجد ، ممتلك الخبرة العالية والتجربة الطويلة ، عن الرواية بناء على إيضاحات قدمها الحفيد وهو يومئ للرواية الضخمة ونظرات الجد إليها ، محدقا ً باستغراب من ضخامتها ، التي لن تكون موازية لتجربة العمر الطويلة جدا ً . وتوقفات الجد أثناء الحوار الموجز / البرقي تنطوي على موقف متباين بينه وبين الحفيد في الحصول على الحقائق التي لا بد وأن تكون خلاصات لتجارب شخصية وحقيقية . وحتما عرف الجد / الخبير بالأنهار ما أشار له موبي ديك ، مع الفارق بين تجربتي ” آشارب ” في صيد الحيتان والجد في صيد الأسماك ، وللاختلاف ظروفه الموضوعية بسبب التباين بين البحار والأنهار ، وما يشير الى تجربة الجد في صيد الأسماك هو الحوار الأخير مع حفيده والدال على فشل الانتفاضة وانتشار رائحة في الجو التقطها الجد قبل الحفيد ، هي رائحة قبور أو سمك ميت . ولهذا معنى واضح حول سيادة الموت والانطفاء المعبر عنه بلغة دالة ارتباطا مع تاريخ كتابتها ونشرها وأعني وحشية المؤسسات العسكرية مع المواطنين مثلما تشف عن دنو أجل الجد ، بعدما قدم لحفيده ما يغنيه في معرفة ما له صلة بالأنهار والعيد ، وكأنما أودع لديه تاريخ تجاربه الطويلة والعميقة ، ولم يكتف القاص أحمد خلف بالإيماء التعبيري عن سيادة الموت وانطفاء الجد وتواريخه ، بل قدم لنا استشرافا للآتي في زمن سوداوي ومظلم ورسم لنا نهاية مفتوحة ، نابضة بالمستقبل وترقب الخلاص وتحقق حلم استمرار الحياة وحصول متغيرات جوهرية وعبر عن ذلك بواسطة مشهد سريع ، التقطه وهو وسط الغرفة مجاوراً لجده ، شاب وفتاة يقفان معا وجها لوجه ، بينهما ألفة ومودة وحوار ، انتهى باحتضان احدهما للآخر واختصر تماما كل تواريخ الدم والتوحش في العراق . وأجد بأن التوازي بين التجارب يشف أيضا عن حروب من نوع آخر ، حروب مع الطبيعة من أجل أن يسجل الإنسان تاريخه الخاص بواسطة مدّونات حافظة للإرث الإنساني الخلاق . ولم يغفل أحمد خلف ضروريات الحياة ونواميسها الطبيعية وقوانين الدورة الحياتية للإنسان ، وأهمية التبادل والاتصال بين الأجيال والذاكرات والتواريخ ، لأن الحاضر / الحفيد ، حلم مستقبلي والجد آيل حتما للحظته الأخيرة ، ولحظة الحفيد في حضوره لموت الجد ، تعبير عن صعود الحاضر ورموزه الواعية ، المتصلة بالمعرفة والخبرة الإنسانية ، ومشهد العاشقين وهما يحتضنان بعضهما البعض بقبلة هي توقيع للحلم المستقبلي الذي يريدان وبذلك انتصرت الحياة على الدم ، وصعد البقاء قانونا أزليا مثل بقاء الأنهار بدلالتها الانبعاثية المجددة للحياة مثل العاشقين اللذين سيجددان الحياة أيضا ً وبإخصاب هو الخلاص .
* * * * * * * * * *
القاص أحمد خلف أول القصاصين العراقيين انشغالا بالميتا سرد كما أشار لذلك الناقد فاضل ثامر وكانت رواية الخراب الجميل المستعيرة عنوانها من الشاعر أدونيس مكتوبة بآلية الميتا سرد ولم يكن معروفا آنذاك على نطاق واضح ، لكن أحمد خلف لم يتمكن من ضبط الشكل السردي وإنما اهتم بالمضمون حيث كان المؤلف منشغلا بدور مواز للدور الفني الخاص بالسارد وهو يتابع جمع مادة روائية من مؤسسات صحفية وثقافية وعكس فيها نوعا من إحباط وخيبة المؤلف من العلاقات المجتمعية السائدة وكشف أيضا عن غيوم آتية وستكون أمطارها دما ً والعنوان وحده كاف للتدليل على ذلك ، ويعاود أحمد خلف مرة ثانية تجربة محمود سعيد في ” الخراب الجميل ” وبدقة فنية أكبر ومهارة عالية وخبرة واضحة جدا ً بالميتا سرد وذلك في قصته ” تيمور الحزين ” ومحاولة المؤلف قراءة مخطوطة جاء بها والده من مدينة “مارديان” عندما كان جنديا في الجيش التركي ولا بد أولا ً ملاحظة امتدادات التاريخ المتجلية في المخطوطة المعنية بتيمور لنك وحصول الأب عليها واطلاع المؤلف على تفاصيل حياة تيمور لنك وما تفضي به هذه الشخصية من انعكاسات واضحة على الوضع السياسي العراقي آنذاك وهذا التشارك الجوهري ثيمة هذه القصة الكاشفة عن مخاوف المؤلف مثلما صرح به وإحباطاته ونزواته الغريبة المعلنة عن وضع نفسي واجتماعي مترد ٍ ، ومثلما أشار أحمد خلف في شهادته المقدمة في بابل بأن حالة التأزم والفشل استلمها من روايتين مهمتين بالنسبة له هما رواية ” ما تزال الشمس تشرق ” لهمنغواي ورواية ” ثيران وفئران ” لجون شتاينبك حيث الإحباط والفشل الجنسي بالنسبة لشخصية همنغواي وتعطله عن الإنجاب والانهيار النفسي والأزمة المجتمعية التي عاشها بطل شتاينبك . هذا واحد من المؤثرات الكامنة في وعي أحمد خلف والثاوية في لا وعيه ، ولكن أهم أسباب إحباط شخوصه وتقاطعهم مع ما يجري ويحصل هو السائد الاجتماعي / السياسي المقروء من قبل المثقف / الضحية والشهيد في آن . مثلما حاول القاص تسجيل مرحلتنا التاريخية الصعبة والمعقدة لأنه شاهد عليها . أما قصة [ أخوة يوسف ] فهي الأخرى مكتوبة بآليات الميتا سرد ، وهي واحدة من القصص العراقية المهمة والمستشرفة بوعي مستقبلي ومدونة عبر الأسطورة / القناع تفاصيل المجازر خلال الانتفاضة أولا ً كما أنها استشرفت ما يحصل الآن من ذبح للمواطنين [ هذا ما حصل مع يوسف الذي حز رقبته البدوي ] وتحول جثته طعاما للكلاب .
استفادت القصة من الوثيقة متنا تدوينيا ، والقاص / المؤلف مكتشف الوثيقة
المدونة على قطعة حجر جلمود ، اكتشفه المؤلف ووجد نفسه ملزما بتنظيف
الحجر والكشف عن المدونة ، وأثناء ذلك توصل الى وجود نسختين من حكاية أخوة يوسف . ولم يلزم المؤلف المتلقي بآلية للقراءة واكتفى بنصحه للإطلاع على النسخة الأولى بسبب تاريخيتها . وتبدّى استثمار التاريخي / الأسطوري في قصة أخرى ” بئر الآبار ] حيث كشف عن وثائق خاصة بقرية ما ، عاشت ظرفا استثنائيا قبل عشرين قرنا ، وتم الحصول على الوثيقة / المدونة بواسطة حفر ثلاثة آبار ، قدم لنا السرد وقائع عشناها في الانتفاضة وزمن الحصار الطويل ، ويتداخل زمن السرد ويتشظى ويقدم لنا توصيفا لتفاصيل معروفة لنا حيث ” القيامة قامت الآن ” ويحقق المؤلف / القاص مزاوجة بارعة ، ومدهشة عن نسيج تاريخي متداخل ، بين القرون الكثيرة والحاضرة والسعي للتكتم على الحاضر مغلفا له بالتاريخ / الوثائق / معلومات عالم الآثار ، في محاولة منه لإزاحة الحاضر الى قلب التاريخ القديم ، لا من أجل إضاعته تماما بل لإضفاء الشعرية عليه وتصعيد طاقة الاستعارة الكامنة في التاريخ البعيد والإفضاء به شعريا نحو الحاضر ، والإبقاء عليه شفافا ً وكتوما ً ، ومضيئا ً . وأعتقد بأن ” بئر الآبار ” شاهد آخر على تحققات السرد العراقي الحديث خلال واحد من أكثر فترات العراق ظلاما ً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة المدى
الاثنين ــ 3/ أذار / 2008 العدد (1166) السنة الخامسة