إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ بنشر الكتاب الجديد للناقد والصحفي والمجاهد الثقافي العراقي الأستاذ “ناظم السعود” “لا صحافة أدبية في العراق” على حلقات. وناظم السعود مدرسة صحفية عراقية أصيلة ، وقلم نقدي بارع ، وسمته المشتركة الأهم في الحقلين هو أنه مبضع لا يهادن، ولكنّه مبضع جرّاح فيه الشفاء للنصوص والنفوس العليلة، فناظم لا ينسى دوره التربوي الخلّاق أبدا. في هذه الحقات دروس عميقة ثرة من تجربة السعود.. فتحية له وهو يبدع وسط لهيب محنته.
المقالة :
هل بتنا نخشى المبدعين ؟!
من أكثر أنواع الوجع الثقافي التي رأيتها وعايشتها عنوة ، لنحو من أربعين عاما ، حتى يمكنني أن ارفعها لمستوى الظاهرة الخادشة هي اللصيقة بمستوى تذكرنا للمناسبة الثقافية – ولا أقول احتفاءنا بها فثمة خطل وفرق لو تعلمون !- فأكاد اجزم هنا أننا نكره تلك المناسبات ولا أتذكر اننا احتفلنا بها في مستوى لائق يعكس قوة الظاهرة الثقافية وتشربها في وعينا وسلوكنا بل ارى _ ومعي براهيني _ ان القائمين الحاليين والسابقين على الشؤون الثقافية يتناسون جهرا وفعلا ما لدينا او ما نمر به من مناسبات وظواهر ثقافية على مستوى هذا العام
او الأعوام السابقة وإذا تذكروها او أشار إليها احدهم بادروا ثقالا للتنويه بها ولخصوا سراعا ما قام به أصحابها في وقفات هزيلة وفقرات ممجوجة ثم تعود الأمور الى ما كانت عليه قبل الاستذكار الثقيل هذا حتى يجر السؤال الحزين : هل أننا نتجنب المناسبات الثقافية وما تفرضه علينا من التزامات واهتمامات ؟ على ان السؤال الأصح هنا : أصحيح إننا لا نحب المبدعين ؟!.
وللأسف الشديد ان الجواب الحقيقي والمستند الى أدلة وبراهين على هذين السؤالين المدببين سيكون بالإيجاب المؤلم حتى وان تطلب ذلك مراجعة نفسية وسلوكية لمواقف الذات العراقية التي تتجاهل ما وعدت به او التزمت تجاه المنطق ما أن نجحت في تبوئ المنصب الثقافي او رفعها المسؤلون بجهلهم اليه ، والمشكلة التي أراها صاغرا هي ان المناخ العراقي ( الآن ومنذ عقود ) يتصاغر ويصفر المناسبات بل ويتجاهل الرواد والمبدعين وأصبحنا وكأننا في مدن أشباح لا حياة ولا إبداع فيها فنضطر الى اجترار المناسبات القديمة حسب ! او ننظر بحسرة الى احتفاء الأغراب بمناسباتنا وكيف أنهم هناك يتذكرون مبدعينا أفضل منا …هل تريدون مثالا ساطعا للدلالة على ما اقول ؟!.
قرأت مؤخرا . وفي غير جريدة عراقية وعربية خبرا ثقافيا حارقا سيثير حتما ما بداخلي من سلب وأمل مطفأين : الخبر يقول ان الذكرى الخمسين لوفاة رائد الشعر العربي الحديث وهو العراقي بدر شاكر السياب على الأبواب الآن بل ان هذه الذكرى ” التي لا يجود بها الزمان الا مرة كل نصف قرن ” أصبحت فرصة للاحتفال وغوث ذلك الشاعر النحيل الذي مضى مثيرا الأسى والمجهول والغمط لا سيما في وطنه!.

ويثير الخبر ” الذي أعادت نشره جريدة المدى العراقية قبل ايام ” مزيدا من العواصف والخروقات والاتهامات( بيننا طبعا !) حين حلول الموعد كل عام بلا جدوى او استذكار مناسب أن المؤتمر العام الخامس والعشرون للاتحاد العام للأدباء والكُتَّاب العرب، الذي أقيم في المنامة في كانون الأول 2012، قد أقرّ تقليداً سنوياً طبقاً للقرار الآتي: “وافق المؤتمر العام على توصية اتحاد كُتَّاب وأدباء الإمارات على اعتبار عام 2014 عام السيَّاب، بمناسبة مرور نصف قرن على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب، على أن تقام فعاليّات ثقافيّة وأدبيّة بهذه المناسبة في كلّ الاتحادات الأعضاء، بالتعاون مع الأمانة العامة.!
لكم ان تتخيلوا العجب _ او حتى الفضيحة الكبرى_ معي ذلك ان اتحاد الإمارات هو الذي قدم مقترحا لنظرائه العرب للاحتفال بخمسينية شاعرنا السياب وليس الاتحاد العراقي الصامت الذي يعيش غيبوبة كاملة فلم نسمع له تعليقا او توصية او مبادرة لاخراج هذا المبدع العراقي من حالة المجهولية التي تلفه منذ رحيله المبكر قبل نحو نصف قرن , والذي يحزن اكثر في هذه الواقعة التي ستضاف حتما ل ” يوميات العراق ألغرائبي ” ان أحدا من هذه المسميات العجيبة للنقابات والاتحادات التي باتت تتكاثر عندنا كالانيبيا لم تتطرق او تنتبه لذكرى هذا المبدع او سواه من الرواد المنسيين في بلدهم ولكنها – يا ويلتي – ستنتبه حتما وستقوم بالعجائب ما ان تأتيها دعوة او استذكارا حتى ولو من الامارات !!.
هل انهم هنا يكرهون او يقتلون بدر شاكر السياب في كل عام لأنه عملاق أولا او انه يعيدهم لمستواهم الحقيقي غير المزيف ثانيا؟! .. طالما سألت نفسي هذا السؤال العسير وأنا ارى صاغرا كل هذه الخطوب والاجحافات والتجاهلات خلال السنين اللاحقة على رحيله الفاجع منذ خمسين عاما ولكن الاجابة المدمرة تأتي من البراهين التالية :
هل أنهم أقاموا – هنا في بغداد او هناك في البصرة – متحفا يضم مؤثراته ومقتنياته وابداعاته العديدة ؟ أين بيت السياب الموعود ؟ اين يذهب السياح اذا قصدوا البصرة وأرادوا رؤية منزل رائد الشعر العربي الحديث ؟!.

وتكبر ني الغصة وربما يتكدر مريض مثلي ازاء اسئلة يجهر بها كل عام دون ان يجد إجابة شافية بل تراه يطلق أسئلة ممضة ونحن في بدايات سنة 2014 وكان الأولى به ان يطلقها في أربعينات القرن الفائت لمن يعون فقط ؟!.. كما أن الإجابة المسبقة تنبجس من إيحاءات الخبر المذكور الذي يمد لسانه لنا فيقول بقصديه واضحة ” … وانطلاقا من ذلك نظم اتحاد كتاب وأدباء دولة الإمارات العربية في أبو ظبي أمسية شعريّة أدائية؛ هي باكورة البدء بالاحتفاء بمرور 50 عاماً على وفاة الشاعر الرائد بدر شاكر السياب (25 كانون الأول 1926 ـ 24 كانون الأول 1964)، أحد أهم مؤسّسي الشعر الحرّ في الأدب العربيّ.وقد كان سباقا بهذا الاحتفال قبل كل الدول العربية حتى موطنه …”!.
لن اقدم هنا مزيدا من النبش والعرض والمقارنة , ولكنني كتبت قبل ست سنوات او يزيد في مناسبة كهذه ما نصه ” .. عقود متكالبة لم تنجح في دفع المسئولين المحليين أن كان في بغداد العاصمة أم في بصرة الولادة بإنشاء ولو متحف صغير يجمع عضام السياب وأنفاسه وأصداء كلماته للأجيال المحاصرة أو الخارجة من كهوف الحكومات ولم تنفع النداءات والاستغاثات بدفع حكام البصرة وبغداد في إعادة الروح لأطلال بيت السياب المتهاوية ولا إغاثة نهر ( بويب ) بجرعة ماء الله فبقي منسيا وآفلا …..أما ( بيت جدي ) و ( شناشيل ابنة ألجلبي ) فبقيا طيفا في عيون المحبين وقراء تراث السياب ولم تمتد يد خيرة أو متبطرة أو باحثة عن الوجاهة في جر الذكرى من السديم وجعلها حية تسعى في جغرافيا أبي الخصيب ..”.. وقد لا يجد هذا النداء صدى عند اصحاب الكهف !.