
الكاتب نوزاد أحمد أسود
إشارة :
رحل المبدع الكبير “جليل القيسي” الرائد المجدّد والمحدث في فن القصة القصيرة وفن المسرح في العراق وهو في ذروة عطائه ونضج أدواته الفنية . ومع رحيله – وللأسف وكالعادة – أُسدل الستار على هذه التجربة الفنية التحديثية الهائلة. هذا الملف الذي تقدّمه أسرة موقع الناقد العراقي هو دعوة لإعادة دراسة تجربة الراحل الكبير الفذّة بصورة أكثر عمقاً وشمولاً. ندعو الأحبة الكتّاب والقرّاء إلى إثراء الملف بالدراسات والمقالات والوثائق والصور.
المقالة :
أعيش كعهدك بي
أتنزه متأملا
أستقل القطار والسفينة وحيدا، بلا تذاكر
أتبضع من دون مساومة
وليلا في البيت مسترخ على سريري
(حبذا لو استطعت أن أفتح النافذة، حينما أشعر بالملل)
آه… وبي رغبة بين الفينة والأخرى
أن أحك رأسي، أقطف وردة، أصافح يدا.
قصيدة “رسالة من صديق ميت” للشاعر التركي أوكتاي رفعت
كنت أراقبه كل يوم. كان يخرج من منزله الواقع في الحي الواسطي في الخامسة مساءا، ليكمل مشيته المعتادة على طول “طريق بغداد” حتى إعدادية صناعة كركوك، ثم يعود أدراجه، أو يجلس عند أصدقاء له من أصحاب المحلات التركمان ممن هم أكبر منه سنا ولا صلة لهم بالأدب. كنت أخاله أحد آلهة سومر أو بابل أو آشور وقد جاء إلى عصرنا هذا ليكتب لنا عن زمنه الجميل ومملكته ذات الانعكاسات الضوئية. كنت مغرما بادبه، كما كنت مغرما بجماعة كركوك. غالبا ما كنت أتردد على محلة جوقور، حيث منزل فاضل العزاوي، وعلى كنيسة الأب يوسف سعيد في شارع المحطة،ومحلات نورالدين (شقيق صلاح فائق) في شارع الجمهورية… هكذا بدأت أتعقب جليل القيسي خلسة كجاسوس وبطريقة غبية أحيانا ومثيرة للضحك كما في الأفلام الأميركية الرخيصة، كنت أقف إلى جانب الطريق متظاهرا بقراءة صحيفة أو بانتظار الحافلة، وعندما يصل عندي كان يرمقني بنظرة عابرة دون أن يلحظ إعجابي الكبير به. لم أجرؤ أن أذهب إليه لأعرفه بنفسي، كي لا أفسد عليه مشيته، أو ربما لعدم معرفتي بردود فعله سيما وإنه كان يعاني من عزلة رهيبة. ولأني كنت أنا الآخر خجولا بعض الشيء ولم أعرف من أين أبدأ معه، لذا طلبت من صديقي الشاعر قاسم آق بايراق ليعرفني عليه. ما إن إلتقيت به حتى بدأت بالحديث عن قصصه ومسرحياته ومقابلاته وعن جماعة كركوك،ألقى علي جليل نظرة طويلة قائلا، إنك أرشيفي!.
أحببته لأنه بدأ يكتب نمطا جديدا من القصة لم نألفه من قبل: الإله مردوخ يأتي من عصر السومريين إلى بيت جليل القيسي في كركوك ويدعوه إلى مدينة بابل القديمة لحضورإحتفالات الايكيتو، أو رأس السنة البابلية… جليل القيسي يسمع طرقا على الباب، ينهض ليفتحها فإذا به وجها لوجه مع دوستويفسكي، قائلا لجليل أعرف إنك تحبني كثيرا وها انذا آتيك بنفسي إحتراما لمشاعرك الحارة لي… جليل القيسي بشخصه يقتحم بيت جروشنكا بطلة رواية الأخوة كارامازوف ويتنبأ لشخصيات الرواية ولخالقه بالعمر المديد ويخبرهم بأن الأب زوسيما لم يمت بل هو الآخر كباقي شخصيات الرواية سيبقى يعيش ردحا طويلا من الزمن… قبل أن ينتهي جليل القيسي من قراءة رواية “الأبله” يسمع صوتا ينادي عليه فإذا به فجأة وجها لوجه أمام الأمير مشكين بطل الرواية… يجد جليل نفسه في مدينة “نفر” القديمة في يوم تقديم النذور السائلة ويتعرف على فتاة تدعى تريفه قادمة من مدينة في الشمال تدعى “شيشروم” (حاليا رانيا في كردستان العراق)… يذهب جليل إلى الأهوار ليكتب بحثا عنها فإذا به يرى نيدابة، آلهة الهور والقصب، وقد تم إبعادها من قبل كبير الآلهة وأُلغي منصبها على ألوهية الأهوار لأن لم يعد هناك قصب والحكمة ماتت. يقع جليل في حبها ولكن ما النفع؟ هي آلهة وهو إنسان…
أحببته لأنه قلب مفهوم الهوية الإثنية رأسا على عقب، ومثّل مزيجا متداخلا من جميع الأعراق: فهو من أب عربي وأم كردية، وتزوج من إمرأة أرمنية، وسكن محلة تركمانية، في مدينة يعيش فيها جميع الأعراق من الكرد والتركمان والعرب والكلدو آشوريين والأرمن والصابئة المندائيين واليزيديين واليهود (حتى منتصف القرن الماضي). وكان يتحدث جميع لغات كركوك ويعتبر جميعها لغاته الأم من دون أن يفضّل لغة على أخرى، كما هو حال معظم أبناء المدينة. فإن كشطت جلد أي كركوكي أصيل ستجد تحته إثنيات وأعراق ومذاهب مختلفة ومتداخلة. هكذا نحن أبناء كركوك الحقيقيين ننتمي إلى جميع الأطياف ونتحدث جميع لغات كركوك. لا غرابة أن أهل السليمانية يدعوننا ب”سى موجه كه”، أي ذوو الموجات الثلاث، نسبةً إلى اللغات العربية والكردية والتركمانية التي يتحدث بها معظم أبناء المدينة والتي تعتبر جميعها لغات رسمية في كركوك. إن ما يجعل عربيا كجليل القيسي وكرديا مثلي أن يتحدثا باللغة التركمانية لا يعود إلى أن الشخص الذي عرّفهما ببعضهما هو تركماني فحسب، بل هو إعادة مفهوم الهوية القومية هذه. هذه الصفة يمتاز بها معظم أدباء جماعة كركوك، كفاضل العزاوي ومؤيد الراوي وأنور الغساني وزهدي الداوودي ومحي الدين زنكنه ويوسف الحيدري والأب يوسف سعيد وصلاح فائق وقحطان الهرمزي، حاملين أفكارا ومفاهيم جديدة عن القومية واللغة والأدب تعكس تركيبهم الاثني وتنوعم الثقافي. يقول أنور الغساني في رسالة له إلى نصرت مردان والمنشورة في العدد الثالث من مجلة سومر 2006: “انتقلنا وعمري 4 سنوات من “قلعة صالح” إلى كركوك التي نشأت فيها وهي مدينتي وموطني. والدي من كركوك تركماني/تركي. في البيت كان يقول أن جده أحمد كان باشا في الجيش العثماني، وأن جده السابع اسمه أصلان. كل أقاربنا من ناحية والدي تركمان في كركوك. كثير منهم لا يتكلم العربية على الاطلاق. ثقافة والدي كانت مزيجة من العربية والتركية. في البيت كنا نتكلم العربية فقط لأن والدتي لم تكن تتكلم التركمانية. وهكذا نشأنا وأصبحت لي لغة أم عربية ولغة تركمانية، محيطنا، أقربائنا، أصدقاءنا..الخ وهكذا أصبحت لي هوية عربية وهوية تركمانية”.
ويقول في رسالة ألكترونية لي باللغة الانكليزية:” بإمكاني أن أعرّف هويتي كعربي وكردي وتركماني وأخرى كثيرة”.
هذه الأفكار السحرية هي التي جعلتني أتابع باهتمام بالغ كل ما يكتبه جليل القيسي وجماعته. كنت لا أتوقف عن
طرح الأسئلة عليه حول جماعة كركوك، وهو الآخر لا يمل الحديث عن أصدقائه القدامى، والمدينة،IPC Training Centre وعن البدايات؛ تعلم الإنكليزية في مركز التدريب المهني التابع لشركة نفط العراق
كتب أولى مسرحياته باللغة الإنكليزية، أقنعه أنور الغساني بالكتابة باللغة العربية، رغم أنه كان يعاني من صعوبات في اللغة العربية. يقول جليل إنه حينما كان في أميركا، كان يكتب رسائل إلى أهله بلغة عربية ركيكة خالطا فيها العامية بالفصحى، مما كانت تثير ضحك أهله. أما عن سفره إلى أميركا، يقول فاضل العزاوي في مقال نشره في مجلة المدى عن “أصدقاء السوء، جماعة كركوك” ومن ثم ضمه إلى كتابه “الروح الحية – جيل الستينات في العراق” إن جليل القيسي “كان قد قصد أميركا ليدرس التمثيل فاضطر إلى العمل كعامل مصعد في أحد الفنادق لمدة تسعة شهور، ثم استبد به الحنين إلى الوطن فعاد إلى كركوك، متخليا عن حلمه في أن يصبح نجما في هوليوود”. ولكن كلام فاضل العزاوي هذا أثار حفيظة جليل القيسي، الذي برر هو الآخر سفره إلى أميركا بغية دراسة المسرح وليس ليصبح ممثلا في هوليوود. قد يكون فاضل على صواب. لم لا؟ فجليل يمتلك جميع مؤهلات النجومية من الوسامة وطول القامة وإجادة اللغة الانكليزية بطلاقة، فضلا عن إنه كثير الشبه بالممثل الأميركي كلارك كيبل نجم فيلم “ذهب مع الريح” الذي حصد تسع جوائز أوسكارعام 1939.
كان يروي لي عن سركون بولص وكتاباته الغرائبية والحديثة من القصص والقصائد التي لم تكن تناسب سنه الصغيرة في ذلك الحين، واصفا إياه بالشاب الوسيم الذي كان كثير الشبه بالممثل الأمريكي كريكوري بيك. وعن بداياته وكيفية تعلمه اللغة الانكليزية قال إن شقيقه أنوربولص الذي كان يعمل في شركة النفط يجلب له روايات الجيب الانكليزية Pocket Book التي كان العاملون الأجانب من الانكليز يتركونها بعد قراءتها، لينكب سركون على قراءتها بنهم. كان جليل مغرما بشكل أخص بقصيدته “إعدام صقر” ، قائلا عنها “إنها قصيدة تُبكي”. مرة أراني ألبوم صوره: صلاح فائق مرتديا الزي الكردي… سركون بولص في بيت جليل عام 1986، وهي المرة الوحيدة التي عاد فيها سركون إلى كركوك، والتقى بجان وجليل. وحينما كان جان دمو في كركوك، رافقته مرة إلى بيت جليل القيسي، لا لشيء سوى لأشبع فضولي وأرى ماذا يحدث عندما يلتقي اثنان من جماعة كركوك؟ وقد شرع جليل في السنوات الأخيرة بكتابة مذكراته عنهم ولكن الموت لم يمهله الانتهاء منها.
ذات مرة ذهب جليل إلى سوق السمك في منطقة أحمد آغا ليشتري سمكا، فاجأه بائع السمك الكردي باطلاعه الواسع على قصصه ومسرحياته، مناديا إياه “ماموستا جليل”، أي “أستاذ جليل”. ظل جليل يذكر لنا هذه الحادثة بفرح كبير. ولم يكن بائع السمك هذا سوى صديقنا المثقف صباح محمود الذي زج به النظام البعثي في السجن وهو في السنة الأخيرة من دراسته الجامعية بسبب نشاطه السياسي المعارض، ولم تقبله الجامعة بعد إطلاق سراحه، فاضطر إلى مزاولة بيع السمك.
الآن وقد رحل عنا جليل القيسي، ومن قبله يوسف الحيدري وجان دمو، أقول إنني محظوظ عشت في زمنهم، وحظيت بلقاء وصداقة بعض منهم، ومازلت أتطلع للالتقاء بالآخرين.
ألآن وقد أصبحت جماعة كركوك علما من أعلام المدينة كقلعتها الخالدة، كنارها الأزلية، أما آن الأوان لكي تفكر السلطات المحلية في كركوك بنصب تماثيل لهم، أو تسمية شوارع المدينة بأسماءهم؟
• عنوان المقال مأخوذ من عبارة لجليل القيسي واصفا فيها الإنجيل بالنثر الجارح
Azadaswad@yahoo.co.uk
*عن موقع تركمان العراق