*مدرس علم النفس
كلية التربية – جامعة الحمدانية
Email:-shawqi.yusif@yahoo.com
يعد مفهوم الضياع Disengagement من المفاهيم التي درسها علم النفس في العقود الاخيرة من القرن الماضي . ويعرف على انه حالة نفسية يشعر الفرد فيها بفقدان التوجه ، واليأس ، وعدم الرضا ، وفقدان الطمأنينة ، والميول الانتحارية (1). لن نتناول هذا المفهوم ، كما ذكرنا في المصدر المذكور انفا ، مفهوم الضياع وفق تنظيراته النفسية المختلفة ، لأننا بصدد جانب تطبيقي لا غير . في يدينا مجموعة قصصية للقاص نوري بطرس عطو الصادرة راهنا (2) . فأولى قصصه المعنونة ” العربة ” يعالج القاص اشكالية المعدم في بيئة طوقها القدر بذراعيه الفولاذيتين . من هنا سبب ظهور فكرة الضياع واجتياحها على بطل القصة ” العم سعيد ” فالروتين القاتل الذي اعتاده صاحب العربة يداهمه بشكل يومي ويبدو انه لا امل لديه . والقاص نوري يصور لنا هذه الشخصية على انها شخصية سحقها الزمن بضغوطاته المختلفة بحيث جعله يقع فريسة المرض الاكتئاب السوداوي إذا شئنا الدقة . فهو دائم الصراع مع عالمه ، مع الرصيف ، حيث ضيق المكان لإيواء عربته وقدماه ، وصراعه مع الشرطي ، الذي يعد رمزا من رموز السلطة والرقابة والقهر والاستلاب ، صراعه مع رفاقه الباعة ، اعني مواد عربته نفسها ، وصراعة لاستقطاب زبائنه . هذه الانماط المختلفة من الصراع جعلت منه عرضة للضياع النفسي وفقا للتعريف الذي ثبتناه في مقدمة هذه السطور . انه ضياع في المدينة ، مدينته التي يسودها ظلمة حالكة . العربة ذاتها رمزا للضياع واللااستقرار . وهكذا فالبطل ، اعني بطل القصة (3)، مهموم في نهاره ، لا اين يدري يضع رأسه . هل من ” اين ” يسند عليه رأسه ويتكأ ؟ . هذا ما لا دخل لنا به . في مساءه تنتظره بطون خاوية وزوجة تريد ما تريد . لذا يلجأ صاحبنا الى احلام اليقظة ، فيستلقي منتظرا قدوم فجر جديد . فجر يمحو ماضيه التعيس والبحث عن فردوسه الارضي المفقود .
في النص المعنون ” خطوات نحو الافق ” يعيش الناص حالة ما يمكن تسميتها بلغة علم النفس بالاستبطان الذاتي . الاستبطان الذاتي وصف واعي لمحتويات الشعور . والقاص يبحث في قصته عن مدينته الذهبية التي يسعى للعثور على بواباتها للولوج اليها . ولا يهمنا ، نحن هنا ، هذه الاساليب الفنية في كتابة النص (4) . ما يهمنا هو دوافع البحث عنها ونتائجه .. مرورا بالخبرات التي مر بها اثناء رحليه اليها . ومنذ البدء يضعنا القاص امام قدره المرير – الباب موصد امامه – وكأني به يعلم مقدما انه لن يجتاز الباب او يعبره لأنه ليس ثمة من يفتح له الباب . فهو متشائم بهذا المعنى . ويسرد لنا مسيرته الى تلك المدينة التي يبحث عنها . تلك المسيرة تذكرنا بالعجائب والغرائب التي مر بها وشاهدها صاحب سفر الرؤيا في رحلته الى المدينة السماوية . و لا ادري هل تماهى القاص عطو بصاحب هذا السفر وهو يدون مشاهدته وما صادفه من غرائب في مسيرته تلك ؟ المشاهد الاخيرة في القصة (5) . وهي مشاهد ذات طابع جنسي لا تحتاج الى تفسير . بهذا المعنى تكون يوتوبيا القاص هي تلك المدينة التي تتمكن من توفير ما هو بحاجة اليه وهو خارج اسوارها . المدينة التي ينشدها هي تلك التي رآها في نهاية مسيرته فرجع هلعا وخائفا ومضى الى حيث اللا اين !! . والفكرة ذاتها تتكرر في قصصه المعنونة ” رحلة نحو المجهول ” و ” سيرة ذاتية لرجل ميت ” . فالأفق رغم ، اشراقيته يبقى مجهولا وبعيد المنال ولن يصله الا في التمادي في احلام اليقظة . وفيها لجوءا الى البحث عن مكان يحتويه من ضياعه النفسي في عالمه الخارجي والداخلي . والشيء نفسه يمكن ان يقال بالنسبة الى عودة الطائر المهاجر الذي عاد ولم يجد ما كان يحلم به . هجرته كانت بسبب ذلك الضياع ، ولم تغادر سمائه تلك الغيوم السوداء . فالمحور الذي تدور عليه القصة هي احزان الهجرة وآلامها وعدم جدواها . راجع مثلا قصة (زقاق 108) . من هنا فكرة الملاذ الآن التي تتمحور عليها جميع قصص نوري بطرس ؛ سواء اكانت فردية شخصية تتكلم عن شخصية واحدة ، وإن اختلفت الاصوات او الاسماء .. اعني اسماء الشخصيات التي تدور عليها احداث القصة .. ام كانت جمعية او جماعية اي ما يخص انتماءات القاص بمختلف مسمياتها . وهنا ينبغي ان نقف عند القصص التي يتكلم القاص عن شعبه (مجتمعه)العنكاوي الذي يعتبره انموذجا ما بعده انموذج . فهو اليوتوبيا او المدينة السماوية او المجتمع الذي يحلم به جميع مستضعفي الارض .. ذلك المجتمع الذي يسوده العدل وتتربع على عرشه الحرية . ومن ضمنهم انصار الفكر الماركسي ومؤيده . فالنصوص التي تعبر عن محنة الشعب مثل (السابع من آب) وهو عيد الشهيد الاشوري او المحنة التي تنتظر شعبه (الطريق الصحراوية رقم 234) . وهكذا نجد ان نوري بطرس يعالج إشكالية الضياع في نصوصه القصصية التي تأخذ منحى فرديا او جمعيا على حد سواء . ونترك جمالية المعالجة وبعدها الدرامي الى الزملاء من ذوي الاختصاص .
الهوامش :-
1- بهنام ، شوقي يوسف ، 2013 ، لميعة عباس عمارة وهموم الضياع : رؤية نفسية في المنجز الشعري ، دار أمل الجديدة ، دمشق سورية ، ط1 .
2- عطو ، نوري بطرس 2015 ، العنكاوي الطائر وهموم النورس الفضي ، منشورات ضفاف ، بيروت ، لبنان ، ط1 .
3- عطو ، مصدر سابق ، ص 123 وما بعدها .
4- قام الاستاذ الدكتور محمد صابر عبيد بهذه المهمة في تحديد الملامح والخصائص الفنية لقصص هذه المجموعة . انظر ص 9 – 27 .
5- راجع السطور الاخيرة من الصفحة 129 .