*ناقدة وأكاديمية عراقية
يقول ميشيل فوكو في كتابه (جينالوجيا المعرفة) :” عند العديد منا رغبة مماثلة في ألا تكون هناك بداية. أن يجدوا أنفسهم من الوهلة الأولى على الجانب الآخر من الخطاب في وضع خارجي يتجنبون معه ما هو متفرد .. في الخطاب ”
وفقا للتفسير الثقافي فان اتخاذ فن الرواية للصياغة الثقافية المنتصرة للاتجاه المؤنث والمعلنة عنه بلا توارٍ والمانحة له الاعتبار انما هو فعل مضاهاة يحاول ان يقيم النسق المضمر الغائب في موازاة مع النسق المركزي المعلن..
ورواية (الاسود يليق بك) لاحلام مستغانمي كانت قد كتبت على وفق هذا التفسير الثقافي اعني اعلان الغلبة للوتر المضمر النسقي لتغدو المرأة هي الكائن المسيطر والغالب في مقابل تسطيح النسق المعلن الفحولي الذي لا يقبل للرجل أن يهوى أمام كائن هامشي مثل المرأة ولا يسمح للشخصية المؤنثة أن تلعب دورا محوريا.
وقد توزعت الرواية بين أربع حركات سردية امتزج فيها اللون والإيقاع في لوحة واحدة ليحكيا رواية عشق دراماتيكية وقد تمثل ذلك كله بدءأً من الإهداء “سألتها: والآن أتندمين على عشق التهم تلابيب شبابك؟ “ص5
وصارت الشخصية المؤنثة في بنية العنوان هي المخاطبَة أما في الإهداء
فإنها هي التي تخاطِب ” من اجل صديقتي الجميلة التي تعيش على الغبار الذهبي لسعادة غابرة وترى في الألم كرامة تجمِّل العذاب نثرت كل هذه النوتات الموسيقية في كتاب علني اعلّمها الرقص على الرماد. من يرقص ينفض عنه غبار الذاكرة . كفى مكابرة قومي للرقص” ص5
واسهم غلاف الرواية الأمامي في تأكيد اللمحة عينها التي أراد العنوان والإهداء تأكيدها فباقة التوليب صورة مؤنثة تشكلها خمس وردات ملونات بالبنفسجي المشوب بالسواد ومرتبات بطريقة تصاعدية واحدة فوق الأخرى على شكل اضمامة شغلت الجزء الأيمن من سطح الغلاف ويربطها جميعا غصن اخضر مع إمالة أنثوية توحي بالحركة والانثناء.
في حين جاء العنوان الرئيس( الأسود يليق بكِ ) مكتوبا بخط اسود على الجانب الأيسر وفوقه اسم المؤلفة ( أحلام مستغانمي) مكتوبا باللون الأحمر وقد ماثلت مساحة العنوان طول الغصن الذي يحمل الزهرات الخمس فبدت الباقة وكأنها تحتضن العنوان احتضانا ورتبت كلمات العنوان واحدة تحت الأخرى بشكل عمودي أيضا.
وقد كتب في الغلاف ما بعد الأمامي وباللون الأسود اسم المؤلفة أيضا وتحته العنوان على شكل عمودي وبلون أسود غامق لكي يجذب نظر القارئ وبخط يماثل خط العنوان في الغلاف الخارجي فبدا العنوان كأنه ـ وبسبب ما يوحي به تماثل لون الكتابة وترتيب الكلمات في شكل عمودي ـ (أحلام مستغانمي الأسود يليق بكِ).
ومن المفارقات السيميائية في الرواية استعمال المأثورات القولية كافتتاحيات تستهل بها مقاطع الحركات السردية، فالحركة الأولى استهلت بجملة ( الإعجاب هو التوأم الوسيم للحب ) واستهل المقطع الثاني من الحركة الرابعة بـ( أحب من شئت فأنت مفارقه ) للإمام علي بن أبي طالب.. ص 294
وكذلك توظيف العلامات الكتابية كالنجمات والفارزات والأقواس والبياضات والغاية تحقيق إحالات سيميائية نحو (مرجع وموضوع ومؤول)
وتحريك حرف الكاف بالكسر يتلاقي مع ما تعاهدت الرواية على إظهاره وهو تغليب العنصر النسائي، وجعله المعنى المشخص في الرواية التي كانت اغلب شخصياتها نسائية.
وإلى جانب كون المراة ساردة ومسرودة فإن صورة الزهور هي الأخرى كانت بمثابة المؤنث الذي يؤدي دورا معاضدا لإظهار النسق النسائي فالزهور رمز الشباب الغض ومداد الحياة الزاهرة” استيقظت على منظر الورود التي ازدادت تفتحا أثناء الليل لولا أنها تنقصها قطرات الندى لتبدو أجمل …وحدها الورود التي تنام عارية ملتحفة السماء مستندة إلى غصنها تحظى بالندى . لكن حتى متى بإمكان غصن أن يسند وردة ويبقيها متفتحة؟ سيغدر بها وسيسلمها إلى شيخوختها غير آبه بتساقط أوراق عمرها. ذكّرتها الورود بالزوال الآثم للجمال في عز تفتحها تكون الوردة اقرب إلى الذبول وكذا كل شيء يبلغ ذروته يزداد قربا من زواله.فما الفرق إذا بين أن تذبل وردة على غصن أو في مزهرية؟ ” ص23
ومن هذا المقطع نستشف إيحاءً نعرف من خلاله لمَ اختارت الكاتبة صورة باقة التوليب للغلاف الخارجي، وهذه الخطاطة توضح ذلك:
الوردة مع الندى = الشباب الوردة في المزهرية = الجمال
الوردة = العمر
أما اللون الأسود فانه شكَّل المحرك اللوني للرواية فهو الذي يوجهها يمنا وشمالا جيئة وذهابا ولولاه ما وقع رجل الأعمال في حب البطلة.
ويكون الرقص والموسيقى هما البديل لتعادلية الأنا والآخر، “ظننتك أحببت حدادي حين كتبت لي ” الأسود يليق بك “، فأجابها : ـ ربما كان عليَّ أن أقول انك تليقين به. الأسود يا سيدتي يختار سادته “ص49
والأسود هو عنوان المكابرة والصبر الذي جعل البطلة كائنا منقسم الروح والاسود ايضا الخيط الرابط للحبكة القصصية والصانع لمفارقاتها الذهنية .
فما كان للبطلة أن تواصل حياتها في مقاومة الموت إلا بالسواد” كان الموت إياه ينتظرها في سيناريو آخر هذه المرة ليس الجيش الذي يقتل الأبرياء بشبهة إسلامهم بل الإرهابيون يقتلون الناس بذريعة أنهم اقل إسلاما مما يجب “ص 192
وهذا ما جعل اللون الأسود يحتل مركزا محوريا في الرواية بدءا من كتابة العنوان ومرورا باشتراكه مع الألوان الأخرى في تشكيل الصورة التي ترمز للأنوثة والشباب والصفاء الرومانسي وهو ما أرادت الرواية أن تؤكده ..
وإذا كان الأسود والبنفسجي يقتسمان لوحة الغلاف الخارجي؛ فان اللوحة ستغدو في نصفها الأيمن مسالمة ووديعة وفي نصفها الأيسر متشائمة ومعادية ففي اليمين اللون البنفسجي المبتهج بأزهاره وعلى الشمال الأسود القاتم بحزنه.
وكانعكاس لتعادلية الحياة وبسبب كون اللون الأسود في الغلاف الأمامي وبشكله الكتابي الكبير موحيا بالحزن والانكسار والخسارة؛ فان اللون البنفسجي سيخالف ما ينبغي أن يوحي به شكله الزهري المسالم لتطغى الدلالة التي أراد الأسود تأكيدها…
ولكن لماذا انتقت الكاتبة لاسمها اللون الأحمر واختارت النصف الأيسر العلوي من الغلاف الخارجي موضعا لكتابته ؟
لا مناص من القول إنها أرادت أن تعلن تمردها وثأرها على عدو مقابل لا خفي شاهرة أسلحتها بوجه مغرم عاشق..
والهدف هو سيرورة النسق الإنساني المؤنث وحضوره جنبا إلى جنب النسق المذكر ليظهرا نسقا واحدا متعايشا غير متصارع وبذلك تزول مشهدية صراع الأنساق على صعيد المتخيل الثقافي الجمعي.
وهذا ما أرادت الرواية بكاملها إظهاره؛ فالقصة تدور حول امرأة هي المروي لها أما قصتها فتروى من قبل أنثى ساردة كلية العلم مقتحمة ..
وتجربة الحب التي عاشتها صديقة الساردة التي ( تعيش على الغبار الذهبي لسعادة غابرة) فيها الم وعذاب وقد تحولت تجربتها إلى حركات وسكنات موزونة ومحسوبة.. بدليل أنها حتى في كتابتها للعنوان جعلته مضبوطا بالحركات الفتحة والكسرة والضمة في إشارة إلى تتابع حركية السرد وتواليها.
وقد توزع السرد في حركات أربع ومقاطع اثني عشر في ثلاث مئة وإحدى وثلاثين صفحة وبانتظام كتابي محسوب بمهارة ..
وضمت الحركة الأولى ثلاثة مقاطع والحركة الثانية ثلاثة مقاطع وضمت الحركة الثالثة ثلاثة مقاطع وكذلك جاءت الحركة الرابعة في ثلاثة مقاطع متناصة مع مقولات لاعلام معروفين واخر تلك المقولات مقتطعة من مقولة للفيلسوف نيتشه ( الموسيقى ألغت احتمال أن تكون الحياة غلطة ) وهذا ما ارادت الرواية البوح به في صياغة شاعرية تستمد حركيتها من سيمفونية الفعل الكلامي اجمالا..