عصام القدسي : وحيداً على الأرض

osam alkodsi 2تململ في نومه وقد تراءت له ظلال مرعبة تتراقص أمام عينيه ، وباغتته أضواء كالحرائق تغرق الغرفة ، حزمة غليظة من ضوء أحمر ملتهب تندفع نحوه، تتلوى مثل أفعى نارية ، تخيلها قادمة من الطرف الآخر من الأرض ، تعكس أشعتها :الستائر والطاولة وخزانة الملابس وجانب من السرير،كانت تندفع نحو وجهه وما تكاد تلامسه، حتى تبتعد ، لتقترب ثم تعاود الابتعاد وهي تطلق صوتا ممغنطا أخذ يخفت ، شيئا فشيئا حتى انقطع تماما ، تبعه انسحاب الأفعى الضوء، وانصرافها عبر النافذة . استغرق المشهد ثواني ، ثم عادت الظلمة تسود المكان . ظل جامدا في فراشه ، مستغرقا في ذهول شديد ، غير مصدق ما رأت عيناه.لكنه ما لبث أن أحال ما شاهده إلى هلوسة أصابت بصره.حدق بالظلمة فوجدها باهتة ، لزجة تفور كتنور . كانت جدران الغرفة من حوله تبدو عالية تمتد إلى مالا نهاية ، حرك يده تتحسس جسدها ، فانزلقت فوق الفراش، وعادت تنكمش مخذولة ، وقد تيقن من عدم وجودها إلى جانبه في السرير . سحب جسده بتثاقل واستند بظهره على الوسادة ، نادى عليها .وعاد يصغي ..صمت موحش يسود المنزل . وتساءل فيما إذا نزلت إلى الأسفل ، لغرض ما .نهض واقفا، تثاءب وخطا كالمسحور، وأحس بخفة وزنه . تحرك في الممر ، فشعر كما لو إنه يسير فوق سطح القمر حيث تتخفف الجاذبية .. وسادة من الهواء تحمل خطواته. توقف وأطل برأسه دون غاية في غرفة أبنائه الثلاثة، يحدق ، فلم يستطع الرؤية ، ضغط زر المصباح فلم ينبعث الضوء . اقترب وأمعن النظر ، فوجد أسرّتهم خالية . أجفل وتكهن أن ثمة أمرا غريبا يجري ومضى يُعمل فكره ، فأحس بالعجز .كانت هذه اللحظة ترتسم في ذهنه لوحة سريالية لا يجد لخطوط ألوانها المتشابكة تفسيرا ، جدران بأضلاع غير متناسقة وظلام زئبقي يتموج كالدخان ،والأشياء تتخذ أمام عينيه أشكالا مستقيمة ودائرية وملتوية..وحاول أن يطرد تهيؤاته ، وأن يفكر بطريقة مختلفة ، فافترض بأن الجميع في مكان ما في الأسفل يجتمعون لأمر طارئ ،أو مرض ألمّ بأحد منهم . هبط السلم بحذر ، وقصد غرفة الجلوس فلم يجد أحدا ، دلف إلى المطبخ فوجده خاليا ، انتقل إلى الصالة ، ثم إلى الحديقة ،ودار حول المنزل .. لا أحد . هاجمته مخاوف جمة.. ترى أين ذهب الجميع ، .؟ اتجه صوب الباب الخارجي، كان نور الكون قد بدأ يتكشف وضياء الفجر، يندلق راسما خطوطا بيض عريضة في السماء . أمام باب المنزل ،سمع زعيقا غامضا ينبثق من أعماق سحيقة من فوقه، تطلع إلى الأفق فرأى طائرا يمرق مسرعا ،كما لو يطارده نسر.التفت صوب محطة القطارات القريبة ، كانت مهجورة يغرقها السكون .استغرب الأمر ،فمنذ زمن بعيد وهو يرى في مثل هذا الوقت القطار الصاعد ، ينفث دخانه ، وعماله يتحلقون حوله وهم يتهيئون للانطلاق. ولفت نظره على الأرض بركة ماء كبيرة وعلى بعد خطوات خرطوم ماء تتسرب المياه منه بغزارة منحدرة إلى الشارع ولم يشاهد جاره العجوز الذي أَلِف وقوفه باكرا، يسقي حديقة منـزله الخارجية.. تطلع بعيدا ، كانت الشمس ترتفع ، لبث حينا يتأملها وهي تحتل الأفق ، وتفرش ملاءتها الذهبية فينجلي المشهد أمامه رائقا. سار باتجاه انسياب الطريق ، فرأى عربات تقف متباعدة ، مد رأسه داخلها فوجدها خالية . واصل سيره ، وبلغ متجرا طالما تبضع منه كان بابه مفتوحا ، ألقى فيه نظرة ، فلم يجد صاحبه ، بينما عهده دائما يقف منتصبا خلف طاولة البيع. عاود السير، وقادته قدماه إلى مقهى صغير، دلف إليه ، وقف وسطه ، شاهد أوعية الشاي داخل غور الموقد تغفو في حضن الجمر المنطفئ وخزان الماء الساخن يستقر على موقد خامد ومنشفة العامل الصغيرة هامدة على حافة الموقد المرمرية إلى جانب صف من الأقداح الفارغة المهيأة . ولاحظ فوق المناضد الصغيرة التي تتوسط مقاعد الجلوس أقداح شاي تركت لم يستكمل شربها لسبب غامض والى جانب بعضها علب سجائر وولاعات كما لاحظ صناديق طاولي مفتوحة، وأحجار دومينو لم تنته أدوارها ، ورأى عددا من النراجيل هنا وهناك على الأرض ، وقد استلقت خراطيمها الملونة إلى جانبها بإهمال وجزم دون شك أن ثمة أشخاص كانوا هنا..غادر المقهى ، وانطلق وأمل يراوده بالعثور على من يخبره بحقيقة ما يجري . وصل إلى ساحة وقوف الحافلات ، فرآها خالية ، تقطعها كلاب سائبة تعوي بصوت منخفض وهي تتعثر . تريث لحظات أمام كشك الصحف الذي يحتل ركنا من الساحة ، فتش ببصره فلم ير صاحبه . وانتبه إلى قط يجلس قرب الكشك ، يلحس ذراعيه بلسانه ويراقب بطرف خفي عصفورا يدرج على الأرض ، اقترب منه فانتفض القط مبتعدا. استل واحدة من الصحف المرصوفة بتناسق إلى جانب بعض المجلات والكتب والكتيبات فوق منضدة طويلة أمام الكشك ، وجعل يقرأ في عنوانها الرئيسي ” إشعاع كوني يتجه نحو الأرض .. يتسبب باختفاء الجنس البشري ” وانحدر ببصره يقرأ التفاصيل ولاحظ إن الصحف التي أمامه يعود تاريخها إلى أيام خلت . فوضحت له حقيقة ما يجري .أصابه الهلع ، وتخيل نفسه حبيسا داخل صندوق فارغ بحجم الأرض . سار على غير هدى ،عله يكتشف ما يخالف ظنه . وراح يجوب الدروب والأزقة ، ويعبر الشارع تلو الآخر ويطل برأسه داخل البيوت والمحلات والمطاعم ويتطلع إلى الأكشاك ومحطات الوقود .فتأكد له إن المدينة قد خلت من البشر تماما .. عجل الخطى كمن يخشى أن يفاجئه وحش ،انعطف باتجاه النهر، نزل منحدرا إلى الشاطئ ومشى فوق الرمال ،ثم جلس يستعيد هدوءه ، تحت شجرة وارفة الظل . كانت الأشجار التي تقوم صفا على امتداد الشاطئ غافلة عما يدور ، لاهية تلاعبها نسمات الهواء ، والمياه ما انفكت تنساب مواصلة رحلتها الأبدية وهي تتلألأ تحت الشمس . رمي ببصره إلى الطرف الآخر من النهر ، وقد شرد ذهنه . واخذ يتخبط في متاهات من التفكير، ويعود يتأمل الأمواج تنساب بتأن ، وشعور بالانقباض يقوض قلبه.لكن أملا مثل طائر سجين انطلق فجأة، ضج داخله ، إذ شاهد من مكانه رأس امرأة ينبثق من بين الماء بعنف ثم يظهر جزء من جسدها . اعتدل بجلسته ، واندفع بكامل حواسه يراقبها وهي تسبح نحو الشاطئ .خرجت المرأة إلى اليابسة ،وكانت شبه عارية . استوت واقفة ،وجالت ببصرها ثم اتجهت صوبه،وهي تعتصر شعرها وتمرر كفها على جسدها الطري . وقفت أمامه تتأمله ثم قالت : ـ أكاد لا أصدق ما يحدث..؟
ـ لم يعد هناك أحد ، سوانا.
ـ كأنني أرى كابوسا مرعبا .
ـ حقا .. شيء لا يصدقه العقل ..
ومرت لحظات تأمل .قالت فجأة وبشيء من المرح وهي تبتسم :
ـ إذن ، أنا حواء ، مادمت المرأة الوحيدة على الأرض .
فأضاف بلهجة ساخرة :
ـ وأنا آدم ..دون ريب ..
جلست بين يديه وهي تداعب بأناملها طرف ثوبها المتهتك وتمتمت قائلة : ـ هكذا من قبل ،كانت البداية .
ردد معها مجاريا :
ـ أجل .. هكذا كانت البداية ..
استلقت على الرمال متوسدة كفيها ، فبدت تفاصيل جسدها أمامه ، وفكرت :
ـ إذن .. وجب علينا أمر خطير..
ـ ما هو.؟
ـ أن نعيد الحياة إلى أمنا الأرض
انتفض مبتعدا خطوات عنها ، وقد فهم ما ترمي إليه ، ومضى قائلا:
ـ لا..لا.. لن تكون هناك حياة ثانية .
ـ وهل لنا خيار غيره ..؟
قال محتجا:
ـ وننجب قابيل آخر وهابيل ..!!
ـ ولم لا .؟
ـ ويقتل أحدهما الآخر ..!!
تساءلت مستغربة :
ـ ماذا تقصد .؟
صمت لحظة وأوضح قائلا:
ـ ثم تتوالى جرائم البشر.. تنسج مأساة الإنسان الجديد !!
قالت برقة الأنثى :
ـ بل سنلقنهما الحب و نعلمهما فعل الخير.. فتسعد البشرية من بعد ذلك.
قال بحزم :
ـ لن أشترك بجريمة كبرى كهذه ..
نهضت بخفة واقتربت منه ، وأحاطت عنقه بذراعيها وقالت بغنج :
ـ لابد أن نفعل ذلك ، من أجلنا ..
ـ من أجلنا ..؟
ـ تخيل كيف تكون حياتنا القادمة ، بدون الآخرين .؟
أحس بأنفاسها تلفحه بسياط الرغبة ، فأطرق إلى الأرض وتمتم :
ـ إذن .. دعيني أفكر .
أفاق من نومه ،وأجنحة فراشات ملونة تداعب أجفانه، وقد بدأ ضوء الشمس يتسلل من وراء ستارة النافذة إلى داخل الغرفة ، والصمت والسكون يلف المنزل .ظن للوهلة الأولى أن ما مر به لم يكن إلا حقيقة . لكنه ما لبث أن سمع أصوات أبنائه يأتي من الغرفة المجاورة ، فابتسم وراح يسترجع حلمه بترو وحين انتهى ، غادر الفراش واتجه إلى النافذة وأزاح ستارتها . تحت نافذته كانت الحياة قد تيقظت وأخذت تندفع لكل الاتجاهات.وعاد يتخيل لو أنه كان الرجل الوحيد حقا على الأرض، وكان بيده أن تبدأ الحياة ثانية عليها أو تنتهي إلى الأبد ، فأي الأمرين كان سيختار ، ومضى يجهد ذهنه ويقلب الأمر في رأسه مرات ومرات، وينتهي كل مرة إلى السؤال نفسه .وسمع نداء زوجته قادما من الطابق الأسفل ، ينتشله من حيرته ويدعوه وأبناءه لتناول الإفطار ، فتحرك ملبيا النداء .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مها عادل العزي : قبل ان تبرد القهوة .

-الخامسة فجرا بتوقيت مكان قصي خلف البحار والمحيطات- اشعر بانهاك شديد.. او انها الحمى تداهمني …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| د. زهير ياسين شليبه : المهاجر .

كان علىَّ اليوم أن أرى فيلم المهاجر! اتصلتْ بي شريكة حياتي، أو “نصفي الأفضل” كما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *