حامد سرمك حسن : الحب في ملحمة جلجامش ((محور جلجامش ـ عشتار)) (ملف/2)

hamed sarmak 4إشارة :
يسر أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ بنشر هذا الملف عن ملحمة جلجامش العظيمة، كنز العراق المعرفي والشعري والنفسي، ودرّة تاج أساطير العالم، وأقدم وأطول ملحمة مكتملة في تاريخ البشرية. ولو لم يأتنا من حضارة وادي الرافدين، من منجزاتها وعلومها وفنونها شيء سوى هذه الملحمة لكانت جديرة بأن تبوّأ تلك الحضارة مكانة سامية بين الحضارات العالمية القديمة كما قال الآثاري الكبير طه باقر. وإذ تتشرف أسرة الموقع بأن تقدم هذا الجهد ، فإنها تتقدم – في الوقت نفسه – بالدعوة إلى جميع الكتّاب والقرّاء للمساهمة في هذا الملف المهم كتابة وقراءة وتعليقا . الدراسة : 
الحب في ملحمة جلجامش
((محور جلجامش ـ عشتار))
خلاصة البحث:
يتصدى هذا البحث لدراسة المحور الأبرز من بين المحاور التي تجلى فيها الحب في ملحمة “جلجامش” وهو محور “جلجامش” ـ “عشتار”. فجاء تناولنا لموضوعة الحب في الملحمة من خلال هذا المحور لعدة أسباب؛ فهو يمثل العلاقة الأكثر شيوعا في الحب كونها تحصل بين ذكر وأنثى، ثم لجسامة الموقف المتجسد في هذه العلاقة حيث يتصدى لذكر شخصيتين على مستوى عال من الخطورة والتأثير في الفكر الرافديني القديم والفكر الإنساني عموما، فضلا عما تزخر به هذه القضية من بعض الزوايا الغامضة التي شغلت الباحثين دراسة وتمحيصا لغرض فك طلسماتها وتبيان عللها الحقيقية. فوضعوا لها ما جادت به قرائحهم وعقولهم من تفسيرات ملفوفة برايات التعجب والاستغراب لما يجدونه في هذه القضية من مفارقات ومتناقضات حيرت فطاحل الدارسين والمختصين في الحضارة القديمة لسكان وادي الرافدين. وكان من بين ابرز تلك القضايا المربكة والمحيرة كيفية إيجاد تخريج مناسب وحقيقي للرفض العنيف الذي واجه به “جلجامش” عرض “عشتار” للزواج منه، حيث أبدى آيات العفة والكرم والشهامة والتمسك بالفضيلة ومكارم الخلق وهو ما رآه الباحثون يتناقض بشكل صارخ مع ما تذكره الملحمة من سمات لـ”جلجامش” حين تظهره بمظهر الإنسان المتهتك الفاحش الذي لم تسلم من جبروته وشهواته وطغيانه نساء أوروك جميعا بكافة ألوانهن وأطيافهن ومكانتهن الاجتماعية. قد يكون ثمة إيهام ما يوحي بوجود شيء من عدم الاتساق في هذا الفهم الذي قد نراه لا يتناغم وفحوى الملحمة ومضامينها العميقة. لقد اجتهدنا للتصدي لهذه القضية والعمل على إزالة ما فيها من لبس من خلال توجيه العلامات والرموز التي زخرت بها الملحمة وجهتها الصحيحة وتوظيفها مع دلائل أخر بما يرفع هذا الإشكال المستعصي ويزيد هذا السفر الخالد( ملحمة جلجامش) غنى وثراء ويرفع بعض الركام والغبار عن معانيها الرائعة وما تزخر به من حكمة بالغة من المؤكد إنها ستمكن أبناء هذا الجيل من الاستنارة بقبس تلك الأفكار العميقة بوصفها نموذجا إنسانيا خالدا قادرة على مساعدتهم في إضاءة بعض من الجوانب المعتمة من النفس والكون والحياة.
ملحمة جلجامش:
تعد الملاحم من العلامات الفارقة في ثقافات الشعوب البسيطة وحضاراتها، سواء المجتمعات القديمة منها أو القبائل البدائية المعاصرة، حيث كانت الحكاية ومغامرات الخيال تحظى باهتمام أكثر من الواقع والتاريخ، كل ذلك يحدث في أزمان تتلاشى فيها الحدود أو المناطق الفاصلة بين الحقيقة والخيال.لقد غدت الملحمة من الظواهر العامة في هكذا بيئات بسبب من التناغم الموجود بين بنية الملحمة وبنية العقل الإنساني القديم والبدائي.
الملحمة في أبسط تعريفاتها( 1): قصة بطولة تحكى شعرا، تحتوي على أفعال عجيبة، أي على حوادث خارقة للعادة، ويتجاور فيها الوصف مع الحوار وصور الشخصيات والخطب، ولكن تبقى الحكاية هي العنصر الرئيس الذي يسيطر على ما عداه. ولا تخلو هذه الحكاية من عوارض الأحداث والاستطرادات.
لقد اجتمعت لملحمة “جلجامش” كثير من الصفات الجليلة لتنال ذلك الاهتمام النظري الكبير من الناس بمختلف أصنافهم. ورغم أنها قد دونت قبل 4000 آلاف عام وترجع حقبة حوادثها إلى أزمان أخرى بعيدة، إلا أنها ما تزال خالدة وذات جاذبية إنسانية في جميع الأزمنة والأمكنة، لان القضايا التي أثارتها وعالجتها لا تزال تشغل بال الإنسان وتفكيره وتؤثر في حياته العاطفية والفكرية مما جعل مواقفها مثيرة تأسر القلوب.
لم تكن ملحمة “جلجامش” مجرد قصة مغامرات، بل مثلت مع الطوفان، و”عشتار”، ومأساة “تموز”، و”إيتانا”، و”إدبا”، (الرمز) الدائم لذلك الكائن على أرض سومر وعلى كل أرض. الباحث أبدا عن سر الحياة. فكل هذه المسميات، هي(أدوار)، مرت عبر الواقع المتحرك نحو التاريخ. التاريخ الذي احتضنها محيلا إياها إلى نصوص أسطورية(2 ).
وبسبب تعدد نسخ الملحمة العائدة لأزمنة مختلفة فانه بالإمكان متابعة تطور نص هذه الملحمة عبر العصور التي مرت فيها من أكدية وبابلية وآشورية( 3).
لقد بنيت ملحمة “جلجامش” على أقاصيص أقدم منها، غير أن تلك الأقاصيص أعيد سبكها في قالب جديد وجمعت حول موضوع جديد، هو موضوع الموت( 4). 300px-Gilgamesh
* * *
هو الذي رأى كل شيء فغنّي بذكره يابلادي
وهو الذي عرف جميع الأشياء وأفاد من عبرها
وهو الحكيم العارف بكل شيء
لقد أبصر الأسرار وعرف الخفايا المكتومة
وجاء بأنباء أزمان ما قبل الطوفان
لقد سلك طرقا قاصية في أسفاره
حتى حل به الضنى والتعب
فنقش في نصب من الحجر كل ما عاناه وخبره( 5)..
هكذا تبدأ الملحمة بتقديم وصف رائع لـ”جلجامش” الذي هو من نسل آلهة أنعمت عليه بالقوة والجمال والحكمة وغيرها من النعم العظيمة.ثم تشرع بذكر باقي التفاصيل والقصص التي أبرزها الرحلات والمغامرات التي تتعلق بـ”جلجامش” سواء التي قام بها بمفرده أو مع صديقه “انكيدو” أو التي له صلة بإنجازها، مثل قصة البغي و”انكيدو” وما قامت به من مجهود لترويضه وجعله مؤهلا لعالم المدينة والتحضر بعد انتشاله من عالم البرية وانتزاعه من معاشرة الوحوش. والصراع الذي حصل بين “جلجامش” و”انكيدو” وكيف انتهى بصداقة أسطورية بينهما. ثم الرحلة التي قام بها كل من “جلجامش” و”انكيدو” سوية إلى غابة الأرز لقتل العفريت “خمبابا”، والمجادلة التي جرت بين “عشتار” و”جلجامش” حين عرضت عليه أن يكون عريسا لها ، وقصة الثور السماوي الذي ساهمت “عشتار” في إرساله لمقاتلة “جلجامش” بسبب رفضه عرضها الزواج منه بعد أن نعتها بأقسى الصفات المزرية وكيف اشتركا (جلجامش وانكيدو) في مقاتلة الثور السماوي وقتله، ثم مأساة موت “انكيدو” والحزن العظيم الذي تملك “جلجامش” أسفا على فقدان صديقه الأمين، وما يتخلخل هذه المأساة من مراثي، وبعدها الرحلة التي قام بها “جلجامش” بمفرده بحثا عن الخلود.
يذهب “دياكونوف” إلى أن ملحمة “جلجامش”، من الناحية الأدبية، تثير الإعجاب ببنائها التكويني الذي يخضع لفكرة واحدة، وان كانت، كما يرى، تبدو وكأنها مؤلفة من قصص منفرد بعضها عن بعض( 6).
لقد عالجت الملحمة قضايا إنسانية عامة، مثل مشكلة الحياة والموت، وما بعد الموت، ومثلت تمثيلا بارعا مؤثرا ذلك الصراع الأزلي بين الموت والفناء المقدرين وبين إرادة الإنسان المغلوبة المقهورة في محاولاتها التشبث بالوجود والبقاء والسعي وراء وسيلة للخلود.أي إنها تمثل هذه (التراجيدي) الإنسانية العامة المكررة(7 ). من هنا يرى “فراس السواح”( 8) تكفل الملحمة الرافدينية برسم أصل الإنسان وتحديد علاقته بالآلهة ودوره في الحياة.
تبقى الرغبة في الخلاص من قبضة الموت الرهيبة والتطلع إلى الخلود هو المحور الأساس الذي تدور عليه الملحمة وتفرعاتها الجانبية. يمكننا استشفاف هذا الأمر من خلال الخطاب الذي وجهته صاحبة الحانة لـ”جلجامش” وهو يبدي لها ما يعتمر في قلبه من خشية للموت ورهبة مع ما تتوق له روحه كي لا يصبح فريسة “لهادم اللذات” كما هي حال صديقه “انكيدو”:
((إلى أين تسعى يا”جلجامش”
إن الحياة التي تبغي لن تجد
حينما خلقت الآلهة البشر، قدرت الموت على البشرية
واستأثرت هي بالحياة
أما أنت يا”جلجامش” فليكن كرشك مملوءا على الدوام
وكن فرحا مبتهجا نهار مساء
وأقم الأفراح في كل يوم من أيامك
وارقص والعب مساء نهار
واجعل ثيابك نظيفة زاهية
واغسل رأسك واستحم في الماء
ودلل الصغير الذي يمسك بيدك
وافرح الزوجة التي بين أحضانك
وهذا هو نصيب البشرية)) (9 )…
رغم الجهود العظيمة التي بذلت في الملحمة لإقناع إنسانها بإجابات عادلة عن؛ من أين وكيف والى أين؛ تلك الأسئلة الخالدة التي خلقت عنده قلقا وجوديا مزمنا إلا أن الملحمة لا تنتهي إلى خاتمة منسجمة( )، بل تبقى عواطفها في احتدام. وليس فيها أي شعور بالتطهير ـ الكثارتس ـ كما في المأساة، أو أي قبول أساسي لما لا مرد له. إنها نهاية شامتة، بائسة، لا تشفي الغليل. فيظل اضطرابها الداخلي في غليان، ويظل سؤالها الحيوي بلا جواب. وهو ما نتلمسه في الحوار الذي دار بين “جلجامش” وبطل الطوفان البابلي “أوتو ـ نبشتم” (الذي أدرك الحياة). حيث يقول “اوتوـ نبشتم” بعد ان اخبره “جلجامش” عن سبب هيامه في البراري ملفوفا بالحزن والأسى، يكاد يقتله فراق رفيقه “انكيدو” الذي غيبه الموت في عالم الفناء:
قال “أوتو ـ نبشتم لـ “جلجامش”:
((إن الموت قاس لا يرحم
متى بنينا بيتا يقوم إلى الأبد؟
متى ختمنا عقدا يدوم إلى الأبد؟
وهل يقتسم الإخوة ميراثهم ليبقى إلى آخر الدهر؟
وهل تبقى البغضاء في الأرض إلى الأبد؟
وهل يرتفع النهر ويأتي بالفيضان على الدوام؟
والفراشة لا تكاد تخرج من شرنقتها فتبصر وجه الشمس حتى يحل أجلها
ولم يكن دوام وخلود منذ القدم
ويا ما أعظم الشبه بين النائم والميت
ألا تبدو عليهما هيئة الموت؟
ومن ذا الذي يستطيع أن يميز بين العبد والسيد
إذا وافاهما الأجل!
إن “الأنوناكي” الآلهة العظام تجتمع مسبقا
ومعهم “ماميتم”، صانعة الأقدار تقدر معهم المصائر
قسموا الحياة والموت
ولكن الموت لم يكشفوا عن يومه)) (10 )…ishtar
معنى الحب:
يعد الحب من أكثر الظواهر شيوعا وأهمها شأنا في حياتنا، وعاطفة متأصلة في الكيان الإنساني.والحب نقيض البغض؛ وهو الوداد والمحبة، والميل للشيء السار، والغرض منه إرضاء الحاجات المادية أو الروحية، وهو مترتب على تخيل كمال في الشيء السار أو النافع يفضي إلى انجذاب الإرادة إليه، كمحبة العاشق لمعشوقه، والوالد لولده، والصديق لصديقه، والمواطن لوطنه، والعامل لمهنته( 11). والحب شعور بالتعلق بشخص او شيء وليس بالضروري ان يكون جنسيا.وهو بالمعنى الأرضي السائد ((شعور إنساني يتأثر بنوازع النفس، ويتولد في الطبيعة، ويتعايش مع العرف الاجتماعي، ويتداخل مع الموروث والتقاليد))( 12).
ويمكن إدراك ثلاثة معان أساسية للحب(13 )؛ معنى خاص: يتمثل في العاطفة التي تجذب شخصا نحو شخص من الجنس الآخر، ومصدرها الميل الجنسي. ومعنى عام: عاطفة يؤدي تنشيطها إلى نوع من أنواع اللذة، مادية كانت أو معنوية. وحب خالص: حب الّله في ذاته بلا خوف وبلا أمل وهو المحبة الكاملة. وهذا النوع الثالث( 14) هو ما يقارب التصور الافلاطوني للحب بوصفه البارقة التي تنزع بها النفس نحو الخلود، النفس الحساسة بجاذبية الجمال التام.
إن في اتحاد الرجل والمرأة تحت خيمة المودة والألفة يكمن سر الحياة وديمومة الإنسانية، ليس كمفهوم بل كمصداق لجنس الإنسان الذي ينطوي تحت النوع الحيواني، إنها الآلية التي يتحقق بها تواصل النسل واستمرار الحياة، وهي، من هذا المعنى، تطمين لرغبة الإنسان الجامحة لتحقيق الخلود( 15).
يقول الصوفية انه لا يصل إلى الحقيقة من لم يقطع إليها المجاز، والمجاز هو الحب الإنساني والحقيقة هي الحب الإلهي الذي يفضي إلى المعرفة فالاتحاد، فالحب أو العشق الإنساني هو بمثابة نزوع نحو الكمال والعشق الإلهي ( 16). والاتحاد هنا مجاله الأمور الروحانية والمعنوية طالما أن الأجسام ـ حيث تدخل في سمات المادة ـ تأخذ فاعليتها في مستويات التماس والامتزاج والتجاور. والناس عوام وخواص، فالعوام هم أولئك الذين إذا رأوا منظرا حسنا أو مخلوقا جميلا اشتاقوا إلى النظر إليه والقرب منه والتأمل فيه، والخواص أولئك الذين إذا رأوا مثل ذلك تشوقوا إلى مبدعه وتطلعوا إلى صانعه. من الصعوبة إيجاد تعريف جامع مانع للحب لتباين أشكاله وتعدد مستوياته، لكنه اقرب العواطف الإنسانية إلى التعبير عن النفس وترسيم الذات ومنحها أسس الثبات( 17). وهو أرقى عملية يتعاطاها الإنسان، تستطيع، من خلالها، مكوناته النفسية والعقلية والجسمية جميعا أن تمارس أعلى وظائفها وأعمقها تغلغلا في كيانه. يرتبط الحب بالصحة النفسية للإنسان فإذا كانت شخصيته سليمة، كان متفهما للحاجات والرغبات المتبادلة مع من أحب، وكثيرا ما تتآلف النفوس ذات الطبائع المتقاربة (18 ).
يكشف تاريخ المدنيات التي قامت على أديم هذا الكوكب بان الحب أساس كل تقدم. فهو يجمل النفس ويحملها على التفكير في أمور الحياة وشؤون الناس، ويزرع في صاحبه الحماسة إلى العمل واجتياز العقبات والمصاعب. فليس التقدم في جوهره شيئا سوى تلك السعة في المدارك، والحكمة في التصرف، والتطلع إلى حياة أغنى وأجمل وأرقى، وأحفل بوسائل الأمن والسعادة والرفاهية( 19). إن الحب أعمق تجربة ميتافيزيقية عرفها الإنسان، يكسب الوجود البشري اتجاها، وقصدا، وغائية، فيخلع عليه بذلك عمقا، ومعنى، وقيمة. ويمكن القول ان في الحب شيئا من كل شيء، ففيه شيء من الروح، وفيه شيء من العقل، وفيه شيء من القلب، وفيه شيء من الجسد( 20).
ونظرا للدور الذي يؤديه الحب في إثراء الوجود الإنساني وتعميقه، فقد عده الفلاسفة بمثابة قيمة رابعة تضاف إلى القيم الثلاث( الحق، الخير، الجمال) وهو الذي يخلع على تلك القيم الثلاث كل ما لها من قيمة؛ لأنه ما عسى أن يكون الحق دون حب الحق، والخير دون حب الخير، والجمال دون حب الجمال.ومن هنا فليس غريبا إذا ما عُدَّ الحب، في جوهره، جوابا على إشكال الوجود الإنساني، كما ذهب “أريك فروم”.( 21).
إن الزهد في النفع الشخصي، مثلما يرى “تولستوي”، هو أساس المحبة الحقيقية، فإذا زهد الإنسان في الأشياء المادية، ارتقى إلى مرتبة من المحبة الروحانية مبنية على تصور الكمال المطلق، وهي محبة الّله، أي محبة الّله لذاته لا لثوابه وإحسانه(عبادة الأحرار) (22) ، وكلما كان إطلاع الإنسان على دقائق حكمة الّله أكمل كان حبه له أتم( 23). إن الحب هو الوسيلة الوحيدة التي قد تسمح لربيب التراب بالصعود إلى السماء، وهو ما يزال يدب بقدميه على أرض البشر( 24).ishtar 2
جدلية المعرفة ــ الحب:
المعرفة أساس الحب والحب أساس المعرفة؛ إنها نوع من العلاقة الجدلية القارة في بنية الإنسان وتتناغم مع ماهيته ولا تستقيم طبيعته الأصيلة التي أرادها له خالقه إلا إذا كان منضويا واعيا تحت لواء هذه الإشكالية ويشتغل وفقا لاشتراطاتها.
فالحب تجربة ميتافيزيقية جوهرية تقوم عليها وتتأسس بها التجارب الميتافيزيقية الأخرى فضلا عن قدرتها على إضفاء صبغتها الخاصة على جميع الانفعالات الإنسانية الممكنة بمختلف أصنافها ودرجاتها، لان أساسها المعرفة والرغبة في الكشف والترقي في مدارج الكمال.فانك حين تحب شيئا ما يتملكك توق جارف لمعرفة كل صغيرة وكبيرة عن محبوبك، وحين تكتشف فضائل شيء ما تزداد شوقا له وتتعلق به ويصبح من الصعوبة بمكان ألا يتملك عليك أحاسيسك ووجدانك.والنفس البشرية مجبولة على حب الفضيلة والصفات الحسنة، فالإنسان حيوان ميتافيزيقي باحث عن تكامله، والتكامل نتاج التوق إلى الفضيلة والجمال وكل من تمثلت أو تجسدت فيه تلك الفضائل.
الحب شعيرة مقدسة أضفت عليها المجتمعات والحضارات الإنسانية إجلالا وتقديسا، فهو إمكانية رهيبة لإزالة الحواجز والتغلب على الفوارق والمسافات؛ و وسيلة مؤثرة ذات فعالية عالية للتقريب بين البشر وبين البشر والإله. لقد كان إبراهيم خليل الّله ومحمد حبيب الّله، ولم تخرج هذه الصلة السامية عن شروط تلك الجدلية التي اشرنا إليها بين الحب والمعرفة. فالحب قادر على إزالة الحواجز بين الرب وعباده وان كان بينهما طريق تتلاشى أبعاده. وحين يعلن الّله تعالى ، في حديث قدسي(25)،عجز سماواته وأرضه عن أن تَسعَهُ، يكون قلب الإنسان المؤمن العاشق حاضرا، ليتكفل بما عجزت عنه السماوات والأرض. إن الحب، وحده، هو القادر على الجمع بين الأرباب والبشر؛ كما يقول “أفلاطون”( 26).
لم يكن لهؤلاء البشر أن يرتقوا في المدارج العرفانية حتى أضحوا أهلا لحب الّله واصطفائه لهم لولا أن الحب حقيقة ميتافيزيقية لا صلة لها بمادة ولا جسد. أما ما موجود بين الرجل والمرأة من تواصل وتوق ورغبة فهو من باب المودة والرحمة وإنما سميت هذه العلاقة بالحب مجازا لأنها ذات صلة وثيقة بالغريزة الجنسية ومن الممكن حصولها بين أي رجل وامرأة لأنها ما وضعت إلا لحفظ النوع وهي من السمات التي تحكمها الضرورة في عالم الحس، وليس هنالك مانع أمام تسامي هذه العلاقة إلى حب رباني أصيل إن توافرت شروطها. وإنما الحب الحقيقي نتاج الروح الكبيرة وعلة لها، انه البراق التي يعرج بها الإنسان إلى ربه، و ((الجناح الذي أعطاه الّله للإنسان كي يصعد به إليه))(27 )..
الّله(سبحانه وتعالى) منبع الفضائل ومكارم الأخلاق و”محمد” و”إبراهيم” أنبياء الّله(ع) لم يكن ليصطفيهم للنبوة لولا معرفته بهم وبجوهرهم ومعدنهم وحقيقة الفضائل التي تستبطنها أرواحهم ونفوسهم المطمئنة في أجسادهم الطاهرة. ولم يكونا عاشقين لله لولا طهارة المعرفة التي يمتلكونها به تعالى، المعرفة التي خالطت دماءهم وعقولهم وأرواحهم فانعكست منهم وفاضت من بين جوانحهم مكارم أخلاق ورحمة على الوجود والعالمين.
إن الحب فن تماما كما ان الحياة فن، وإذا أردنا أن نتعلم كيف نحب فعلينا أن ننطلق بالطريقة عينها التي ننطلق بها إذا أردنا أن نتعلم أي فن آخر كالموسيقى أو الرسم أو التجارة أو فن الطب أو الهندسة؛ أن نتمكن من الخطوات الضرورية لتعلم أي فن: السيطرة على النظرية والسيطرة على الممارسة( 28). لقد تمكن “جلجامش” من شَرْطَي الحب ؛ النظرية والممارسة؛ فكان القمة في النظرية لما يمتلكه من خزين معرفي عظيم( لأنه الحكيم الذي عرف جميع الأشياء وأفاد من عبرها)، وكان القمة في الممارسة، حيث احترف نكران الذات والتضحية من اجل الآخرين، العناصر التي تعد من أعظم أدوات الفعل في هذا المضمار، لأن الحب، في واحد من وجوهه الناصعة: ((نزعة معاكسة جوهريا للأنانية)) (29 ) .
المرتكز الدائم للحب الحقيقي، كما يقول “تولستوي”، هو التخلي عن الخير الشخصي( 30)؛ وهو ما تجسد بشكل لامع في الفضيلة التي يتحلى بها “جلجامش” في سلوكه الرباني وتضحياته المتواصلة من أجل خير الناس وسعادتهم جمعا. ولعل أفضل أمثلتها في قتله “خمبابا” أساس أو أصل الشر في العالم لتخليص الناس من البلاء، وفي رفضه تناول عشبة الخلود منفردا حين آثر إبقائها حتى الوصول إلى مدينته وشعبه ليتسنى له زراعتها وتكثيرها كي يستطيع الجميع تناولها والتنعم معا بنعمة الخلود.
تجليات الحب في ملحمة جلجامش:
يقال: ان الإنسان لا يرى الحقيقة وجها لوجه إلا في موقفين: في الحب وفي الموت( 31). وكلا الموقفين قد عاشهما بطل ملحمة “جلجامش”، وفي كليهما رأى الحقيقة عيانا؛ حكمة الخلود وخلود الحكمة. وليس من اليسير أن نجد مثيلا لتجربة الحب التي عاشها.
على قدر المعرفة يكون قدر الحب؛ و”جلجامش”، العارف بكل شيء، حين يحترف الحب، لا بد أن يطوي عوالم العشق السبعة في خفقة قلب واحدة. فالحب العظيم نادر، ندرة العبقري العظيم( ). ولكن أن يجتمع الحب العظيم والعبقرية العظيمة في نفس واحدة حرة كريمة، فهذا هو الأكثر ندرة في الزمان، و الاعمق قيمة، والأصعب في عالم الإمكان. ويقينا أن “جلجامش” بنفسه اللوامة، الذي يفيض شموخا وشهامة، من القلائل الذين اجتمعت لديهم تلك الندرة والنفاسة.
إن ما ذكر للحب من معان نبييلة، لا تحترفها إلا النفوس الجليلة؛ قد تجسد في ملحمة “جلجامش” من خلال ثلاث صور من الحب ذات المغزى العميق، يرتفع الحب فيها إلى أبعاد إنسانية رفيعة؛ الأولى منها تمثلت في تعبير الإلهة “ننسون”(والدة جلجامش)، إذ تتخذ “انكيدو” ولدا لها مع انه ليس من رحمها. كما تصفه الملحمة عنها:
ودعت إليها “انكيدو” وأوصته قائلة:
((يا “أنكيدو” القوي، الذي ليس من رحمي، قد اتخذتك
منذ الآن ولدا))
ثم قلدت عنقه بقلادة جواهر لتكون موثقا منه
وقالت له:
((ها إنني أأتمنك على ولدي فارجعه إلي سالما)) ( 32)…
وتظهر الثانية في الصداقة المتينة التي تربط بين قلبي “جلجامش” و”انكيدو” كصاحبين متعاونين في السراء والضراء، وهو ما تمثل في الحزن العارم الذي أبداه “جلجامش” على وفاة “أنكيدو”:
((من اجل “انكيدو”، خلي وصاحبي، أبكي وأنوح نواح الثكلى
إنه الفأس التي في جنبي وقوس يدي
والخنجر الذي في حزامي والمجن الذي يدرأ عني
وفرحتي وبهجتي وكسوة عيدي
لقد ظهر شيطان رجيم وسرقه مني
…………………………..
سأجعل أهل “أوروك” يبكون عليك ويندبونك
وسيحزن عليك أهل الفرح والموسرون، وسأجعلهم يقربون إليك
وأنا نفسي(بعد أن توسد الثرى) سأطلق شعري
وألبس جلد الأسد وأهيم على وجهي في الصحارى))…
من أجل “أنكيدو” خله وصديقه
بكى”جلجامش” بكاءً مراً وهام على وجهه في الصحارى(33 )…
أما الصورة الثالثة، وهي مشكلة هذا البحث التي سنتناولها بالتفصيل، فتمثلت في الحوارية التي جرت بين “جلجامش” و”عشتار”، حين أبانت “عشتار” عن حبها لـ”جلجامش” والعرض الذي قدمته له للاقتران بها وما ترتب على هذا الأمر من نتائج.ishtar & gigamesh

جلجامش ــ عشتار؛ (صورة الخطاب):
الموقف الأول تمثل في الحوار الصريح الذي دار بين “جلجامش” و”عشتار” (34) حين عرضت عليه الزواج منها. فعند خروج “جلجامش” من حملته للقضاء على “خمبابا”( وحش الغابة) منتصرا، قابلته “عشتار” وهو في موكبه وعلى رأسه التاج، مرتديا حلته الجديدة:
غسل “جلجامش” شعره الأشعث الطويل وصقل سلاحه
وأرسل جدائل شعره على كتفيه
وخلع لباسه الوسخ واكتسى حللا نظيفة
ارتدى حلة مزركشة وربطها بزنار(35 )…..
فوقفت “عشتار” بجانب “جلجامش” لكي تغريه، ثم راحت تخبره بقدرتها على رؤية المستقبل، وأخذت تبين له المكاسب العظيمة التي تنتظره ومقدار الدرجة الرفيعة التي ستحققها له، ومجمل القول انها كانت تعرض عليه أن يكون إلها( 36). ثم تنقل لنا الملحمة الخطاب الذي وجهته “عشتار” لـ”جلجامش”:
ولما أن لبس “جلجامش” تاجه
رفعت”عشتار”الجليلة عينيها ورمقت جمال “جلجامش”(فنادته):ـ
((تعال يا جلجامش وكن عريسي() الذي اخترت
امنحني ثمرتك(بذرتك) أتمتع بها
كن أنت زوجي وأكون زوجك
سأعد لك مركبات من حجر اللازورد والذهب
وعجلاتها من الذهب وقرونها من البرونز
وستربط لجرها(شياطين الصاعقة) بدلا من البغال الضخمة
وفي بيتنا ستجد شذى الأرز يعبق فيه إذا دخلته
إذا ما دخلت بيتنا فستقبل قدميك العتبة والدكة
سينحني لك الملوك والحكام والأمراء
وسيقدمون لك الإتاوة من نتاج الجبل والسهل
وستلد عنزاتك (ثلاثا ثلاثا) وتلد نعاجك(التوائم)
وحمير الحمل عندك ستفوق البغال في الحمل
وسيكون لخيول مركباتك الصيت المعلى في السبق
وثورك لن يكون له مثيل في نيره)) ( 37).
موقف جلجامش من عرض عشتار:
لقد رفض “جلجامش” عرض “عشتار” لأنها، كما خبرها بنور الحكمة الذي أضاء بصيرته، لعوب متقلبة، وكلامها صادر عن عاطفة مشبوبة لا عن حب حقيقي. فبدلا من الموافقة، أو في أقل الاحتمالات الاعتذار بلطف، نرى جلجامش(كما سيتضح فيما بعد) يتطاول على الالهة “عشتار”، مخاطبا إياها بلهجة قاسية، مشهرا بها أفظع تشهير، ذاكرا مغامراتها مع عشاقها، مصورا عدم إخلاصها لأي منهم، وما آلوا إليه من نهاية مخزية على يديها:
ففتح “جلجامش” فاه وأجاب “عشتار” الجليلة:ـ
((ماذا علي أن أعطيك لو أخذتك (زوجة)
هل سأعطيك السمن والكساء لجسدك؟
وأي أكل وشراب سأعطيك يليق بسمة الألوهية؟
………………………………………
أي خير سأناله لو أخذتك (زوجة) ( 38)؟!.
إن “جلجامش” في كلامه هذا يثبت مقدمة عقلية منطقية تدلل على قوة العزيمة وصدق النوايا من جهته مع اعتزازه بشخصيته ونوعية البعد الروحي والتربوي الذي يستقر بين جوانحه. فهو لم يكن إنسانا اعتياديا يعتاش على سطح التجربة ويرفل في السذاجة من دون الاستناد إلى عمق روحي وفكري متين تأسس على أبعاد صارمه منها المعرفية الصرفة(هو الحكيم العارف بكل شيء) ومنها ما نبع من أصالة الحكمة النورانية التي اقتبسها من جوهرية التجارب التي مر بها في رحلاته ومغامراته وخبرته(هو الذي عرف جميع الأشياء وأفاد من عبرها) مستعينا بتأصيل هذه الحكمة على ما يتمتع به من معرفة نورانية صادقة مكنته من التمييز بين الحق والباطل، والزائل والباقي، والأصيل والمزيف.جاء هذا التقديم من “جلجامش” تمهيدا لإعلان رفضه الصارم والمطلق لعروض “عشتار”، من منطلق إيمانه وتمييزه بين تجربتين قد يصعب على عامة أو كثير من الناس التمييز بينهما؛ بسبب ((الخلط بين التجربة البذيئة (للوقوع) في الحب، والحالة الدائمة لان(يكون) الإنسان في حالة حب، أو (الوقوف) في موضوع الحب)) (39 ).
لقد نشأ هذا الموقف عند “جلجامش” لاعتقاده أن الحب، ليس فقط إحساسا باعثا على اللذة، ترجع ممارسته إلى الصدفة ، وانه شيء يقع الإنسان فيه ان كان محظوظا. بل ان الحب، جوهر الحب، عنده فن يقتضي معرفة وبذلا وجهدا. ولم يكن كما يذهب معظم الناس حين يرون مشكلة الحب، أساسا، تتمثل في أن تكون محبوبا أكثر منها مشكلة ان تُحب، أي قدرة الإنسان على الحب، ومن ثم كانت المشكلة عندهم هي كيف تُحَب؟، كيف تكون محبوبا؟، لذا تراهم، سعيا لتحقيق هذا الهدف، يتبعون عدة طرق لامتلاك ما يؤهلهم للاستحواذ على ود الناس وإعجابهم ورغبتهم وأحيانا(حبهم) كأن يكونوا على درجة من الجاذبية والثراء والقوة لضمان تأثيرهم المؤكد في الآخرين. وهي الصفات التي توافر اكبر منها في “جلجامش” مما أدى بـ”عشتار” إلى الوقوع في حبه وطلبها منه أن يكون عريسها. ولم يكن “جلجامش” ذلك الإنسان السطحي الذي يقع تحت إغراءات هكذا عرض وان كان عرضا أسطوريا في معناه ومضامينه.
إن من العناصر الأساسية في حب العارفين، كما هي حال “جلجامش”، أن يكون ثمة تجانس بين الطرفين لتتحقق بينهما سمة الحب الحقيقي، وهي السمة التي تنبه “جلجامش” إلى فقدانها من هكذا علاقة بينه وبين “عشتار” فيما لو قدر لها ان تكون. وهو واضح في ما ردده من كلكمات ( ماذا علي أن أعطيك لو أخذتك زوجة)!!. فما اعتاد “جلجامش” على التعامل أو الأخذ به في منظومته القيمية والحياتية لا يليق أو لا يناسب “عشتار” من منطلق نوعية المنظومة القيمية والحياتية الذي تلتحف بها:(وأي أكل وشراب سأعطيك يليق بسمة الألوهية؟..).
لقد أدرك “جلجامش” من منطلق حكمته والمعرفة الحقة التي يتمتع بها إن هكذا ارتباط مصيره الفشل وسوف لن يخلف إلا الشر لوجود تعارض صارخ بين الطرفين وان كان اكتشاف هذا التعارض يصعب بل يخفى على كثير من أبناء آدم وسيهفون كما الظمآن إلى هكذا زواج فيما لو عرض عليهم وإن كان في أساسه شر وبلاء:( أي خير سأناله لو أخذتك زوجة؟!.)
ثم يواصل “جلجامش” ذكر مساوىء “عشتار” التي سيتأسس عليها رفضه لعرضها:
أنت! ما أنت إلا الموقد الذي تخمد ناره في البرد
أنت كالباب الخلفي لا يحفظ من ريح ولا عاصفة
أنت قصر يتحطم في داخله الأبطال
أنت فيل يمزق رحله
أنت قير يلوث من يحمله
أنت قربة تبلل حاملها
أنت حجر مرمر ينهار جداره
أنت حجر(يشب) يستقدم العدو ويغريه؟
وأنت نعل يقرص قدم منتعله
أي من العشاق الذين اخترتهم من أحببته على الدوام؟
وأي من رعاتك من رضيت عنه دائما ؟
تعالي أقص عليك مآسي عشاقك(40 )…
بعد ذلك ذَكَّر “جلجامش” “عشتار” بعشاقها السابقين العديدين ومصيرهم، وذكرها بـ”تموز” وموته وبالطائر الأرقط التي حطمت هي نفسها جناحيه، وبالأسد والحصان، ثم الراعي والبستاني اللذين حولتهما إلى حيوانين. إلى أن يقول لها في النهاية:
فإذا ما أحببتك فسيكون مصيري مثل هؤلاء ( 41)…
محركات السلوك:
إن “عشتار” في عرضها هذا إنما تقدم الدنيا، بكل ملذاتها ومغرياتها وحتى ما لا يرد إلا في أحلامها، إلى “جلجامش” ملفوفة بآيات الوجد والشوق والتعظيم والتبجيل. وهو مما يتعاضد مع الرغبة الجامحة التي تستوطن كيان كل إنسان للتقرب من الالهة والارتفاع إلى شيء من مقاماتهم السامية. حيث لم يفتر الإنسان، منذ خلق، عن السعي لكسب رضاها بالطقوس والقرابين وأشكال العبادات الأخرى، لما يستشعره من حاجة ماسة وضرورية لحماية الالهة وإرشاداتها، لتحكمها في المصائر والأقوات، والموت والحياة، مع غناها عن العالمين.
تظهر هذه الصورة على العكس تماما في حالة “عشتار” و”جلجامش”؛ فالآلهة هنا هي التي تتودد للإنسان. وأي إنسان؟!، انه “جلجامش”، العارف الذي رأى الأعماق، وتطلب الاقتران به. مؤكدا أن ثمة منافع معينة تتوخاها الآلهة من هذا الاقتران أو أن في الأمر أسرارا أخرى.
“عشتار” التي ترتجي وصالها القلوب نراها جاثية عند قدمي “جلجامش” تتوسل رضاه وموافقته كي يكون لها عريسا. “عشتار” ملكة العوالم وعشيقة الآلهة العظام( 42)، التي صنعت لأجلها ابهى أناشيد الحب تتغنى بمحاسنها وبمفاتنها:
انشدوا “عشتار” أجل الآلهات
هي التي كلها فرح، إنها مفعمة بالحب
مليئة بالإغراء والمفاتن والمتعة
“عشتار” التي كلها فرح، مفعمة بالحب
لشفتيها حلاوة العسل، فمها هو الحياة( 43).
أو كما جاء في (ترنيمة إلى عشتار) التي تتغنى بمفاتن هذه الإلاهة وفضائلها( 44):
لقد تسربلت باللذة والحب
وأينعت بالحيوية والسحر والشهوة
“عشتار”ـ تسربلت باللذة والحب
وأينعت بالحيوية والسحر والشهوة
* * *
المذهل في هذا الأمر، أن هذه الالهة مع ما تمتلكه من عز وجلال وما تتمتع به من سطوة وجمال ومكانة سامية بين الآلهة، ومع تنازلها وما قدمته من عرض خيالي بمفرداته الإغرائية التي تعكس الحياة بأبهى وأرقى مظاهرها، وما يرافقها من ملك وسلطان؛ فانه بدلا من الموافقة المتوقعة من “جلجامش”، فإننا نفاجأ بل نصطدم، للوهلة الأولى، ليس فقط لجرأة الرفض المطلق من “جلجامش” لهذا العرض وإنما للطريقة الاستعلائية الصارمة التي يرد بها على هذه الإلهة وهو ينهرها ويعدد مثالبها ومساوءها وشرورها. ولكن؛ بقليل من التأني والتروي لن نجد هذه الجرأة وهذا السلوك بمستكثر على الحكيم الذي أبصر الأسرار وعرف الخفايا المكتومة ، البطل الأسطوري الذي اقتحم غابة الأرز واقتطع رأس “خمبابا” منبع الشرور في العالم.ishtar 3
عفة أم ابتذال؛ إشكالية (لم يترك…) :
إن التأمل في نص الملحمة الذي يعرض رفض “جلجامش” لعرض “عشتار” وما يسوقه من أدلة لتبرير هذا الرفض، يوحي بشكل جلي طهارة وسمو المنطلقات التي يصدر عنها “جلجامش” وعمق وأصالة ما يبديه من تمسك بمكارم الأخلاق وكل ما يمت بصلة للحق والفضيلة وعظيم رفضه للظلم والفجور.لقد أوقع هذا الموقف كثيراً من الباحثين في حيرة وذهول، وأضحوا شبه عاجزين عن التوفيق والموائمة بين هذا الموقف الذي يتفجر عفة وكرامة وسؤدد، وبين ما حفلت به الملحمة من نصوص أُخر استشف منها الباحثون أنفسهم ما يوحي بعمق الفجور والجور والمظالم التي كان يمارسها “جلجامش” على كل من وقع تحت سلطانه من أبناء مملكته عموما والنساء خصوصا.
من أمثلة هذه الحيرة ما يذهب إليه”جورج كونتينو” من أن هذا الرفض يتناقض تناقضا غريبا مع ما نعرفه عن شخصية جلجامش، وبأنه يمثل رعبا لكل نساء المدينة( ).حيث جاء في الملحمة في معرض وصفها لعظمة “جلجامش” والقوة التي يتمتع بها:
لم يترك “جلجامش” عذراء طليقة لحبيبها
ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل(45 )….
بينما رأى فريق آخر من الباحثين(46 ) أن رفض جلجامش لعرض عشتار وما يستبطنه من رفض للعهر والابتذال يحملنا على فهم النص موضع النقاش(لم يترك…) بمعنى إظهار قوته عندما لا يترك عذراء لحبيبها.
وفي سياق المنهج الذي اختطه لفك رموز ملحمة جلجامش يذهب “عالم سبيط” إلى أن هذه الأبيات التي وردت في الملحمة بصيغة(لم يترك…) إنما هي من أقوال الفئة التي جاء ذكرها في الملحمة قبل هذه الأسطر (موضوع البحث) حيث تجلى فيها عمق الحنق والحسد الذي يحملونه على “جلجامش”:
لازم أبطال (أوروك) حجراتهم ناقمين مكفهرين(47 ).
فكأنه في الملحمة إذ قال: لازم الأبطال حجراتهم مكفهرين ناقمين انتظر المتلقي أقوالهم إذ يتساءل لماذا هم ناقمون ومكفهرون ما دام “جلجامش” بهذه الصفات التي لا مثيل لها ؟!. فجاءه الجواب: (لم يترك “جلجامش”…) وبدأ يذكر أقوالهم، ولما كانت تلك الأقوال تؤكد صفاته السابقة فقد أثبتها الكاتب للبرهنة على صحة ما ذكره في العمود الأول، ولتؤكد من جهة أخرى بطلان هذه الشكاوى لان الأنانية والحسد ظاهر فيها.
ثم يتساءل الباحث : ماذا نفهم من هذه الشكوى؟ ويجيب: بالطبع لا يمكن أن نفهم منه الاعتداء الجنسي لوجود الذكور ولا نفهم منه عملية تجنيد إجباري لوجود البنات في النص.
لقد فصم “جلجامش” بحبه وشخصيته الروابط الاجتماعية بما في ذلك الأبطال مع أهاليهم وهذا هو المقصود إذ يدور الحديث كله عن البطل والمحارب إذ هو إما أب أو زوج أو خطيب. فهؤلاء لا هم لهم سوى أن تمجد النساء والشبان بطولاتهم ويذكرهم الفتيان في محافلهم وحينما ظهر “جلجامش” مرتفعا فوق الجميع فقد حطم أحلامهم وأركس أنانيتهم في وحل العار فلم يعد يذكرهم ذاكر. تحطمت هذه العلائق القائمة على أكذوبة البطولة لهؤلاء(الأبطال) المزيفين، فماذا يحصل لأولئك الذين يريدون من الآخرين أن ينظروا إليهم بأعين مفتوحة من الدهشة والإعجاب حينما وجدوا أن “جلجامش” أدار عيونهم إليه؟ بالطبع سينمو الغضب في قلوبهم وتشتد نقمتهم على “جلجامش” ويصيبهم الكمد:
(لازم أبطال أوروك حجراتهم ناقمين مكفهرين)
لم يخرجوا إذن كما خرج الناس ولا يمكنهم إطاقة ما يلهج به الشارع والمعبد من ذكر “جلجامش”! لازم أبطال أوروك حجراتهم ومع ذلك فإن المصيبة حلت في دورهم إذ انتقل الحديث عن “جلجامش” من الشارع والمعبد ليكون فاكهة الكلام في الدور فلم يطق هؤلاء وضعا كهذا أدى إلى إهمالهم فقدموا شكاتهم تلك وهي شكوى المقر بإفلاسه والمقر في عين الوقت بأنانيته( 48).
ولكننا لا نرى في تفشي ذكر جلجامش بين الناس وطغيان ذكره على الأبطال الآخرين في كافة المحافل سببا كافيا للغيظ والحنق الذي كان يشعر به أولئك الأبطال تجاهه إلى درجة أنهم لازموا حجراتهم ولم يخرجوا منها. فنحن نملك من العلم الصادر عن التجربة والتاريخ ان علْية القوم المتنفذين المتسلطين، وهم الذين نعتتهم الملحمة بالأبطال، لا يجدون غضاضة في طغيان ذكر سيدهم وولي نعمتهم ما داموا محافظين( أو مادام محافظا لهم) على امتيازاتهم ومكاسبهم ومراكزهم في الهرم التسلطي. لذا لا بد من وجود شيء آخر مخالف لهذا التعليل يبرر ما أصبح يستشعره علْية القوم وأبطالهم ليكون مبررا لتقدمهم بتلك الشكاوى للآلهة لتخليصهم من جلجامش. فلطالما سعت البطانة المتنفذة والمستفيدة من السلاطين والملوك إلى تعزيز وأسطرة صورة الحاكم الذي يكمنون خلف صورته لاستدرار المنافع والمكاسب، فإذا كان “جلجامش” متسلطا جائرا أو دكتاتورا في مفهومنا الحديث وتلهج بذكره الناس بحق أو بغير حق فان الأبطال(المقربين) دائما يلتفون حول بطلهم ويضخمون صورته في أعين الناس لتوطيد ملكه وسلطانه لأن بقاءهم من بقائه بشرط حفظ مصالحهم، ولنا في تجارب الدكتاتوريات الحديثة التي عاصرناها أكبر دليل على هذا الكلام. لكننا نرى أن ثمة شيء آخر خلاف ما ذكر هو الذي أدى بهم إلى الحنق والغيظ والنقمة، من المؤكد انه لا يخرج عن تهديد مصالحهم ومكاسبهم التي استحوذوا عليها بغير حق حتى أصبح توارثها وتداولها فيما بينهم من المسلمات التي اقنعوا الناس(بالدس والخداع والترهيب) بقدسيتها وحصانتها عن النقد والتمحيص والمراجعة، وهو ما سنعرض له في الآتي من البحث.
* * *
إستنادا إلى ما خبرناه من سيرة “جلجامش” ومواقفه الرجولية الحكيمة فنحن نذهب إلى أن(عدم الترك) المذكور في هذين البيتين ليس بمعنى التهتك القيمي من جانب “جلجامش” وشيوع نزعة الفساد لديه بالاعتداء على نساء العالمين وانتهاك أعراضهن، إنما هو على العكس تماما من هذا المعنى، بمثابة كناية عن العدالة التي حققها “جلجامش” على ارض مملكته عن طريق التشريعات والقوانين والأنظمة الدقيقة والمتينة التي سنها لهذا الغرض.
فهذا الإنسان الذي اشتعل غيرة على الحق والفضيلة فتكلف رحلة مضنية كانت هي والفناء المؤكد وجهان لعملة واحدة، من أجل قتل رأس الشرور في العالم”خمبابا” واقتلاعه من الوجود؛ لا يمكن أن يتخاذل أمام الظلم والبغي في نطاق سلطانه، أو يسمح بأي خرق للعدالة على أرض مملكته التي بين يديه. لذا، ولأن المرأة هي الكائن الأضعف في العلاقات الإنسانية وحقوقها على الأغلب مسلوبة على طول التاريخ؛ ولأن الأبطال والمقاتلين الأقوياء قادرون على البطش والاضطهاد واغتصاب الحقوق وهم يتمترسون خلف جبروتهم؛ فإننا يمكن أن نحمل ما تردد في الملحمة من عدم ترك “جلجامش” للنساء لأزواجهن وآبائهن..الخ ، انه كناية عن العدالة التي شيد صرحها “جلجامش” في نطاق سلطانه ، فعمد إلى حفظ حقوق هذا الكائن الضعيف، النساء، من الاعتداء والتضييع والتسويف، من خلال سن الشرائع والقوانين وتعزيزها بقوة تنفيذية عادلة لا تكل ولا تغفل.
فـ”جلجامش” العارف بكل شيء له رسالة ربانية أملتها عليه معرفته وأصله الإلهي(ثلثاه إله) والحكمة التي اكتسبها من استحضار هادم اللذات(الموت) ويقينه المطلق بضرورة الخلود ما بعد الموت الذي لا يمكن له تحقيقه إلا بالعمل الصالح وان يؤسس من الإنجازات ما يورثه الذكر الطيب، الشفيع الصادق لنيل الخلود في الآخرة، هناك، عند رب العزة.ويمكننا ملاحظة هذا الهدف عند “جلجاجش” في حواريته مع صاحبه “أنكيدو” الذي حاول جاهدا ردع “جلجامش” عن فكرة الذهاب إلى غابة الأرز لمقاتلة العفريت “خمبابا” أصل الشرور في العالم الذي لا بد أن يكون الموت الزؤام مصير كل من يسعى لمواجهته:
فخاطب “جلجامش” “أنكيدو” وقال له:
((يسكن في الغابة “خُمْبَابَا” الرهيب فلنقتلنه كلانا
ونزيل الشر من على الارض))…
………………………………………
فتح “أنكيدو” فاه وقال لـ”جلجامش”:
((ياصديقي لقد علمت حينما كنت أجول مع الحيوان
في التلال والبراري الواسعة
أن الغابة تمتد مسافة عشرة آلاف ساعة في كل جهة
فكيف نجرؤ على الإيغال في داخلها
و”خمبابا” زئيره عباب الطوفان
تنبعث من فمه النار، ونَفَسُه الموتُ الزؤام
فعلام ترغب في القيام بهذا الأمر و”خمبابا” لا قبل لأحد بهجومه))…
………………………………………………………….
ففتح “جلجامش” فاه وقال لـ”أنكيدو”:
((ياصديقي من ذا الذي يستطيع أن يقهر الموت
فالآلهة وحدهم هم الذين يعيشون تحت الشمس إلى الأبد
أما البشر فأيامهم معدودات
وكل ما عملوا عبث يذهب مع الريح….
لقد صرت تخشى الموت ونحن ما زلنا هنا
فماذا دهى قوة بطولتك
دعني إذا أتقدم قبلك وليناديني صوتك:
((تقدم ولا تخف!))
وإذا هلكت فسأخلد لي اسما، وسيقولون عني فيما بعد:
((لقد هلك “جلجامش” مع “خمبابا” المارد))….
……………………………………………
أيليق بصديقي أن يحجم ويتخلف؟
كلا يا صديقي علينا أن نتقدم ونوغل في قلب الغابة
وسيحمي أحدنا الآخر، وإذا ما سقطنا في النزال فسنخلف
من بعدنا اسما خالدا( 49).
لذا لم يكن “جلجامش” ليترك النساء بكافة أصنافهن عرضة لانتهاك حقوقهن من الرجال حين يأمنون القانون والمحاسبة كما هو المعتاد في أغلب بلدان الأرض. فليس هنالك طائل وراء الإرشادات والنصائح الخلقية في بناء الأسس المتينة للحضارة والعدالة إن لم تعزز بسلطة تنفيذية لا تأخذها في الحق لومة لائم كي يرتدع المبطلون عن باطلهم ويزداد المصلحون مضيا في إصلاحهم.إن قانونا واحدا يسند بقوة صادقة وحازمة في تطبيقه لقادر على تحقيق الصلاح والنظام في الأرض خير من آلاف المواعظ والحكم يطلقها الزهاد والمصلحون. لم يكن من قبيل اللهو واللعب والترف أن يهب الالهة الكمال لـ “جلجامش”. ففضلا عن الحكمة الإلهية التي استقرت في كيانه(ثلثان منه إله)، فانه قد حظي بقوة جسمانية هائلة(هيئة جسمه لا نظير لها)، وكأنه بهاتين الميزتين، الحكمة وقوة الجسد، قد جمع في شخصه الدعامتين اللتين لا بد منهما لبناء دولة العدالة والحرية والجمال، وهما: السلطة التشريعية(على ضربات الطبل تستيقظ رعيته) إشارة إلى التشريعات والقوانين المؤهلة لبناء دولة العدالة والنظام، والسلطة التنفيذية(فتك سلاحه لا يصده شيء) وما توحي به من ضبط وقوة إرادة وحدة عزيمة لا يوقفها حد، وكأن القوي عنده ضعيف حتى يأخذ الحق منه، والضعيف عنده قوي حتى يأخذ الحق له:
جعل الآلهة العظام صورة “جلجامش” كاملة تامة
كان طوله أحد عشر ذراعا وعرض صدره تسعة أشبار
ثلثان منه إله، وثلثه الآخر بشر
وهيئة جسمه لا نظير لها
وفتك سلاحه لا يصده شيء.
وعلى ضربات الطبل تستيقظ رعيته( 50)…
وثمة نصوص أخرى في الملحمة نفسها تعزز ما ذهبنا إليه بخصوص عدم ترك “جلجامش” النساء لأولياء أمورهن (أو غيرهم من الجهات تحت أي عنوان كانت) يتصرفون بهن كما يرغبون ويشتهون؛ فقد جاء في موضع قريب من هذا:
لم يترك جلجامش ابنا طليقا لأبيه( 51)…
فهو بالمعنى ذاته المشتمل تنظيم أمور الرعية ووضع الأنظمة التي تحفظ الحقوق وتمنع أن يبغي بعضهم على بعض.فالمسؤولية في دولة الحق والعدالة كما يفهمها “جلجامش” ورسخها في مملكته هي مسؤولية تكافلية بين الجميع، وليس لأحد أن يطغي فيها بقول أو فعل من الممكن أن يجلب الأذى والسوء لنفسه أو الآخرين. ولما كان الأبناء هم رجال الغد وعليهم المعول في البناء والسمو وإرساء صرح العدالة والفضيلة فهم يستوجبون التربية الصالحة والمناهج الحكيمة التي بامكانها تأهيلهم لإعمار البلاد بالخير والحق والعدالة. ولان كثيرا من أولياء الأمور من الممكن أن يتقاعسوا عن بذل الجهد اللازم للارتقاء بأولادهم وتقويم مساراتهم ليكونوا رجالا أباة شجعانا تتزين بهم البلاد والعباد، لذا فمن واجب الدولة ممثلة بسلطتيها التشريعية والتنفيذية أن تسن القوانين وتضع الضوابط لمنع الجور عن الأبناء من آبائهم أو مجتمعاتهم أو أن يضيعوا في مزالق الحياة بلا ضامن أو كفيل عند نكبات الزمان وتقلباته.وهو عين ما تفعله الدول المتحضرة في عصرنا الحاضر التي تحتكم إلى قوانين أقرتها بمحض إرادتها وضعها لها فلاسفتها وعلماؤها تكفلت بحفظ حقوق جميع أبناء المجتمع صغارا وكبارا ، رجالا ونساء، ولم تترك الأطفال والأولاد لينشؤوا كيف ما اتفق أو أن يضيعوا في طرقات المدن وأسواقها لتتلقفهم أيادي الرذيلة والإفساد. لأنهم بذلك إنما يكونوا قنابل موقوتة بمعنى الكلمة قادرة على الانفجار والتدمير، على الأقل إن لم يكن في أعمارهم هذه، فعندما يشبُّون ويخرجون عن الطوق كبارا بسواعد تفور بالشدة والبأس والحقد على المجتمع الذي لم يأبه بهم يوما ولا لما عانوه من آلام وويلات في طفولتهم وضياعهم ليصبحوا، عندها، آلات للإفساد والتخريب تفتك بقيم المجتمع وأعمدته الخلقية والحضارية. وحينها لم يسلم منها احد وستطال بنيرانها كل مفصل من مفاصل الحياة وسيحصد المجتمع والدولة عموما الأذى والشر والسوء نتاج ما بذروه في أرضهم يوم تركوا تلك البراعم البريئة في جادة الضياع لينفرد بها الشيطان وأولياؤه ويستنبتونهم في أس الحياة بكافة تفرعاتها أدوات للشر والدمار.
ويتعزز هذا بما جاء في الملحمة من نص توسط هذين النوعين من عدم الترك، ترك الابن وترك النساء:
ولكن جلجامش هو راعي((أوروك))، السور والحمى
وهو راعينا القوي، كامل الجمال والحكمة( 52)…
ويقينا أن من يوصف بالجمال لا بد أن يكون ميدانا لتجلي الحق والخير بقرينة ذكر الحكمة مع الجمال.
من هنا يتجلى مفهوم الرعاية في هاتين البيتين مدعومة بالقوة من جهة وبالجمال والحكمة من جهة أخرى وهي إشارة إلى اجتماع القوة والحكمة كناية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية مشفوعة بالجمال الذي لا بد أن يكون قرينة الرفق والإحسان في سياسة الناس. إذ لا فائدة من القوة وحدها بالنسبة إلى راعي الدولة الصادق الأمين أو رئيسها أو الحكومة في الفهم المعاصر؛ فالقوة وحدها تحيلها إلى التسلط والدكتاتورية والارتماء في وادي البهيمية المهلكة للزرع والنسل، للبلاد والعباد، لتحيل كل شيء إلى علف تعتاش عليه لتوطين بهيميتها أكثر وأكثر. والسلطة التشريعية (الحكمة) بلا قوة وإرادة وعزيمة أيضا لا تصلح، فهي خراعة حقل أو نمر من ورق سرعان ما تستهين الناس بها حينما يكتشفون زيفها وخواءها. gilgamesh 16
فلسفة الموقف:
الغرابة والغموض يغلفان كلا السلوكين سواء عرض الزواج الذي تقدمت به “عشتار” أو الرفض الحاد الذي أبداه “جلجامش” لهذا الطلب. ولا يمكن لهكذا غموض أن ينقشع من دون معرفة العلل الحقيقية الكامنة وراء سلوك كل منهما.
اطلعت “عشتار” وعلمت علم اليقين بسمو الدرجة التي أحرزها “جلجامش” بكفاحه المرير، خصوصا بعد قتله “خمبابا” وعودته من هذه المغامرة سالما مرفوع الرأس. وما إن خرج “جلجامش” بحلته الزاهية مزهوا للاحتفال بهذا النصر العظيم حتى انسحقت تحت ضغط جبروته الجمالي وبطولته الأسطورية، ثم ذابت وجدا وهياما أمام هذا الوجود السامق المتعالي الذي تجسد في عوالم “جلجامش” السحرية؛ انه وجود حققه “جلجامش” بجهده وجهاده، وجود عظيم يندر مثيله في عالم الإنسان.لذا كان ثمة تداع سريع وانجذاب لهذه العظمة المتحققة ورغبة في الانضواء تحت لواء كيانها للارتواء من ينابيع السمو والسؤدد المتفجرة في واحاته.إذ الحب، في جانب منه، كما يقول علماء النفس:((انفعال ووسيلة فعالة للمشاركة في وجود الآخر، حبا لهذا الوجود بذاته)) ( 53). ومؤكدا أن ما كان ينقص حب “عشتار” لـ “جلجامش” أنها لم تحب وجود “جلجامش” لذاته، وإنما لذاتها، لغرض الاستحواذ والاستعلاء، وان تشبع به ما تجذر في كيانها من طمع وحرص. لم يكن لها من هم سوى الاستحواذ على لذة المجد الذي تجسد في “جلجامش” فأدركته ظاهرا يانعا لتتمتع به وبثمرته ثم لترميه، كما فعلت مع الذين من قبله، في خانة المهانة والنسيان حين تقضي وطرها منه يوم تذبل تلك الثمرة وتذهب نظارتها مثلها مثل أي شيء فان في هذه الحياة:
رفعت “عشتار” الجليلة عينيها ورمقت جمال “جلجامش”، فنادته:
((تعال يا”جلجامش” وكن عريسي الذي اخترت
امنحني ثمرتك(بذرتك) أتمتع بها))(54 ) …
إن العرض الذي تقدمت به “عشتار”/ حين وضعت الدنيا بكل تفريعاتها بين يدي “جلجامش”/ لهو بمثابة اختبار لمقدار المعرفة وعمق الحكمة التي حازها “جلجامش” في حله وترحاله. فالنواميس الكونية لا تسمح، في أساس بنيتها، أمام أي شخص بادعاء الظفر بالحكمة الربانية من دون تمحيص لحقيقة ادعائه. لقد جاء الاختبار الموجه لـ”جلجامش” بما يتناسب وحكمته؛ فلأنه العارف ((بكل شيء)) فقد عُرضَ عليه ((كل شيء)) مقابل النكوص عن كوكب الشرف الرفيع الذي كان منبتا ومأوى للفضيلة والجمال المتفجرين في جوانحه. ولأنه الحكيم العارف فقد علم أن موافقته على عرض “عشتار” بمثابة تدنيس لنفسه بما لا يليق. لان “عشتار” لعوب مخاتلة، وتأبى الحكمة والكرم لمن رأى الأعماق النزول لهكذا مدارك او التعرض للانسحاق.
أما من جانب “عشتار”؛ فان الاستكبار والرغبة في الاستحواذ على ما يعزز غرورها هو ما حفزها للاقتران بـ”جلجامش”، انه نوع من الانجذاب والانسجام مع الوجود المادي الذي تحقق لهذا البطل ولم تَرََ سواه؛ لذا فقد أحبته، ولكنه حب من النوع الحسي الذي يقف عند السطح ولا يتسنى له الولوج الملائكي إلى الجوهر. انه الرغبة في امتلاك الجمال (الحسي) الظاهر حين تراه، فالرؤية من المحب، والجمال المرئي من المحبوب هما منطلقا الحب الذي تكنه “عشتار” لـ”جلجامش” (55 ).
إن مفهوم الحب عند “جلجامش” مغاير تماما لمفهومه عند “عشتار”. لقد آمن “جلجامش” برباط مقدس بين الحب والفضيلة، ولأنه العارف بكل شيء، فقد أدرك أن ثمة نوعين من الحب( 56)؛ حب الروح(مثالي) وحب الجسد(حسي، مادي)، وان الثاني من الأول أدنى، لان الروح خالدة والجسد يفنى.. وأن الحب هو المعرفة، هو التأمل الدائم في الجمال والصفة، تهتدي به الروح إلى المعاني الإلهية، وتكتسب به الحياة معان بهية، لأنه يرسم أمام الإنسان طريق الخلود في حياة أسمى من هذا الوجود. إن الحب الذي يفهمه “جلجامش” هو حب الفضيلة والكمال، حب الجوهر والحميد من الخصال.إنه توافق الأخلاق وانسجام الصفات وشوق كل نفس إلى مشاكلها و مجانسها في الحلقة القديمة قبل هبوطها في الأبدان، إنه حب الأخيار المتشابهين بالفضيلة كما يصفه أرسطو( 57)؛ فان هؤلاء يريدون الخيرات بعضهم لبعض بنوع من التشابه على أنهم أخيار بذاتهم. والمحبة التي هي مثل هذه بحق تكون باقية، من اجل انه يجتمع في ذاتها جميع ما ينبغي ان يكون للمخلصين.
أرادت “عشتار” من حبها لـ “جلجامش” أن تحقق معه نوعا من الوحدة التكافلية التي هي من الإشكال غير الناضجة للحب لتتمكن بوساطتها من تحقيق بعض الرغبات والأوطار الوقتية. كانت تتطلع للاستحواذ على كيان “جلجامش” لغاية آنية عندها ولأنه يحقق لها غرورها وحرصها وحبها في الاستعلاء والظهور. أما “جلجامش” فلم يجد عند “عشتار” ما كان يفهمه ويطمح له من الحب؛ لقد أراد “جلجامش” من الحب، فقط، ذلك النوع الخاص من الوحدة، النوع الذي هو الفضيلة المثلى في كل المذاهب الدينية والفلسفية الإنسانية الكبرى على امتداد تاريخ البشرية، الحب بوصفه حلا ناضجا لمشكلة الوجود( 58).
انطلاقا من العلاقة الصميمية بين الحب والمعرفة، رأى الفلاسفة والعارفون أن الحب،في حقيقته، نوع من المعرفة الحدسية القادرة على الاستبصار بماهية او جوهر شخص آخر. من هنا؛ يمكننا تخيل البون الشاسع والمسافات الكبيرة التي تفصل بين الاثنين، “عشتار” و”جلجامش”، وإدراك العلل الحقيقية المولدة لسلوكيهما. الأولى تعشق الوجود الحسي، ولا يحرك عاطفة الحب لديها سوى الجمال الشيئي الظاهر الملموس، مدفوعة بالأنانية المفرطة وحب الامتلاك. والآخر الحب عنده بمثابة التزام ومنهج بحث جدي، فهو معرفة تتوخى الكشف عن جوهر الآخر وجمالياته حبا بهذا الآخر وتعزيزا لاستقلاليته وكيانه لا رغبة في محق وجوده من خلال التوق الى تشييئه وامتلاكه. ومن المؤكد أن “جلجامش” الحكيم قد عرف بجوهر “عشتار” فنفر عنها.
إن “جلجامش”، الذي احترف الفضيلة والحب، ما زال يعيش عروجاً متعالياً في سماء الحرية (59) التي وصلها بجهده وجهاده وآلامه وأحزانه وتضحياته العظيمة. ولا يمكن أن يسمح لأي كان، سواء أكانت “عشتار” أم غيرها، أن تعيده إلى ظلمات الجهل والهوى والعبودية. إن الجمال الحقيقي كما يدركه “جلجامش” جمال الجوهر والفضيلة الذي يتمثل في انسجام الجمال الظاهري مع الوقار الداخلي، ولم يكن جمال “عشتار” قادرا على إغوائه إذ ليس له حقيقة يرتكز إليها وبالتالي سيغدو،عاجلا أم آجلا، هباء منثورا ليس له من قرار. هذا ما أشارت إليه الملحمة حين بينت كيفية ضمور جمال “عشتار” جراء ثقل رذائلها( 60).
لقد أدرك “جلجامش” من خلال معرفته بتاريخ “عشتار” وسلوكها الشائن مع عشاقها السابقين، رغبتها في جعله، من خلال ما قدمته له من إغراءات، إنسانا مسلوب الإرادة وشيئا من مقتنياتها وأملاكها الخاصة تتصرف بها على هواها إلى حين. مما أدى إلى نفوره منها ورفضه لعرضها. فهو يعلم، بوصفه الإنسان الحكيم، العارف بكل شيء، إن الحب الحقيقي لا يقنع بان يجعل محبيه مجرد صفات ذاتية أو توابع ثانوية او ملكيات خاصة له، بل هو يكتشف فيما حوله( جواهر) مثله، ومن ثم فانه يعيش في عالم(التثنية) حيث تقوم المحبة على المساواة والتبادل واحترام حقوق الغير، فنحن لا نحب (الآخر) لأننا في حاجة إليه، بل نحن في حاجة إليه لأننا نحبه( 61). ((إننا قلما نعامل الآخرين باعتبارهم غايات، بل نحن ميالون في العادة إلى اتخاذهم مجرد وسائط)) (62 )، وهذا، بالذات، ما كانت تطمح إليه “عشتار” بعلاقتها مع “جلجامش”، ولم يكن بالأمر الخافي على “جلجامش” العارف بكل شيء.
قد يكون العقل ومنطق الوجدان ألقى من النور ما يكفي لإنارة ساحة المواجهة بين الطرفين بما يمكننا من رؤية جزئياتها وأسرارها التي توارت، من قبل،خلف الظلام والغموض. وحينها سوف لا نجد عنتا كبيرا في قبول سلوك كلا الطرفين؛ فمن جهة نجد تذلل الالهة “عشتار” لـ “جلجامش” الإنسان استدرارا لعطفه وإحسانه للقبول بعرضها حيث كان الطمع والحرص(أُسّا العبودية والذل النفسي والاجتماعي) هما محركا السلوك لديها. ومن جهة أخرى هذا الموقف الثوري الحاسم الجريء الذي فجره “جلجامش”، الحكيم العارف الرباني، بوجه الزيف والخداع ورفضه الصريح لعرض “عشتار”، رغم مكانتها السامقة التي تخر لها الأعناق، وانها في عرضها هذا قدمت الدنيا إليه على طبق من ذهب ملفوفة في نشيد.
لقد بات “جلجامش” نظيرا لـ”عشتار” حين استغنى، بالحكمة والصبر، عن زيفها وإغراءاتها وبهرجها الزائل، وفي الوقت نفسه، أضحت هي عبدا في حضرته تستجدي رضاه وقبوله كي تتمكن من إخفاء نار الذل التي ألهبت كيانها وأرقت مضجعها، النار التي أذكتها جيوش الحرص والطمع والشهوة الجاهلة.
لم يكن من العسير على “جلجامش” أن يدرك، بحكمته والدرجة العرفانية التي حازها: أن الحب قوة كونية ترمي إلى الجمع بين المختلفين لينتج من اجتماعهما الخير لهما ولمن حولهما( ). لقد أدرك أن ولوجه صرح الحب الذي تدعيه “عشتار” سيجلب الأذى والنصب والانحطاط له ولشعبه؛ فبالنسبة له، سيمتهن الطغيان والشره ويستعبده حب الدنيا وما يستتبعه من ضياع الحكمة وانطمار الذات تحت ركام الخطايا الماحقة للنور والعرفان، بما يتنافى والخلود الذي ينشده وحسن الذكر الذي سيبقيه حيا على مدى الأجيال لما قام به من أفعال مجيدة تأصيلا للفضيلة والعدالة وإسهاما في تحقيق الارتقاء الحضاري للجنس البشري.
وبالنسبة لشعبه؛ أبصر “جلجامش” أن ارتماءه في أحضان هذا العشق ألـ”عشتاري” الزائف سيجعل منه حاكما جائرا ظالما بما سيمطر أنواع البلايا على أبناء شعبه الذين طالما احرق روحه وكيانه في رعايتهم وحمايتهم:
((لكن جلجامش هو راعي ((أوروك))، السور والحمى
هو راعينا القوي، كامل الجمال والحكمة)) ( 63)…
لأنه باعتناقه هذا الحب الهابط لا بد سيمتهن الهبوط إلى المدارك السفلى، ليغدو همه الأكبر المحافظة على مكاسبه الدنيوية الدنيئة والمداومة على ارتقاء عرش الرذيلة ولو على رفات الناس وأقواتهم وتعاستهم، وحينها ستمحق، في قلبه، الحكمة ونور الفضيلة، ولن يعود، أبدا، “جلجامش” الأمس، وسيذوي بيده قنديله. gilgamesh 15 (2)
مذاهب الباحثين في تفسير رفض جلجامش لعرض عشتار:
لقد اجتهد الباحثون للكشف عن العلة التي دفعت “جلجامش” لرفض عرض “عشتار” فضلا عن الإغلاظ لها في القول و تعداد مثالبها وما لحق بها من شنار، بدلا من الانجراف في خضم سيل إغراءاتها العرم.ويكاد جميع الباحثين يتفقون على تفسير هذا الموقف من حيث الخطوط العامة التي سنعرض لنماذج منها فيما يأتي.
استنادا إلى ارتباط اسم “عشتار” بطقوس الحب التي تؤكد أهمية الجنس لاستمرار الحياة، يتساءل د. “فاضل عبد الواحد علي”/ في محاولته لتعليل هذا الحادث/ عما إذا كان استهجان “جلجامش” يعكس بالضرورة رد فعل اجتماعي، على الأقل من وجهة نظره، لبعض القضايا الطقسية التي كانت تجرى باسم هذه الآلهة في معابدها( ). خاصة ان هناك من الدلائل ما يشير إلى علاقة “عشتار” الوثيقة ببغايا المعبد وبغيرهن من بنات الهوى، كما جاء في اللوح السادس من الملحمة:
فجمعت “عشتار” بنات المعبد وبغاياه والمخصيين
وأقامت البكاء على فخذ الثور السماوي(64 )…
إن المتتبع لسيرة “جلجامش” وأفعاله التي أوردنا بعضها في هذا البحث مع ما حظي به من حكمة ومعرفة واكتناه لخفايا الأسرار يتلمس مسبقا استحالة أن تكون أفعال “جلجامش” صادرة عن ردة فعل اجتماعي مهما كان لون تلك الرغبة الاجتماعية وشكلها. إن ما بدر منه تجاه “عشتار” وفي كافة أفعاله الأخرى إنما هو فعل ذاتي إرادي مسؤول صادر عن صميم نفسه ترجمة لما يعتمر في كيانه من مثل عليا وقيم أصيلة.
فهو قد خالف، قبل هذا، الرغبة الاجتماعية حين نهاه الجميع عن الذهاب لقتال الوحش خمبابا، بل ان المجتمع بأسره كان يهاب قتال هذه القوة الغاشمة، والتوجه الجماعي يظهر الرغبة في التعايش والتكيف مع الوضع المزري الذي فرضه ذلك الوحش على الناس ولم يكن هناك من الدلائل ما يؤشر ميل الجماهير إلى التغيير لرفع الذل والعبودية عن نيرها من خلال استعدادها للتضحية والمخاطرة. ثم ما استوضحناه من حقائق في معرض تفكيكنا لرموز قضية(لم يترك…) وتحديد العلل الحقيقية المفسرة لها يظهر لنا ان “جلجامش” من النوع الذي لا يخاف في الحق لومة لائم؛ فهو قد خالف الجميع وأغاظ الأبطال وعلْية القوم حين منعهم من تجاوز حدودهم وعدم الاستعلاء أو التجاسر على حقوق الغير من جهة، وأجبر عامة الشعب على الاستيقاظ على ضرب طبوله كناية عن النظام والصرامة في الإذعان للتشريعات وتطبيق القوانين التي الزمهم بها من جهة أخرى.
ثم انه لم يكن هناك استهجان شعبي لما تمثله عشتار من رموز وطقوس كي يكون فعل “جلجامش” استجابة له. بل على العكس من ذلك، تظهر لنا الكثير من النصوص أن “عشتار” كانت مطمحا ورغبة متجلية في عقول وقلوب معظم أبناء المجتمع عامتهم وخاصتهم، فضلا عن المديح الذي كانوا يكيلونه لها ارتجاء رضاها ووصالها.
* * *
وفي معرض تفسيره لهذا الرفض والتوبيخ الذي صدر من “جلجامش” تجاه “عشتار” يذهب الدكتور “نائل حنون” إلى أن ذلك يرجع إلى حادث معين وقع بينهما ووردت الإشارة إليه في الأسطورة السومرية المعروفة بـ ((“جلجامش” و”انكيدو” والعالم الأسفل))، حيث تذكر هذه الأسطورة أن نزول “انكيدو” إلى عالم الأموات[ العالم الأسفل الذي من سننه أن من يدخله لا يخرج منه ويسمى باللغة الأكدية(آنا ارصيت لاتاري) أي(إلى الأرض التي لا رجعة منها)] ( 65) نتيجة أدت إليها هدية أنانا”عشتار” إلى “جلجامش”، وهي آلتا((البكو)) و ((المكو))() اللتان سقطتا إلى ذلك العالم(بسبب صراخ العذراء الصغيرة وذلك من خلال ثقب في الأرض) ( 66).وبسبب ذلك حمل “جلجامش” شيئا واضحا من انعدام الثقة تجاه انانا”عشتار” وغيظا تفجر، فيما بعد، بشكل محسوس في اللوح السادس من ملحمة “جلجامش”. ولم يذكر هذا الأمر في نسخة الملحمة حين ترجمت ورتبت في صيغتها البابلية، إذ حصل بعض التغيير عند ترجمة اللوح الثاني عشر من الملحمة في أصلها السومري، حيث حذفت مقدمته التي وردت فيها الإشارة إلى موضوع آلتي((البكو)) و ((المكو)) وقصة اهدائهما “جلجامش” من قبل انانا”عشتار”.فلم يكن يعقل من الكاتب البابلي أن يشير في اللوح الثاني عشر من الملحمة إلى مثل تلك الهدية من “عشتار” إلى “جلجامش”، لما فيها من تعبير عن الوفاق فيما بينهما بما لا ينسجم وإسهاب الملحمة في الحديث عن المجابهة العدائية بين الاثنين وإهانة “جلجامش” لـ”عشتار” في اللوح السادس.إذ أراد الكاتب البابلي أن يجعل موضوع اللوح الثاني عشر مكملا ومتسقا مع موضوع الأحد عشر لوحا الأولى من الملحمة. إن هذا التغيير هو الذي جعله يهمل توضيح السبب الذي أدى إلى توجيه الكلام القاسي واللاذع من قبل “جلجامش” إلى “عشتار” في مكانه الذي يتناسب مع الأصل السومري للوح الثاني عشر( 67).
نقول: إن “جلجامش” إنسان على درجة رفيعة من الحكمة لا يمكن أن يختزل الآخر في نقطة واحدة ويحكم عليه نتيجة موقف يتيم، فالحكمة توجب معاملة الآخر بوصفه كيانا كليا ومجموعة نقاط تتآلف فيما بينها لتحدد، بكليتها، ملامح تلك الشخصية وخطها العام. بهذا المفهوم الكلي، ينطلق الحكيم في تقييماته وأحكامه على الآخرين. وهو ما تمثل خير تمثيل في المواقف المتعددة التي ذكرها “جلجامش” في معرض رده على “عشتار” وتعليل سبب رفضه لطلبها الاقتران به، وهي مواقف لا تتحدد بمرحلة واحدة أو مدة زمنية معينة من حياة “عشتار” بل تمتد على طول المشهد الفعلي لتلك الإلهة منذ بدء ممارسة دورها على الأرض والى وقت الخطاب الفض.
ثم انه لا ينبغي لـ “جلجامش” الحكيم أن تكون أحكامه وسلوكياته وفقا لردود الأفعال الآنية والاستجابات الانفعالية، ليحكم على انانا “عشتار” جراء موقف واحد يتمثل في إهدائها آلتي((البكو)) و ((المكو)) إليه، التي بسببهما دخل “انكيدو” العالم السفلي بحثا عنهما بعد سقوطهما في ذلك العالم.
وليس من المنتظر من “جلجامش” المكتنز حكمة ومعرفة أن يعتمد مثل هذا الدليل أساسا لإطلاق مثل تلك الأحكام الخطيرة على “عشتار” وهي في موقع الإلهة المبجلة التي تضطرم لها في القلوب جلجلة، عند مختلف أصناف الناس عامتهم وخاصتهم.
إن الحلاوة في شفتيها، وفي فمها الحياة،
وبرؤيتها يتم الابتهاج
وهي رائعة إذا ما توشحت بالخمار
ذات قد فاتن وعينين متلألئتين
* * *
المستشار إلى جانب الآلهة
وهي تقبض بيديها على مصير كل شيء
وهي التي خلقت الفرح والسرور بلمحة
والقوة والبهاء والإله الحامي والأرواح العارية
* * *
هي الوحيدة التي يسعى إليها الالهة، ذات المقام الفريد
كلمتها محترمة،وسامية
“عشتار” فريدة المقام بين الالهة
كلمتها محترمة وسامية( 68)…
وفضلا عن كونه دليلا جاء نتيجة حالة عرضية واحدة فانه لا يملك من المتانة الواعدة ما يؤهله للصمود أمام التمحيص المنطقي أو يكون مقبولا من الآخرين لافتقاره الأسس والأسانيد العقلائية بما يضمن له القبول، عند “جلجامش” الحكيم، فضلا عن الناس الآخرين كونه لا يتوافق وشروط الفطرة الإنسانية السليمة والطبيعة البشرية المبنية على البساطة والوضوح.
فلا ذنب لـ “عشتار” إن عجز شخص ما عن الاحتفاظ بهدية قدمتها له، أو أن ينجم بعض الأذى أن تمكن منه الوله، فأساء استخدامها. إن كل ما ترتب على هديتها من أضرار بعدية إنما جاءت نتيجة لتقديرات “جلجامش” و”انكيدو” أو بسبب من قوى القدر الأخرى ولا دخل لـ “عشتار” بهذا الأمر. ثم إن المؤاخذات التي ابتنى عليها “جلجامش” تقييمه لـ “عشتار” إنما ذكرها جميعا في خطابه لها ولم يأتي على ذكر تينك الهديتين إن كانا على هذه الدرجة من التأثير على نفسيته واستنتاجاته، كما ان جميع تلك المؤاخذات مبررة وتنم عن استقراء الإنسان العارف المجرب الذي يعتمد العقل بعيدا عن الأهواء والميول النفسية والعقد المكبوتة في استنتاجاته، فنراه قد ابتدأ منهجا معرفيا ديالكتيكيا(69) باعتماد الوقائع المحسوسة المتعددة والمتنوعة وصولا إلى المفهوم الكلي المستنتج منها الذي تمثل في تقييمه لانانا “عشتار” ونوعية الحكم الذي أطلقه عليها.
يقول “جلجامش” مخاطبا “عشتار”( 70):
((أي من العشاق الذين اخترتهم من أحببته على الدوام؟
وأي من رعاتك من رضيت عنه دائما؟
تعالي أقص عليك (مآسي) عشاقك:
من أجل “تموز” حبيب صغرك(صباك)
قضيت بالبكاء والنواح عليه سنة بعد سنة(71)
لقد رمت(طير) الشقراق المرقش
ولكنك ضربته وكسرت جناحيه
وها هو الآن حاط في البساتين يصرخ نادبا:
((جناحي ! جناحي)) (72)
ورمت بحبك الأسد الكامل القوة
ولكنك حفرت(للإيقاع به)سبع وسبع وجرات
ورمت الحصان المجلى في البراز والسباق
ولكنك سلطت عليه السوط والمهماز والسير
وحكمت عليه بالعدو شوط سبع ساعات مضاعفة
وقضيت عليه أن لا يرد الماء إلا بعد أن يعكره
وقضيت على أمه ((سليلي)) أن تواصل البكاء والندب عليه
وأحببت راعي القطيع، الذي لم ينقطع يقدم إليك أكداس الخبز
وينحر الجداء ويطبخها لك كل يوم
ولكنك ضربته ومسخته ذئبا
وصار يطارده الآن الفه من حماة القطيع
وكلابه تعض ساقيه
وأحببت ((إيشولنُّو))، بستاني أبيك(73)
الذي حمل إليك سلال(التمر) بلا انقطاع
وجعل مائدتك عامرة بالوفير من الزاد كل يوم
ولكنك رفعت إليه عينك فراودته وقلت له:
((تعال إلي يا حبيبي(إشولنُّو)، ودعني أذق متعة رجولتك
مدَّ يدك والمس مفاتن جسمي)).
فقل لك (إشولنُّو):
((ما تبغين مني؟
ألم تخبز أمي فآكل منها حتى آكل خبز الخنا والعار؟
وهل يدرأ خص(كوخ) الحلفاء الزمهرير
وهل ستكون الحلفاء غطائي ازاء البرد القارص))
وأنت لما سمعت كلامه هذا ضربته بعصاك ومسخته ضفدعا
وجعلته يقيم في عذاب ومناحة
فلا يستطيع أن يعلو مرتفعا ولا ينزل منحدرا
فإذا ما أحببتك فستجعلين مصيري مثل هؤلاء))…….
* * *
أما “عالم سبيط” فينطلق في تفسيره لهذه الحادثة( رفض “جلجامش” لعرض “عشتار”) من ركيزة أساسية تستند إلى ما يراه بخصوص رمزية “عشتار” في الملحمة. حيث يرفض الإقرار بإلوهية “عشتار” ويعتقد (من خلال كثير من الأدلة والبراهين التي يطرحها في كتابه) أن أقوالها هي أقوال الحياة لاغير.
إن الكشف عن أهمية “عشتار” متمثلة بالحياة الدنيا المنقطعة؛ كما يرى “سبيط”، سوف يفسر لنا جميع سلوكياتها في جميع النصوص بلا استثناء. وإذن فان نداءها لـ”جلجامش” في تلك اللحظة هو نداء حب الذات والغرائز المرتبطة بالحياة الدنيا ، فإنها تنادي المرء في ذروة النصر والقوة عارضة عليه استغلال تلك القوة للتشبث بالحياة والتمتع بها.وهكذا عرضت الحياة(عشتار) نفسها لـ “جلجامش” لتكون حبيبته الوحيدة في اللحظة المناسبة، لحظة انتصاره على “خمبابا”.
ولكن “جلجامش” رجل حكيم وعارف بالأسرار ومنها الحياة، ولذلك فلا يمكنها أن تخدعه، فالحكماء يبحثون عن الحياة الحقيقية الدائمة التي لا موت فيها، أما الحياة التي تنتهي بالموت فهي خدعة. ومن هنا بدأ “جلجامش” بسرد مثالب الحياة الدنيا ونقائضها. فهي من حيث كونها بابا للحياة الدائمة فلا إشكال في كونها تستحق أن تعاش، ولكن من حيث كونها هي الحياة (الحبيبة أو الزوجة) فهي خدعة، ولذلك لأنها خدعت كل أولئك الذين ارتبطوا بها بهذا الرباط الوثيق فقد انكشف فيما بعد أنها مكرت بهم وأهانتهم، فهي ذات بعد واحد ولن تكون بأية حال هي الغاية والمنتهى لما تتطلع إليه نفس “جلجامش” الذي أجابها برفض عرضها وبتعداد مثالبها(74). ثم يختتم “جلجامش” خطابه هذا بالقول:
((وإذا أحببتني فسوف تجعليني مثلهم))
والمعادلة هنا واضحة: فإن الذي يعشق الحياة الواطئة سيكون واطئا بالتأكيد ولن تقع هي في غرامه بعد ذلك، وأما الذي يعرض عنها فإنها تلاحقه بمغرياتها وحين يصر على هجرانها فإنها تحاول الانتقام منه بأية صورة. ومن الطبيعي أن يكون (الحكام) أكثر الخلق هياما بهذه الصورة المشوهة للحياة، ولذلك فإنهم لا يتسامون عليها، فهم أعداء للحياة الحقيقية ولا يجلبون لرعيتهم سوى الموت والدمار. بخلاف “جلجامش” الحكيم الذي يدفع الخطر عن أهل الأرض بنفسه. نلاحظ الآن أين يكمن التوجه الفكري والنفسي لـ”جلجامش”؛ انه ملك وحاكم ولكنه انفرد بصفة ليست في الحكام أمثاله وهي سموه على الحياة الواطئة، وهو ما ظهر جليا في رفضه للعرض الذي تقدمت به “عشتار” وما تفوه به من أقوال جارحة بحقها.
ولكن أقوال “جلجامش” هذه تمثل من ناحية أخرى اعتراضا صارخا على (إرادة الله) التي تشاء بها أن تكون الحياة النموذج الأول على هذه الصورة. هذا ما يدور في أذهان البعض وإن كان اعتراضا منطقيا، ولكن النص جعله من اعتراضات “عشتار” ربَّة هؤلاء المعترضين!. إذن فلا بد أن تقدم “عشتار” شكوى إلى (والدها) الذي جاء بها إلى الوجود، والمقصود بالطبع(آنو) كبير آلهة السماء حسب الشراح، وهو ما نتج عنه خلق الثور السماوي وتسليم مقوده إلى “عشتار” لتنزله إلى العالم الأرضي كي تنتقم به من “جلجامش” الذي أهانها وعدد مثالبها( ). كما سيظهر في الآتي من هذا البحث.
إن الحياة الواطئة التي يتطرق لها “عالم سبيط” هي جماع كافة المهيمنات الفاعلة في ساحة اشتغال النفس الأمارة بالسوء ومايستميل قواها وشهوتها سواء أكانت هذه الفواعل واقعة في نطاق النفس بالذات أم ضمن المساحات الجاذبة والمحركة للسلوك الإنساني. فيشترك في تحديد مفهوم هذه الحياة خليط غير متجانس من عناصر معنوية ومادية تعمل، في حالة تسيدها ناصية القرار، إلى مسخ الإنسان والرمي به في مديات بعيدة من البهيمية والانحطاط. فهي جماع الأنانية وحب الذات والشره والطمع والحرص والغرور والتطلع إلى الاستعلاء والظهور والامتلاك والظلم والجور والفجور والانحلال والرغبة في الاستحواذ بنهم على كل ما يقع تحت اليد والبصر من أموال وأملاك وجاه وادعاء ما ليس بحق والتسلط على العباد والبلاد والاستهانة والازدراء بكل ما يمت للمثل والقيم الحميدة والخير والحق والجمال. ومن المؤكد ان تحصيل هذه المكاسب(وإن كانت على درجة كبيرة من التدني والفساد) إلا انها في حاجة إلى قوة وأساليب وإمكانيات لابد منها لتحقيق الاستطاعة الكاملة المهيئة للاستحواذ على تلك المطامح الدنيوية. فمن امتلك شيئا من القوة بامكانه أن يحقق من تلك المكاسب ما يتناسب وحجم القوة التي لديه، فكيف بمن امتلك كل المقومات والسمات اللازمة التي تجعله قادرا على تحصيل كل تلك المغريات دفعة واحدة. إنه شيء من الاختبار الصعب والقاسي الذي يتعرض له الرجال العظام أمثال “جلجامش” من الذين جادت عليهم السماء بكرامات القوة والحكمة الربانية الطاهرة. فستغدوا حياتهم سلسلة من الصراعات والاختبارات الجبارة التي يذوب لها القلب والروح كل لحظة خشية الانجراف مع السيل العرم للمغريات التي تضعها أمامهم الحياة الدنيا(عشتار) لاستدراجهم وإفراغهم من تلك الهبات الملائكية وإخراجهم عن موكب الشرف الرفيع تمهيدا لركنهم في إحدى الزوايا الموبوءة في ذاكرة الزمان والتاريخ التي اعتادت “عشتار” تكديس معجبيها فيها.
لأنه عرف جميع الأشياء واستفاد من عبرها، فقد أدرك “جلجامش” أن حقيقة الإنسان لا يمكن اختصارها في هذه الكتلة الجسدية التي تشترك والبهائم في ذات الصفات والفعاليات البيلوجية على السواء. وهو إدراك متقدم تآزر مع يمتلكه “جلجامش” من وعي متقدم وإرادة متقدمة ليتفجر جهادا مريرا خاضه ضد قوى الشر سواء منه الجهاد الأكبر لترويض عقبة النفس الأمارة بالسوء أو الجهاد الأصغر للتغلب على عقبات الحياة.
إن الحكماء العارفين يعلمون علم اليقين أن هذه الحياة ليست سوى دار ممر إلى دار مقر، وانها مجاز والآخرة هي الحقيقة. فأضحوا كالقابضين على الجمر، يختبرون الصلب في كل آن ومصر.
ها هو الإمام علي(ع) في محنته الرسالية قائما في جوف الليل يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحكيم، ويقول مخاطبا الحياة الدنيا( وهي ذاتها عشتار جلجامش) تغلفه الأحزان والآلام:(( يادنيا يادنيا، إليك عني، أبي تعرضت؟ أم إلي تشوقت؟ لا حان حينك. هيهات غري غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها! فعيشك قصير، وخطرك حقير، آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر، وعظيم المورد!)) ( 75).
إنه يخاطب الدنيا مباشرة: (يا دنيا يا دنيا، إليك عني…) فكأنه يراها شاخصة أمام عينيه وهي تستجمع في كيانها كل العناصر التي ذكرت سابقا فهي جماع لها. هاهي تعرض نفسها عليه كما عرضتها على “جلجامش” وعلى كل من حاز قصب الشرف الرفيع والحكمة الربانية مثلهما. لتعلن عن شوقها وولعها(ألي تشوقت…). ولأنه مفتاح مدينة العلم، القوي الحكيم الأمين، فقد طلقها ثلاثا لا رجعة فيها، وهيهات لها أن تغويه وتستنزله عن عرشه الطاهر. لماذا؟:- لأنه عارف بها وبمكائدها ويعلم مآل من يركن إليها، وها هو يعدد مثالبها كما فعل “جلجامش” من قبل: فعيشها قصير، وخطرها يسر، وأملها حقير.. وخلف ذلك يرتسم أمام ناظريه طريق الخلود: سفر بعيد وطريق طويل؛ قليل زاده، عظيم مورده…
إنها الحكمة الربانية التي جعلت من الحياة بشقيها (المزيفة والحقيقية) اختبارا أزليا لعباده. ولم يكن ليكلفهم ما لا يطيقون (رغم الصعوبة البالغة لهذا الاختبار) ما دام قد استودعهم تلك الأمانة التي أَبَتْ أن تحملها السموات والأرض: قوة نورانية عظيمة، قادرة، إن أحسن الإنسان صيانتها وأجاد استعمالها، على أن تجعل منه كائنا ربانيا يقل للشيء كن فيكون، ألا وهي العقل؛ منبع الوعي والبصيرة. إن الله يهب الحكمة لمن يشاء ممن يملكون الاستعداد لتقبل هذه المنة العظيمة، وليس إلا ثلة من الأولين وقليل من الآخرين هم القادرون بحكمتهم وجهدهم وجهادهم على فك لغز الحياة الدنيا، ليدركوا ببصيرتهم تلك الحقيقة المتمثلة في ذلك الجدل الخفي الذي تتمثل فيه المشيئة الربانية، ويصبحوا على يقين راسخ بأن:((من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها)) ( 76).gilgamesh 15

الحكمة؛ الضريبة والاختبار:
إن الحكمة أغلى ما في الوجود، وقد حاز “جلجامش” باعا كبيرا منها:((يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يُؤْتَ الحكمة فقد أُوتيَ خيراً كثيراً، وما يذَّكَّرُ إلا أولوا الألباب)) (77 ). وأمام كل حكمة اختبار، وعليها ضريبة تدفع.
أحد هذه الاختبارات هو العرض الذي تلقاه “جلجامش” من “عشتار” للاقتران بها. وحين نجح “جلجامش” في الاختبار، فلا بد أن تأتي المرحلة التالية: مرحلة الضريبة التي يجب أن تستقطع من القلب والروح والعقل ثمنا لتلك الحكمة بل ثمنا لبقائها زاهرة عند الإنسان الذي يدعيها واستمرارها نورا ربانيا ينير له دياجير الروح والنفس والحياة ويجعله قادرا، ليس فقط على استماع القول، بل، وهذا هو الأصعب، وإتباع أحسنه(78).
هكذا نطقت اللوائح: لكل نعمة حقيقية يكتسبها الإنسان في حياته ثمة اختبار وضريبة يتناسبان، طردا، في حجمهما وخطورتهما وفقا لحجم وخطورة تلك النعمة. وهذا الحجم أو الخطورة التي توصم بهما النعمة إنما تحددان، ليس من جهة الإنسان، بل من جهة الرب، مالك النعمة وواهبها. فقد يستحوذ إنسان ما على الدنيا والسلطان ولا نراه متعرضا لبلاء أو مضطرا لدفع ضريبة كبيرة؛ لان ما حصل عليه إنما هي الدنيا الدنية التي لا تعدل عند الّله جناح بعوضة. بينما من الممكن رؤية إنسان اعتيادي العيش ولكنه حاز على نعمة خطيرة أغلى وأكبر، في نظر الّله، مما لدى ذي الملك والسلطان، فترى ابتلاءه واختباره وما يتوجب تكبده من ضرائب كبيرة بادية للعيان…
بينما كانت “عشتار” تتوسل ودَّ “جلجامش” وتبغي رضاه وموافقته على ارتباطه بها وتبدي إعجابها به وبهالته الجمالية، نراها، ما أن رفض عرضها وبادر إلى رفع النقاب عن حقيقتها،( وهي مبادرة جاءت بمثابة تفسير وتعليل لرفضه ذلك العرض)، حتى انقلبت رأسا على عقب، متناسية كل فضائل “جلجامش” التي تغنت بها أوتار قيثارتها قبل حين، متوسلة بكل الطرق والأساليب لإلحاق الأذى والدمار به وجعله أثرا بعد عين. ولا عجب؛ (( فالمرأة حين تحب تصفح عن كل شيء حتى عن الجريمة، وحين يزول الحب من قلبها لا تصفح عن شيء حتى عن الفضيلة)) (79 ). إنها المرحلة التي يتوجب فيها على “جلجامش” دفع الضرائب المناسبة للقيمة التي أوصلته إلى هذا المقام السامي.
لقد كان طبيعيا أن تثور “عشتار” غاضبة وان تفكر في الانتقام لنفسها من “جلجامش”. صعدت إلى السماء قاصدة أباها الإله “آنو” وأمها الإلهة “انتو”، وبعد إن شَكَتْ لهما من “جلجامش” ومن تشهيره بها طلبت من أبيها إله السماء أن يخلق لها ثورا سماويا يستطيع منازلة “جلجامش” والقضاء عليه. مهددة الآلهة إذا لم تستجب لطلبها بتحطيم أبواب العالم الأسفل ليخرج الأموات ويأكلوا الأحياء:
ففتحت “عشتار” فاها وقالت لـ “آنو”، أبيها:ـ
((اخلق لي يا أبت ثورا سماويا ليهلك جلجامش
وإذ لم تخلق لي الثور السماوي فلأحطمن أبواب العالم الأسفل
وافتحه على مصراعيه
وادع الموتى يقومون فيأكلون كالأحياء
ويصبح الأموات أكثر عددا من الأحياء( 80)…
إن في تهديد “عشتار” بإطلاق سراح الموتى على الأحياء ما يتضمن تصويراً لمخاوف البابليين من الأرواح، تلك المخاوف التي كانت تؤلف الطابع المميز لديانتهم والتي كثيرا ما تضمنتها تعويذاتهم ورقاهم( 81). ويذهب “طه باقر” إلى ان فحوى هذا التهديد واضح؛ إذ انه بقيامة الموتى من العالم الأسفل ومشاركتهم الأحياء في الطعام تحل المجاعة في الأرض ويحرم حتى الآلهة من الطعام( 82).
وإزاء إصرار ابنته “عشتار” لم يجد الإله “آنو” بداً من خلق الثور السماوي وإنزاله في مدينة الوركاء:
ولما إن سمع((آنو)) كلامها سلم “عشتار” سلسلة
مقود الثور السماوي فأخذته وقادته إلى الأرض،
أنزلته في ارض ((أوروك)) ( 83)…
إذا كانت ثورة “جلجامش” على آلهته يكتنفها الغموض، فمن الواضح أن مؤلف الملحمة، إن صح استعمال مثل هذا التعبير، قد تعمد وضع حوادث الفصل السادس بالصورة التي جاءت بها لتكون مسببات مسبقة لما سيجري في الفصل التالي له من الملحمة، فخلق الثور السماوي كان الغرض منه إنزال العقاب بـ “جلجامش” لأهانته الالهة “عشتار”. ثم إن قتل الثور كان مدعاة هو الآخر لمعاقبة الرفيقين “انكيدو” و”جلجامش”، ولهذا نقرأ في مستهل الفصل السابع من الملحمة أن الآلهة اجتمعت وقررت الحكم بالموت على واحد من البطلين وان الاختيار وقع في النهاية على “انكيدو” لسببين: أولهما: لأنه رفض الاستجابة إلى توسل وتضرع “خمبابا”(Humbaba) عفريت غابات الأرز للرحمة به وعدم قتله، وثانيهما: لأنه أسهم في قتل الثور السماوي وفي إهانة “عشتار”( 84).
وعندما نام ((“انكيدو”)) رأى حلما
ثم طلع النهار فقص “انكيدو” رؤياه على جلجامش:
((يا صاحبي أي حلم عجيب رأيت الليلة الماضية!
(رأيت) أن ((آنو)) و ((إنليل)) و ((إيا)) وشمش السماوي
قد اجتمعوا يتشاورون وقال آنو لانليل:
((لأنهما قتلا الثور السماوي وقتلا “خمبابا”
فينبغي أن يموت ذلك الذي اقتطع أشجار الأرز))
ولكن انليل أجابه قائلا:
((إن “انكيدو” هو الذي سيموت
وجلجامش لن يموت)) ( 85)…

الهوامش :
( 1) = الأدب المقارن- محمد غنيمي هلال- 1977، د.ط: ص 144.
( 2) =مقدمة في الأدب السومري- أ.د.زهير صاحب- (بحث) مجلة الاقلام- وزارة الثقافة والاعلام،دار الشؤون الثقافية العامة-بغداد،العراق- السنة 39،العدد 6، كانون الاول 2004: ص 15.
( 3) = ينظر التعريف الذي قدمه طه باقر للملحمة وأهميتها في كتابه((ملحمة “جلجامش” – طه باقر – وزارة الثقافة والإعلام العراقية ، سلسلة الثقافة العامة 8 – ط2 ، 1971 : ص ص 17 ـ 37)).
وينظر أيضا: الإنسان في أدب وادي الرافدين- يوسف حبي- الموسوعة الصغيرة(83)، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام ، العراق- ط 1 ، 1980 : ص ص 85 ـ 86.
( 4) = ما قبل الفلسفة- مجموعة كتاب- ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا- منشورات مكتبة الحياة، فرع بغداد – 1960، د.ط: ص 246.
(5) = ملحمة جلجامش. طه باقر: ص.51
( 6) = ينظر: جماليات ملحمة “جلجامش”- إ. م . دياكينوف- ترجمة : عزيز حداد – بدون جهة نشر او تاريخ اصدار : ص 76 ، 83.
( 7) = ينظر: ملحمة “جلجامش”- طه باقر : ص 18.
( 8) = ينظر: الرحمن والشيطان؛ الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات الشرقية- فراس السواح- منشورات دار علاء الدين، دمشق، سوريه- ط 3، 2004 : ص 27.
( 9) = ملحمة جلجامش – طه باقر: ص ص 115 ـ 116 .
( 10) = ينظر: ما قبل الفلسفة : ص 251.
( 11) = ملحمة جلجامش- طه باقر: ص ص 125 ـ 126.
( 12) = المعجم الفلسفي، ج1 – د . جميل صليبا – دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان – 1979، د.ط: ص ص 439 ـ 440.
(13 ) = الحب عند العرب- د . عادل كامل الالوسي- الدار العربية للموسوعات، بيروت، لبنان- ط 1 ، 1999 : ص15.
( 14) = المعجم الفلسفي- مراد وهبة، يوسف كرم، يوسف شلاله- دار الثقافة الجديدة، القاهرة – ط2، 1971: ص 77.
(15 ) = موسوعة لالاند الفلسفية- تعريب: خليل احمد خليل- منشورات عويدات، بيروت، باريس- ط1، 1996: ص 56.
( 16) =ينظر: المرأة والجنس- نوال السعداوي- المكتبة العالمية، بغداد-1984، د.ط: ص 144.
( 17) = الحب العذري؛ نشأته وتطوره- احمد عبد الستار الجواري- مكتبة المثنى- بغداد، 1948: ص ص 14 ـ 15.
( 18) ينظر: رماد الشعر- عبد الكريم راضي جعفر- دار الشؤون الثقافية، بغداد- ط 1، 1999: ص 9.
( 19)= ينظر: الحب عند العرب: ص 19.
( 20)= فلسفة الحب عند العرب- عبد اللطيف شرارة – دار مكتبة الحياة، بيروت- ط1، 1960: ص 5.
( 21) = مشكلة الحب- د. زكريا ابراهيم- مكتبة مصر، القاهرة- ط2 , د.ت: ص ـ ص 8 ــ 11.
( 22) = ينظر: فن الحب- أريك فروم- ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد- دار العودة، بيروت- ط1، 1972: ص 43.
(23 = عن الإمام علي(ع):((إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وان قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وان قوما عبدوا الله شكرا؛ فان تلك عبادة الأحرار)). (ألف كلمة في الحكم والمواعظ والأمثال لأمير المؤمنين وسيد البلغاء والمتكلمين الأمام علي بن أبي طالب(ع)- الشيخ عبد الحميد الشيخ حسين المضري- دار المؤرخ العربي- بيروت، لبنان. د.ط ، د.ت:ص 360).
( 24) المعجم الفلسفي. د: جميل صليبا : ج1 / 440.
( 25) مشكلة الحب: ص 20.
(26) = (( لم تسعني ارضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن)) [حديث قدسي].
( 27) جمهورية أفلاطون- ترجمة: حنا خباز-دار القلم، بيروت- 1980 ، د.ط : ص 96.
( 28) = العبارة لـ ((ميشال انجيلو)) نقلا عن: الحب عند العرب : ص 10.
( 29) = فن الحب- أريك فروم- ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد- دار العودة، بيروت- ط1، 1972: ص 21.
( 30) = معجم لالاند الفلسفي: مج 1 /ص 55.
( 31)=المصدر نفسه: مج 1 / ص 56.
( 32)= الحب عند العرب: ص 9.
( 33)المصدر نفسه: ص 11.
( 34) ملجمة جلجامش- طه باقر: ص 82.
( 35) المصدر نفسه: ص 106، 107 ـ 108.
(36) = “عشتار”: إلاهة الحب والخصب وملكة السماء عند البابليين، وهي(اينانا) عند السومريين، انها زوجة ـ “تموز” ـ إله الخصب والزراعة، وتقابلها(افروديت) في الاساطير الاغريقية و ((فينوس)) في الأساطير الرومانية.(أساطير بابلية- James B.pritchard – ترجمة:سلمان التكريتي- مراجعة: زكي الجابر- مطبعة النعمان، النجف الأشرف- 1972، د.ط:ص 93.
( 37) = ملحمة”جلجامش- طه باقر: ص 87.
( 38)= الحياة اليومية في بلاد بابل وآشور- جورج كونتينو- ترجمة وتعليق: سليم طه التكريتي، برهان عبد التكريتي- وزارة الثقافة والإعلام، الجمهورية العراقية، سلسلة الكتب المترجمة(76): ص ص 339 ـ 340.
(39) = وقد تترجم بهيئات أخرى مثل (زوجي) أو(حبيبي) الخ.. (ملحمة جلجامش- طه باقر: ص 87).
( 40) ملحمة جلجامش- طه باقر: ص ص 87 ـ 88.
( 41) ملحمة جلجامش- طه باقر: ص 88.
(42 )= فن الحب: ص ص 19 ـ 20.
( 43)= ملحمة جلجامش- طه باقر: ص 88.
( 44) المصدر نفسه: ص 91.
( 45)= ينظر: المعتقدات الدينية في العراق القديم- د. سامي سعيد الأحمد- دار الشؤون الثقافية، بغداد- 1988، د.ط: ص28.
( 46)= المعتقدات الدينية في بلاد وادي الرافدين- لابان رينيه- ترجمة: الأب ألبير أيوتا، د. وليد الجادر- بغداد، 1988:ص 285.
( 47) = اساطير بابلية- James B.pritchard: ص ص 115 ـ 116.
( 48) الحياة اليومية في بلاد بابل وآشور: ص 340.
( 49) = ملحمة جلجامش- طه باقر: ص 54.
( 50)= الإنسان في أدب وادي الرافدين: ص 102.
( 51) = ملحمة جلجامش- طه باقر: ص53.
(52 ) ينظر: ملحمة كلكامش والنظام القرآني: ص ص76 ـ 80.

( 53) = ملحمة جلجامش- طه باقر: ص ص 75ـ 76، 85. ( )= ملحمة جلجامش- طه باقر: ص 53.
(54 )= المصدر نفسه: ص 53.
( 55)=المصدر نفسه: ص 53.
( 56)= الحب عند العرب: ص 21.
( 57)= ملحمة جلجامش- طه باقر: ص87.
( 58)= ينظر: الحب بين تراثين- ناجية مراثي- منشورات وتوزيع المكتبة العالمية، بغداد- ط 2، 1985: ص 29.
( 59)= المأدبة- افلاطون- ترجمة: وليم الميري- مصر، 1954: ص 8.
( 60)= ينظر: الأخلاق – أرسطو طاليس- ترجمة: اسحق بن حنين- حققه وشرحه وقدم له: د. عبد الرحمن بدوي- وكالة المطبوعات، الكويت-ط1، 1979: ص279.
(61 )= ينظر: فن الحب: ص ص 42 ـ 43.
(62) = الحرية: في اصطلاح اهل الحقيقة: الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق والاغيار.( كتاب التعريفات- السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني- دار احياء التراث العربي، بيروت، لبنان- ط1، 2003:ص 70).
( 63)= ينظر:جماليات ملحمة جلجامش: ص 175.
( 64) ينظر: مشكلة الحب: ص216.
( 65) = المصدر نفسه:ص ص 42 ـ 43.
( 66)= الحياة العاطفية بين العذرية والصوفية- محمد غنيمي هلال- دار النهضة للطباعة والنشر، القاهرة- ط 12، د.ت: ص 230.
( 67)=ملحمة “جلجامش”: طه باقر: ص 53.
( 68) = “عشتار” ومأساة “تموز”- د. فاضل عبد الواحد علي- الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق،سوريا- ط1، 1999:ص 53.
(69 )= ملحمة جلجامش- طه باقر: ص ـ ص 93 ـ 94.
( 70) = ملحمة “جلجامش”- طه باقر: ص 107 هامش 63.
(71) = تحدثنا اسطورة(( “جلجامش” وشجرة الخلوبّو)) عن اصل الطبل المقدس المسمى(بوكو) واستعمالاته الطقوسية. وبالاستناد الى احداث هذه الاسطورة فان (انانا) التي هي (“عشتار”) قد حصلت على شجرة( الخلوبّوّ) من شواطيء الفرات وغرستها في بستانها لكي تصنع سريرها وكرسيها من خشب هذا النبات. وحين حالت قوى الشر دون تنفيذ رغبتها هذه خف (“جلجامش”) لمساعدتها واعترافا له بهذا الجميل اهدته(بكو) و(مكو) وقد صنعا من عرق وزهر هذا النبات تقديرا له.وقد فسر بعض الباحثين معنى الـ (بكو) والـ (مكو) بانهما الطبل السحري وعصاه.. ويستهل اللوح الثاني عشر بذكر الاحزان التي اعترت (“جلجامش”) بسبب فقده آلتي الـ (بكو) والـ ( مكو). ويتعهد(“انكيدو”) بالذهاب الى العالم الاسفل بقصد العثور عليهما فينصحه(“جلجامش”) بوجوب ملاحظة بعض قواعد السلوك عند ذهابه إلى ذلك العالم لكي يتجنب القبض عليه وسجنه هناك. غير ان (“انكيدو”) لا يعمل بنصيحة(“جلجامش”) فيقبض عليه ويسجن في العالم الأسفل… ثم يخاطب “جلجامش” روح “انكيدو” طالبا ان يصف له نظام العالم الأسفل وأحوال ساكنيه فيجيبه بان الجسم الذي كانت تحبه وتقمصت فيه قد أكلته الديدان وطمره التراب فيرمي “جلجامش” بنفسه على الأرض منتحبا,,,(الاساطير في بلاد ما بين النهرين- صمويل هنري هوك- ترجمة: يوسف داود عبد القادر- وزارة الثقافةوالاعلام، الجمهورية العراقية- سلسلة الكتب المترجمة(5)، 1968م:ص ـ ص 48 ـ 49).
( 72)= الاساطير السومرية؛ دراسة في المنجزات الروحية والادبية في الالف الثالث قبل الميلاد- صموئيل نوح كريمر- ترجمة: يوسف داود عبد القادر- مطبعة المعارف، بغداد-1971،د.ط:ص59.
(73 )= عقائد ما بعد الموت في الحضارة العراقية القديمة- د. نائل حنون ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت- ط 1، 2002: ص 137.

(74) = ينظر: اساطير بابلية- James B.pritchard – ترجمة:سلمان التكريتي- مراجعة: زكي الجابر- مطبعة النعمان، النجف الاشرف- 1972، د.ط:ص ـ ص 115 ـ 116.
(75) = ديالكتيك Dialectic: فن التوصل إلى معرفة صحيحة. فهي تقتضي التيقن من رأي “الطريحة”، ومعرفة الرأي المخالف “النقيضة”، للوصول إلى الحقيقة الكاملة، أي الجميعة. فالإنسان عاجز عن أن يفهم كل شيء فهماً مباشراً من الوهلة الأولى، لذلك يتبع في إدراكه المعارف نهجاً متدرجاً ديالكتياً. ((المعجم الأدبي – جبور عبد النور – دار العلم للملايين – ط1، 1979: ص ص113-114)).
– عند افلاطون هو المنهج الذي يرتفع العقل به من المحسوس إلى المعقول، لا يستخدم شيئاً حسياً، بل ينتقل من معانٍ إلى معانٍ بواسطة معان.
– عند هيجل الجدل هو المنهج الذي من شأنه أن يبرز تماسك المتناقضات ووحدتها ويكشف عن المبدأ الذي يقوم عليه هذا التماسك وهذه الوحدة.
– في الفلسفة الحديثة: الفكر الذي لا يقنع بالوقوف عن حد معين. ((المعجم الفلسفي – مراد وهبة، يوسف كرم، يوسف شلاله – دار الثقافة الجديدة، القاهرة – ط2، 1971: ص ص68-69)).
( 76)=ملحمة “جلجامش”: طه باقر: ص ص 88 ـ 91.
(77) = يشير هذا الى العادة التي عمت في تلك الازمان من الندب والبكاء على “تموز” اله الخضار والربيع، حيث اعتقدوا انه كان ينزل الى العالم الاسفل في كل خريف ويعود الى الحياة مع بشائر الربيع او انه يظل رهينة في ذلك العالم. (ملحمة جلجامش. طه باقر:ص89).
(78) = ترجم بعضهم هذا الطائر بطير الراعي. ويلاحظ ان الشقراق الذي يكثر في العراق يخرج في أثناء موسم التلاقح، وهو طائر، صوتا يشبه اللفظ البابلي ((كبي)) kappi أي ((جناحي)). وان صوته هذا وتقلبه أثناء الطيران هو الذي اوحى على ما يرجح هذا الخيال الطريف لادباء العراق القديم ومنه نشات(( اسطورة الجناح الكسير)) . (ملحمة جلجامش- طه باقر: ص 89).
(79) = أي بستان الاله((آنو)).
(80) = تتضمن إجابة “جلجامش” رؤياه للحياة في كل سطر من سطورها، فعلاوة على كونها كالموقد الذي تخمد ناره في البرد عند الحاجة، لأن المرء ما ان يبلغ العقل التام والتجربة ويصل إلى الدرجة التي يمكنه من خلالها الانتفاع بمعارفه، فإذا بقواه الجسدية تخمد ويدب الضعف في جسده استقبالا للموت الذي لا بد منه وما ان يفتح عينيه على الأشياء فإذا به يخرج من (الباب الخلفي). البناء فيها يشبه البناء بحجر المرمر وحده إذ ينهار الجدار في آخر المطاف لانزلاق القطع بعضها على بعض.. إنها حجر اليشب الذي يغري المرء بحمله لكنه يسمُّه ويموت!. علاوة على ذلك فهي مثل فردة الحذاء التي تؤذي لا بسها.. وهي صورة بلاغية عالية جدا لان الحياة أحادية ذات اتجاه واحد دوما وينعدم فيها التوازن المطلوب للحركة بين الإنسان المغرم بالبقاء وبين الحياة التي تسلبه هذا البقاء، فهي تأخذ من حيث تهب وتسلب من حيث تعطي.. إنها حياة عرجاء، والمتمسك بها مثل لابس فردة حذاء واحدة، يمكنك أن تسميه لابسا لأجود أنواع الأحذية ولكن من ناحية الرجل الأخرى يمكنك أن تسميه حافيا! فالماشي هكذا غير متوازن وتؤلمه قدمه. حتى الملوك فيها هم برجل واحدة.. إذ يموتون في النهاية وإذا هم لا يملكون حتى أنفسهم فضلا عن أن يملكوا شيئا من الأشياء. وبمثل ذلك يرى “عالم سبيط” انه يمكننا تحليل بقية النماذج من ضحايا عشتار، وهم مجموعة الكائنات المهينة الذين أذلتهم “عشتار” لأنهم قبلوها كحبيبة لهم أو غفلوا عن مكائدها.وهنا تظهر أهمية (الوعي) باعتباره المنقذ الوحيد للإنسان. (ينظر: ملحمة جلجامش والنظام القرآني: ص ص 30 ـ 37) .
(81 )= ينظر: ملحمة جلجامش والنظام القرآني: ص ص 27 ـ 37 .
( 82)=نهج البلاغة- شرح الإمام محمد عبده- مؤسسة ذوي القربى، قم ، جمهورية إيران الإسلامية- ط1، 2006: ص 450 .
( 83)= الإمام علي(ع) : المصدر نفسه:ص 504 .
( 84)= سورة البقرة / 69.
(85) =يقول تعالى: (( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الّله وأولئك أولوا الألباب)) . سورة الزّمر / 19.
( 86) = الحب عند العرب: ص 9.
( 87) = ملحمة جلجامش- طه باقر: ص 91.
( 88) = الاساطير في بلاد ما بين النهرين- صمويل هنري هوك: ص30.
( 89) = ملحمة جلجامش ـ طه باقر: ص91..
( 90)= المصدر نفسه: ص 92.
( 91)= ينظر: عشتار ومأساة تموز: ص ص 53 ـ 54.
( 92)= ملجمة جلجامش- طه باقر: ص 97.

             

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *