إشارة :
يسر أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ بنشر هذا الملف عن ملحمة جلجامش العظيمة، كنز العراق المعرفي والشعري والنفسي، ودرّة تاج أساطير العالم، وأقدم وأطول ملحمة مكتملة في تاريخ البشرية. ولو لم يأتنا من حضارة وادي الرافدين، من منجزاتها وعلومها وفنونها شيء سوى هذه الملحمة لكانت جديرة بأن تبوّأ تلك الحضارة مكانة سامية بين الحضارات العالمية القديمة كما قال الآثاري الكبير طه باقر. وإذ تتشرف أسرة الموقع بأن تقدم هذا الجهد ، فإنها تتقدم – في الوقت نفسه – بالدعوة إلى جميع الكتّاب والقرّاء للمساهمة في هذا الملف المهم كتابة وقراءة وتعليقا .
الدراسة : ((ملحمة كلكامش))
أهمية دراسة اللغات القديمة وآدابها:
من الأهمية بمكان، بالنسبة للإنسان، معرفة المراحل الفكرية التي مر بها الجنس البشري في بدايات تكونها والاستبصار ببنية الذهن الإنساني في مراحل ثورته الأولى. إذ بمثل هذه الدراسة نتمكن من استكشاف الفواعل التي كان يتعامل بها هذا الذهن قبل أن ينتقل إلى التعامل بعلائق المنطق وتحديدات اللغات المنظمة( 1).
لا يتسن لنا رصد المراحل الحضارية التي مر بها الجنس البشري، شكلا ومضمونا، إلا من خلال الآثار التي خلفها الإنسان الأول ووصلتنا في هيئة ملمحين بارزين هما الكلمة والحجر. ساهمت العوامل الطبيعية في إتلاف كثير من الآثار المادية ومنها الحجر الذي بقي منه النزر اليسير قياسا على ما تمكنت الطبيعة من تغييبه فتمكن من الصمود ليشي إلينا بجانب من عظمة الانسان وعمق جهاده وإبداعه العقلي على ارض البسيطة وهو يكافح لتأسيس معالم وجوده وحضارته.وعلى العكس من الحجر ،نرى الشاهد الثاني على معجزة العقل البشري، أي الكلمة، قد((ظلت حية في ضمير التاريخ لتكون اكبر عون على استجلاء الحقيقة واكبر مصدر للإشعاع الشعوري والفكري منذ فجر التاريخ حتى اليوم)) (2 ) .
إن الكتابة (الكلمة المدونة) هي الفيصل الذي اعتمده المؤرخون في تقسيماتهم الزمنية لرحلة الإنسان على هذا الكوكب لتعيين مسارات العقل البشري في رحلته المضنية وتحركه على هذه الأرض التي هي بالذات موضوع التاريخ. تقف الكتابة حدا فاصلا بين عصور ما قبل التاريخ (أي الأدوار التي لم تبتدع فيها الكتابة بعد) لعشرات آلاف السنين، التي اعتمد البحث فيها على المخلفات المادية، وبين عصور التاريخ الفعلي الذي يبدأ بالتسجيل والكتابة والتوثيق، وهي مرحلة بدأت في المشرق العربي في وادي الرافدين ووادي النيل. ويمكن أن تعود إلى أواخر الألف الرابع أو أوائل الألف الثالث ق.م. فبدءا من هذا الاختراع الفاصل في تاريخ الإنسانية يبدأ التاريخ القديم. إن الدراسة الموجهة لأي من مراحل التاريخ البشري من الأهمية بمكان لامتلاك تصور كلي عن نوعية الحياة التي خبرتها الإنسانية ولتفهم حركة التاريخ والتطور الحضاري سواء على مستوى عموم العالم أم في منطقة معينة.فدراسة التاريخ هي في الوقت نفسه دراسة الإنسان ـ المجتمع، على امتداد الزمن.ففضلا عما تزودنا به من معرفة بالماضي فإنها تعزز معرفتنا بأنفسنا وتزيدنا تبصرا بالكيفية التي تمت فيها عمليات التطور الاجتماعي ـ السياسي والنمو العقلي.
وكما أن الإنسان المعاصر تمكن من اكتشاف الأرض كلها إلى أن خرج من المكان إلى الفضاء، فان البحث في ماضي البشرية والغوص إلى أعماق ما فبل التاريخ أديا إلى تعميق مفهوم الزمن والى توسيع مدلول الماضي( 3).
يتمتع النتاج الأدبي في حضارة وادي الرافدين بأهمية كبيرة في تاريخ الآداب الإنسانية، إذ تدين له تلك الآداب بجانب كبير من التطور الذي أصابته كونه يمثل بواكير التجارب التي وظف فيها الإنسان أساليب الخيال والفن لتجسيد مفاهيمه الخاصة عن قيم الحياة ومعانيها والتعبير عن أحوال المجتمع ومشاكل الفرد.. فدراسة هذا الأدب تمكننا من إدراك الطابع المميز لمجتمعات حضارة وادي الرافدين وتفرعاتها المختلفة، لأنه ينقل بصدق وواقعية أحوالهم وعقائدهم ومعاييرهم الخلقية ونظرتهم إلى أربابهم ونظام الحكم وأصوله، كما يصور لنا أحوال البيئة البشرية والطبيعية التي نمت فيها تلك الحضارة ( 4).

ورغم أولوية هذه المحاولات الأدبية لبلاد سومر في تاريخ تطور الإنسان الأدبي، إلا أنها، رغم قدمها، على درجة من الرقي تضاهي الآداب العالمية الناضجة، سواء أكان ذلك من ناحية الأساليب وطرق التعبير أم من ناحية الموضوع والمحتوى أم من ناحية الأخيلة والصور الفنية( 5).
إن الألواح الطينية المكتوبة بالخط المسماري التي تم اكتشافها بإعدادها التي تتجاوز الألف؛ هي ما يمثل منابع معرفتنا بالآداب السومرية.وتكمن أهميتها في ما تزخر به من معاني إنسانية خالدة لازالت تمثل محور التفكير الإنساني، وفي أساليبها الفنية (شعرا ونثرا)، بصيغها المتفردة التي تتمتع بقدرة خاصة في الاستحواذ على مشاعر المتلقي، فضلا عن أهميتها في عكس طبيعة الحضارة التي ابتدعتها.
السمات العامة لأدب وادي الرافدين:
إن العراق، كان أول قطر في العالم حدد سمات الإنسان المتحضر الذي بدا يرقى بأسلوب ادبي فني رفيع يعبر عن الحياة ومالها من قيم ومعان على المستوى الإنساني والعالمي( 6) . ورغم أن أدب وادي الرافدين يعد أقدم أدب عرفه العالم إلا انه يتسلح بميزة قلما نجد لها نظيرا في الآداب الأخرى حيث وصلنا من غير تحوير، أي على هيئته الأصلية كما دونته أقلام الكتبة السومريين والبابليين على ألواح الطين قبل( 4000) آلاف عام، على العكس من آداب الأمم الأخرى التي عانى معظمها، إن لم يكن جميعها، من التحوير والتبديل والإضافة على أيدي النساج والجامعين والشراح.كما يتمتع أدب وادي الرافدين بكثرة النسخ للقطع الشهيرة منه التي وضعت في أزمان مختلفة، وانتشار هذه النسخ في جميع أرجاء وادي الرافدين وبين غالبية الأقوام القديمة( 7).
من الأساسيات التي يتوجب الإلمام بها من قبل الراغبين في دراسة وفهم النصوص الأدبية لحضارة وادي الرافدين هي مسالة فهم الآلية اللغوية التي دونت بها تلك النصوص من جهة ماهية تلك اللغات وتنوعها وكيفية اشتغال تلك اللغات وتأثرها ببعضها البعض. لقد كانت النصوص، آنذاك، تدون بلغتين أساسيتين هما السومرية والأكدية( بفرعيها البابلية والآشورية). فكان ثمة نوع من التداخل بينهما والتاثير المباشر وغير مباشر الذي مارسته اللغة السومرية على اللغة الأكدية،. تمثل هذا التأثير من حيث تأثر اللغة والأدب البابليين بما يناظرهما من لغة وأدب سومريين اخذ له عدة مسارات بدءا من تأثر النتاج الأدبي البابلي بالأساليب اللغوية الأدبية السومرية،أو من جهة القطع الأدبية السومرية التي ترجمت إلى اللغة البابلية، أو ما استعملته النصوص البابلية من مصطلحات ومفاهيم سومرية كثيرة. لذا لا يمكن فهم النصوص الأدبية لحضارة وادي الرافدين بشكل واقعي بمعزل عن فهم حقيقة هذا الازدواج اللغوي(8).
عادة ما تضم الدراسات الشائعة للأدب الآشوري في نطاقها مواضيع كالتنبؤات والتسابيح والحوليات الملكية ونصوص الأبنية والنصوص الطبية والكيماوية واللغوية والحكمة والمفاخرة والمناظرة، والحب والغزل والرثاء والسخرية والفكاهة إضافة إلى الأساطير والملاحم. وان ذلك مسوغ طالما انه لم يكن في الفكر القديم صنفا من النصوص الأدبية في مفهومنا الضيق( مع احتمال استثناء الأساطير والملاحم وبعض نصوص الحكمة). من المناسب أن يكون هناك تمييز وتقسيم لاعتبارات مختلفة لتلك التآليف التي يمكن أن تسمى(( أدبا)) استنادا إلى تصنيفنا الحديث( 9).
لقد قامت الآداب السومرية ، في معظمها‘ على نوع من الفكر التأملي المتأسس على إدراك حدسي اقرب إلى الرؤيا. فعوضا عن إتباع النطق العقلي القائم على الاستقراء والتحليل والاستنباط والاستنتاج، لجا السومريون إلى ابتداع فرضيات ميتافيزيقية تمكنهم من التوحيد بين الأضداد التي أفرزتها تجاربهم والجمع بينها في تآلف متناغم يوحي لهم بمقدار من الصفاء والاطمئنان الروحي ليتمكنوا من التغلب على الفوضى السطحية الظاهرة التي تشي بها تناقضات الحياة. وهي أبعاد معرفية أودعوها أساطيرهم وملاحمهم التي يتوجب أخذها بنظر الاعتبار لما تكتنزه من ثوابت مهمة.
وفقا لما سبق؛ فقد تأسست لديهم حقائق ميتافيزيقية تدعو المؤمن إلى الاعتراف بها ولا تحاول تبرير نفسها أمام المتشكك. لقد انطلق الفكر السومري من فرضية أن عالم الظواهر هو(أنت) مجابها للإنسان، فهو في بحثه عن السبب، يبحث عن ألـ (من) لا عن ألـ (كيف)، انه يبحث عن إرادة ذات غرض تأتي فعلا معينا، ولم يفكر في وجود(تقنية) لا شخصية() تنظم حياة الطبيعة(10 ).
من سمات الذهنية السومرية ، كما تعبر عن ذاتها في الأدب، هي دورانها في فلك القيم الروحانية كونها القيم الطاغية في الفكر الاجتماعي. فالحياة الذهنية للفرد مكيفة اجتماعيا ويغلب عليها الطابع الجمعي، حيث تخضع حياة الفرد، بشكل قوي، إلى رأي الجماعة وتقويمها. تعد الذاكرة، التي تتألف من كم هائل من الأحكام، إحدى المفاصل الأساسية للذهنية السومرية.وهي بمثابة السلطة المطلقة على الذهنية السومرية، وهي التي توجه روح المشاركة، إذ لا وجود لعنصر المناقضة حيث ينعدم الاختلاف بين التصورات الفردية والجماعية. وخارج تلك الذاكرة، كل شيء باطل، فالتصورات الجماعية الموروثة من الأسلاف هي الوحيدة الصحيحة. إنها المرجع الذي يستعصي على التجديد والتحديث. وهنا تكمن الأهمية القصوى للأسطورة والملحمة في بنية الفكر السومري الاجتماعية( 11).

يتصف الشعر السومري بوجود الإيقاع الخاص (الوزن والعروض) مع انعدام القافية، وتأليف الكلام فيه بتقسيمه إلى وحدات صغيرة وضمها في قصيدة أو مجموعات اكبر من تلك الوحدات كالبيت والبيتين والأربعة أبيات، مع اختيار الألفاظ الشعرية الخاصة من حيث المعنى والجرس اللفظي( 12).
من العلامات البارزة في الأدب العراقي القديم هي ظاهرة الإعادة والتكرار(تكرار كلمات، أو تكرار مقاطع كاملة). وهي ميزة مكنت الباحثين المحدثين من إعادة وتكميل مواطن كثيرة قد انخرمت وضاعت من النصوص الأصلية في ألواح الطين المدونة عليه( 13).إن أول ما يتبادر إلى الذهن في تعليل هذه الظاهرة، فضلا عن فاعليتها في توكيد المعنى، إنها ترجع إلى الشفاهية في رواية وإنشاد النصوص آنذاك، حيث يستعين المنشد بالتكرار والإعادة ليتمكن من تذكر ما سينشده من مقاطع تالية. ويرى احد الباحثين أن ظاهرة التكرار تعود إلى البنية الإيقاعية للقصيدة السومرية بالذات ، لان الشعر السومري، كما يرى، لا يعتمد على الوزن، بل على بنى صوتية معينة ومن ضمنها التكرار، ليخلق إيقاعا شعريا، كما نجده في قصيدة النثر المعاصرة مثلا( 14).
وفي محاولة للكشف عن وظيفة التكرار في القصيدة السومرية، يرى ا.د. زهير صاحب أن قراءة الأساطير والملاحم السومرية(شكلانيا)، أي تقصي شكلانية المضامين بدلالة تعالق الملفوظات، يرشدنا إلى أن للتكرار في بنية النصوص وظيفة إيقاعية تشبه تكرار الأنغام في المعزوفات الموسيقية، وذلك ان النص الأدبي السومري هو ليس دلالة معنى ،فقط، وإنما(موسقة) الألفاظ والكلمات كي توحي بمدلولاتها. فالمقاطع المتكررة تتسع وتكبر وتفعل، لتبلغ عن إبعاد جديدة لها مهام وصفية وتأكيدية.فكلكامش حين يقول في موت انكيدو( 15):
لتبكك المسالك التي سرت فيها في غابة الأرز
وعسى ألا يبطل النواح عليك مساء نهار
وليبكك الإصبع الذي أشار إلينا من ورائنا وباركنا
فيرجع صدى البكاء في الأرياف
وليندبك الدب والضبع والنمر والفهد والأيل والسبع
والعجول والضباء وكل حيوان البرية
ليندبك نهر(( أولا)) () الذي مشينا على ضفافه
وليبكك الفرات الطاهر الذي كنا نسقى منه
لينح عليك رجال(( أوروك)، ذات الأسوار
ولينح عليك من أطعمك بالغلة
ومن مسح ظهرك بالزيت المعطر وسقاك الجعة
ولتبكك الاخوة والأخوات…
إن كلكامش يريد أن يجعل من حزنه حزنا كونيا شاملا في بنية النص الملحمي، وذلك أن ما يشكل جزءا من اليومي، يصبح في الوعي الجمعي نوعا من الأسطورة، التي تنتمي إلى الخيال، والى مجال اللامحتمل. فالمعاش هنا يتحول إلى سرد. وهكذا فان ما حدث بالأمس كحقيقة، يمكن أن يتحول الآن إلى أسطورة( 16).
من الظواهر البارزة في الأدب العراقي القديم هي مسالة التنويه بالحل والنهاية التي ستؤول اليهما القصة أو الرواية والتلميح بماهية الخاتمة من قبل الوصول إليها، وهي ما تسمى بظاهرة استباق الحدث( 17).
كما تتميز بنية النصوص الأسطورية والملحمية السومرية باحتوائها على أزمنة وأمكنة كونية لا واقعية (18).
فمن الصعب حساب الزمن في تلك النصوص وفقا لقياساتنا ومفاهيمنا المعتادة. فالزمن لا يعلن عن ذاته إلا في ضوء النتائج والأفعال. فإذا كان الزمن يؤثر على الفعل في السرد القصصي، فان اثر الفعل أهم من فترة ديمومته في السرد الأسطوري. كما نلاحظ في بنية تلك النصوص( تغييبا) مقصودا للأمكنة. فالدروب التي تسلكها الشخصيات، تكاد تكون مموهة، وبعيدة عن التحديد، لا عرض لها ولا طول، وفي الآن نفسه، لا بداية لها ولا نهاية. إنها تبدأ في نقطة لا يمكن تحديدها إلا في خيال المتلقي. وطالما أن المتلقي هو الفكر الإنساني في عالميته غير المحددة، تبقى الإشكالية، هي إشكالية إبداع في بنية النصوص الأسطورية التي وجدت خصوصيتها في تفعيل الإبلاغ عن الحدث أو الحدوث بدلالة المكان الغير معين، ولم تتوقف عند جغرافية حدود الأمكنة( 19).
نرى أن هذا التعتيم الزماني والمكاني المتعمد له قيمته الجمالية القارة في بنية النصوص الأسطورية والملحمية من جهة تهويل وتضخيم الحدث والتفاصيل التي يكتنفها ليبقى في مجال المعنى الأسطوري اللامحدود.وتتمثل هذه الجمالية بما يمكن تسميته بمنطقة الفراغ، حيث ترك الأمر كي يشكله كل متلقي على حدة وفقا لمرجعياته الحضارية والأسطورية وما يتمتع به من خيال شخصي أو جمعي موروث. فمن المؤكد أن ما يضفيه المتلقي من أبعاد زمانية ومكانية لما جاء في بنية النصوص السومرية يكون مختلفا من زمان لآخر، ويؤكد هذا سعة الأبعاد التي اكتشفها الإنسان على مر العصور ،في سياق تطوره الحضاري، ولا زال يكتشفها، التي هي من الضخامة بمكان بحيث تذوب أمامها الأبعاد الزمانية والمكانية التي كانت مستعملة من قبل الأمم الغابرة (ومنهم العراقيون القدامى)، خصوصا بعد اكتشاف التمدد اللانهائي للكون والتوسع الذي يجري في كل آن بسرعة تفوق التصور. وهذه الميزة مما يضمن التأثير الأسطوري للنص على المتلقي الذي لا بد أن يترجمه وفقا لأبعاده الآنية الكبيرة بسبب ما يحمله النص ذاته من قرائن عامة وكلية توحي بهذه العظمة وهذه الضخامة التي يجب أن تتمتع بها كل من الأزمنة والأمكنة الوارد ذكرها في بنية الأساطير والملاحم السومرية.

نلاحظ الغنى والثراء الذاتي التي تتمتع به النصوص الأدبية لحضارة وادي الرافدين، سواء على مستوى الأساليب الفنية الناضجة أم على مستوى المضامين الإنسانية الخالدة. وملحمة كلكامش واحدة من النصوص الرائعة التي أتحفتنا بها تلك الحضارة الأصيلة. والملحمة ذات ملامح جمالية متقدمة ما فتىء الباحثون يشبعونها بحثا وتمحيصا لاستدرار كنوزها القيمة. فضلا عن كونها منجما معرفيا على جانب كبير من الأهمية جسدت لنا جوانب مهمة من حضارة شعوب وادي الرافدين، وصورت لنا تصويرا رائعا كثيرا من ثوابت تلك المجتمعات من أعراف وتقاليد ومعتقدات وأساطير وغيرها من التفاصيل المتنوعة التي عكست بصدق واقع تلك الشعوب وبالتالي فإنها تعد كنزا ثمينا ومعينا لا ينضب اعتمده دارسو تلك الحضارة للانتهال من رقراقه العذب والارتواء من كوثره الذي لا ينضب وهم في رحلة الكشف عن أسرار وخبايا حياة الأقوام التي أبدعت تلك الحضارة الخالدة والمسارات التي سلكها الإنسان في فهمه لنفسه ولعالمه ،حينئذ، ونوعية الثوابت والقواعد التي أقامها العقل البشري وتأسس وفقا لها ذلك الفهم…
مفهوم الملحمة وبناؤها الفني
أولا: ما الملحمة:
تعد الملاحم من العلامات الفارقة في ثقافات وحضارات الشعوب البسيطة، سواء المجتمعات القديمة منها أم القبائل البدائية المعاصرة، حيث كانت الحكاية ومغامرات الخيال تحظى باهتمام اكثر من الواقع والتاريخ، كل ذلك يحدث في أزمان تتلاشى فيها الحدود او المناطق الفاصلة بين الحقيقة والخيال.لقد غدت الملحمة من الظواهر العامة في هكذا بيئات بسبب من التناغم الموجود بين بنية الملحمة وبنية العقل الإنساني القديم والبدائي.
إن التفكير الأسطوري قد مكن تلك الحضارات من بناء منهج متفرد له القدرة على إلغاء التنافرات المتوقعة ما بين العقل والخيال. فكان ثمة تبرير أسطوري لوجود الآلهة وأفعالها والملائكة والشياطين، وإرجاع كل الأمور التي يستعصي تفسيرها على تلك العقلية البدائية الى قوى ميتافيزيقية ابتدعتها مخيلة الإنسان القديم لخلق نوع من التوازن بين تناقضات تجربته الغامضة (20).
وعلى العكس من الأسطورة فان الملحمة نتاج زمني يتحدد بالماضي ويتمحور حول أحداث حصلت سابقا ثم تأتي الملحمة لإلقاء الضوء على تلك الحوادث للتوفيق بين معانيها المتناقضة وخلق نوع من التوازن يعد حالة الاطمئنان في نفس المتلقي الذي يتابع تلك الوقائع بما لا يخرج عن التصورات الكلية والمعتقدات السائدة زمن تأليف الملحمة وليس زمن حدوثها. فالملحمة، اذا، وقائع مرت وانقضت ولكن ما يبتسر منها من معاني وعبر وإرشادات تبقى على درجة من الحيوية تواكب المجتمع الإنساني، أما الأسطورة فعي نتاج لا زمني تبقى وقائعها وأفعالها متجددة تحدث بشكل متواصل ومستمر مع الزمن.
فالملحمة نتاج نهائي بعد فترة من الاضطرابات والاختلالات الشديدة تهدف الملحمة الى تفسيرها. فهي تنشد أناشيد فترة مرت، مستعينة بتقاليد تلك الفترة وأشكالها الفنية ولكن افقها ينتمي إلى عصر تال لذلك العصر المظلم، وتهدف الى تفسير ما حدث في الماضي وكيف انتهى أثناء عصر عاصف ولد منه العصر الذي تنشد فيه الملحمة. كما ان لوحة دانتي الشاملة عن العصر الوسيط بمصطلحات رؤيا لا زمنية تقدم تبريرا لمخاض تاريخي طويل يقع ما بين روما فرجيل وفلورنسا دانتي. ولكن دافعه انبعث من الصراع العنيف في عصره. وقد فسر أصول الشر ليفسر لنفسه وللإنسانية ما حدث في صراعات فلورنسا الثورية المهزومة، منتحبا على فردوس مفقود( 21).
الملحمة في ابسط تعريفاتها : قصة بطولة تحكى شعرا، تحتوي على أفعال عجيبة، أي على حوادث خارقة للعادة، ويتجاور فيها الوصف مع الحوار وصور الشخصيات والخطب، ولكن تبقى الحكاية هي العنصر الرئيس الذي يسيطر على ما عداه. ولا تخلو هذه الحكاية من عوارض الأحداث والاستطرادات( 22).
وتتمتع الملحمة بقوة ايحائية كبيرة تتأسس على مخيلة اغرابية تتمظهر في قصيدة سردية تسهم في خلق عالم مغاير للعالم المألوف من حيث السعة والغرابة قادر على اخراج المتلقي من العالم الواقعي الى عالم جديد خيالي، واكثر ما تزدهر الملحمة في المجتمعات التي تتاثر شعوبها بالأساطير والأخيلة، ويفترض فيها تقادم الزمن على مضمون حكايتها ليتيسر تحليتها بالإعجاز والإغراب فيزخرفها القدم ويضفي عليها جوا من السحر العجيب. وتؤدي الملحمة وظيفتها في مساعدة الشعوب على تثبيت أوهامها وتخيلاتها، وترسخ الأحداث الفاصلة في تاريخها، وتخليد ذكرى الرجال الذين كان لهم فضل في منطلقاتها، وبذلك فهي تعمل على ربط الحاضر بالماضي، وتعين على يقظة الوعي في الجماعات، وعلى تقوية إحساسها بالديمومة زمنيا ومكانيا( 23).
ولأبطال الملحمة وحوادثها أصول تاريخية لكنها تختلط مع الأساطير والخرافات لذلك العهد الذي لم تقم فيه حدود فاصلة بين الحقائق والخيالات. ويبقى الفرد هو المحور في تلك المثل والنزعات التي تقوم عليها الحكاية( 24).
يوصف الشعر الملحمي بأنه شعر لا شخصي، لا ذاتي، لان الملاحم في معظمها ليست من انتاج شاعر معين وان نسبت الى شاعر بعينه، بل هي من إنتاج شعب او شعوب(كما في ملحمة كلكامش) قامت بتطويرها وأكسبتها من روحها الشيء الكثير. وتوصف الملاحم (بالسلسلة) حيث تتألف كل واحدة منها من مجموعة متسلسلة من القصص المغناة التي تعالج موضوعا واحدا، او فكرة رئيسة بأسلوب رمزي، ومركب عادة، كل جزء يكمل معنى الآخر، ولا يتحصل المعنى والتأثير إلا من العمل كله، حيث عادة هناك معنيان: ظاهر وباطن تبرزه الإحداث بطريقة المجاز المستمد من صور العالم الطبيعي والمشترك الاجتماعي في المعتقدات والعادات(نمط الحياة الاجتماعية) أو بأي أسلوب مغاير . فقد مرت الملاحم ـ قبل وصولها إلى صياغتها النهائية كما وصلتنا ـ بتغييرات كبيرة او طفيفة من حيث الصياغة اللغوية، ومن حيث ترابط الأجزاء مع بعضها، ومن حيث التغيير في الاطروحات الميثولوجية حسب انتقالها بين العصور، أو تغيير (البطل ـ الإله) من شعب إلى آخر( 25).
ثانيا: بين المأساة والملحمة:
تقوم الملحمة على المحاكاة عن طريق القصص شعرا، وهي تشترك في هذه الخاصية مع نوع أدبي آخر هو المأساة. لكنها تختلف عنها في أمر جوهري ، إذ أن الملحمة لا تعتمد تقديم الأحداث أمام النظارة بل تكتفي بروايتها، رغم أن الوحدة العضوية لازمة لكليهما بان يعتمدا محاكاة فعلا واحدا. لذا ينبغي للملاحم ((ألا تكون مشابهة للقصص التاريخية التي لا يراعى فيها فعل واحد، بل زمان واحد؛ أي جميع الأحداث التي وقعت طول ذلك الزمان لرجل واحد أو لعدة رجال، وهي حوادث لا يرتبط بعضها ببعض إلا عرضا)) ( 26). وتتسم الملحمة بان الوحدة فيها أوسع حدودا من المأساة ، كونها قصة لا تقدم للنظارة وبالتالي فإنها أطول من المأساة، وهي ميزة اتاحت للملحمة إمكانية تناول عدة أجزاء للفعل الواحد ، بينما تفتقر المأساة لهذه الخصيصة لأنها تقدم على المسرح،(( وهذه الميزة تؤدي إلى إضفاء الجلال على الأثر الفني، وتحقيق لذة التغيير عند السامع، وتنويع الأحداث الفرعية( الدخائل) المتباينة، لان المتشابه يولد السآمة بسرعة، ولذا كان السبب في سقوط بعض المآسي)) ( 27) . لذا فان الاستطراد وذكر العديد من الأمور العارضة هو مما يسهم في الارتفاع بالملحمة جماليا ، وهو أمر لا يصلح في المأساة لأنه يلحق افدح الأضرار بوحدتها.
وثمة فارق هام بين الملحمة والمأساة في المضمون إلى جانب الفروق الشكلية. وهو أن مجال العجائب أو الخوارق أوسع في الملحمة منه في المأساة( ). فإذا كان ممكنا الاستعانة في المأساة بالأمور العجيبة، فان الملحمة يمكن أن تذهب إلى حد الأمور غير المعقولة التي بها تصدر المعجزات، لأننا في الملحمة لا نرى الأشخاص أمام عيوننا يتحركون ، ثم أن الملحمة تسير على وفق العقائد الشائعة، ففيها بطبيعتها ما يبرر الأمور المستحيلة( 28)…
وللمأساة والملحمة نفس الأثر والغاية، ويشتركون في أمور كثيرة( 29): في الوحدة والحكاية والخلق والفكرة، ومحاكاة الأفاضل من الناس. ولكن المأساة أغنى أجزاء في اشتمالها على الموسيقى والمنظر المسرحي. وتمتاز المأساة كذلك بشدة الوضوح في القراءة وعند التمثيل. وهي ـ بعد ـ تستقل بنفسها عن التمثيل، فيجد القارىء فيها نفس المتعة بالقراءة وحدها كما في الملحمة.على أن أهم ميزة للمأساة هي تحقيق المحاكاة تحقيقا كاملا بمقدار اقل طولا واقل زمانا. والوحدة فيها اشد تماسكا من الملحمة، لقلة الحوادث العارضة بها ولأنها أقل في الطول.

ثالثا: البناء الفني للملاحم:
فضلا عما تقدم فقد حددت بنية الملحمة بجملة خصائص بارزة مشتركة بين الملاحم جميعا هي:
أولا: التنوع الهائل والتشعب في الموضوعات التي تعرض لها، وفي الأنساق السردية التي تشكل منها بنيتها مثل الأسطورة والحكاية والخرافة والقصص المتعلق بأعمال البطولة.
ثانيا: رغم الفرز في المعتقدات بين القوى الخارقية والقوى البشرية إلا أن الملحمة تكاد تقوم على وحدة هذه العناصر وتآزرها في الفعل وفي إبراز المعاني والدلالات.
ثالثا: على الرغم من أن الأحداث في الملحمة وأبطال الملحمة، قد يكون لهم وجود فعلي، إلا أن الملحمة تتجاوز الواقع وحقائق التاريخ لتصبح ( قصيدة تتضمن التاريخ) والبطل هو (الإنسان في التاريخ) أي؛ على وجه التحديد ليس رجلا معينا في لحظة معينة من لحظات التاريخ. وهو ما يتفق ووحدة الحياة الخاصة والعامة في تلك الأطوار من المجتمع القديم، والتي يستمد منها الشعر القديم طابعه؛ أي العلاقة المباشرة التي تربط بين الهوى الفردي المصور تصويرا واقعيا، وبين مشكلات الجماعة.
رابعا: وكما تقدم فان الملاحم توصف (بالسلسلة) وان الشعر الملحمي شعر لا شخصي لا ذاتي( 30).
خامسا: مشهد ناء من حيث الزمان والمكان مع حبكة بسيطة تتحدث عن أعمال بطل سامق العلو في ارتفاع قامته المعنوية ذي قوة جسمية وعقلية وشخصية تفوق البشر( 31).
سادسا: الطول؛ اذ تتميز الملاحم في الآداب كافة بالطول فتاتي الملحمة في آلاف الآبيات. من هنا يطلق بعض الباحثين الملحمة على كل قصيدة طويلة.
سابعا: الموضوعية؛ ان الشعر الملحمي شعر موضوعي وليس ذاتيا، وذلك لأننا لا نجد فيه (حتى في الملاحم التي ألفها شاعر معين) أثرا لشخصية الشاعر وصفاته. فهو لا يتحدث عن نفسه، وإنما عن غيره من البشر. على نقيض الشعر الغنائي الذي يقصر فيه الشاعر حديثه على نفسه.
ثامنا:فخامة الأسلوب؛ نظمت الملاحم القديمة بلغة رفيعة وأسلوب سام، فلا ضعف ولا ابتذال ولا ركاكة في لغتها( 32).
ملحمة كلكامش
تضاربت آراء الفلاسفة والمفكرين في إيجاد تعريف جامع مانع للإنسان. فاجتهدوا،كل في مجاله، ومن منطلق تصوراته وما يحمله من مرجعيات فكرية وعقائدية، كي يبدعوا كلاما موجزا معبرا عن حقيقة هذا الكائن المعجز في خلقته وتكوينه الوجداني والعقلي( ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تكوين). فطرحوا أمام افهام بني الإنسان، على مر الأجيال البشرية، عديد من التعاريف، كان أكثرها رواجا تعريف أرسطو الذي ينص على أن الإنسان حيوان ناطق. سواء كان المقصود بهذا النطق الكلام أم القدرة على التفكير المنطقي بما يشير إلى فرادة ما يتمتع به الإنسان من عقل خلاف كل الموجودات.
قد تكون للحيوانات لغة لا نفقها إذ لا بد لهم من وسيلة للتفاهم وهي لغة بأية حال جاءت، ثم إن العقل المجرد أو ملكة التفكير متوافرة عند جميع بني البشر الأصحاء ولم يمنع هذا من انحدار كثير منهم إلى درجة البهائم عديمة العقل ( الذي قد يكون أرسطو قصده بكلمة ناطق) بل حتى اوطا من تلك الدرجة، كما قال تعالى إن هم إلا كالأنعام بل أضل سبيلا.. هذه الإشارات قد تضفي نوع من التساؤلات المشروعة أمام تعريف أرسطو الذي يتسيد الساحة الآن والمتعارف عليه بين البشر ويكاد يكون مسلم به من معظمهم إن لم يكن جميعهم.
بامكاننا أن نستشف تعريفا مغايرا من بعض الأسفار البشرية الخالدة التي خلفها لنا أجدادنا الأول وفي الوقت نفسه يكون لهذا التعريف شانا عظيما في تاريخ البشرية ليخلد على مر الأزمان والعصور. حتى اتخذه بنو الإنسان نبراسا يقتدون به في مسيرتهم الحضارية، حيث اعتكف عليه حفظا ودراسة خيرة القوم وعليتهم من علماء وملوك وكهنة، فضلا عن القدسية التي أضفتها عليه عامة الناس من الشعوب المتعاقبة.
لقد كانت هذه الملحمة عبارة عن أسفار متواصلة بحثا عن أغلى شيء في الوجود، إنها رحلة البحث عن الحقيقة ليس البحث المجرد بما يقرب من الترف الفكري الذي يتلذذ به الكثيرون بل ويدعون به ويتباهون، وهم سادرون في غيهم وفي باطلهم، بل إنها مغامرات وأسفار يدفع فيها المرء روحه قربانا في أي آن ، انه جهاد مبارك للاعتلاء بمعنى الإنسان وجوهر الإنسان وجعله ناصعا كالثلج تتفجر منه الأنوار لتضيء دربه ودروب الآخرين نحو الفضيلة والحق والخير والجمال ،انه جهاد البحث عن الحقيقة ليس فقط لإدراكها والعلم المجرد بها وإنما إدمان الجهاد الرباني للعمل بها نصرة للحق وإعلاء راية العدالة والفضيلة ….
نعم؛ هذه هي ملحمة كلكامش التي دخلت الخلود من أوسع أبوابه، إنها تنبؤنا بلسان حالها إن الإنسان كائن باحث عن الحقيقة ليعتنقها ويحيى بموجبها ليكون هو كذلك حقيقة ، وعندها،فقط، يصبح بامكانه أن يتغلب على الموت لأنه حقيقة والحقيقة لا تموت .
لم يكن كلكامش هذا الإنسان الجليل ليخشى من الموت الجسدي أو البايلوجي وهو الموت الذي يعرفه ويتعايش معه حتى الإنسان الاعتيادي ، ولكن من كان ثلثاه اله ، من رأى الأعماق، الذي عرف كل شيء لا بد انه قد عرف ان ثمة موت آخر أعظم واجل واخطر واشد مرارة وخسارة من الموت الجسدي، موت يستأهل المغامرة بالروح من اجل تلافيه والتغلب عليه.
لقد كانت ملحمة كلكامش لأنه عرف كل شيء فسلك تلك المسالك المتعالية لان معرفته متعالية وانه لا يوجد (شيء) في الكون أعلى وأغلى من (كل شيء)، وإذ المعرفة أساس السلوك، فالمتعالي يقود إلى المتعالي، ومن لا يعرف لا يسلك.انها ملحمة البحث عن مفاتيح أسطورية تفك بها طلسمات العالم الأكبر الذي هو الإنسان؛ الحقيقة.
لم تكن ملحمة كلكامش مجرد قصة مغامرات، بل مثلت مع الطوفان، وعشتار، ومأساة تموز، وايتانا، وادبا، (الرمز) الدائم لذلك الكائن على ارض سومر وعلى كل ارض. الباحث أبدا عن سر الحياة. فكل هذه المسميات، هي(ادوار)، مرت عبر الواقع المتحرك نحو التاريخ. التاريخ الذي احتضنها محيلا إياها إلى نصوص أسطورية( 33).
لقد اجتمع لملحمة كلكامش كثير من الصفات الجليلة ليثار حولها ذلك الاهتمام النظري الكبير من الناس بمختلف أصنافهم.فهي أقدم نوع من أدب الملاحم في تاريخ جميع الحضارات إذ كتبت قبل ملاحم هوميروس بأكثر من ألف عام، ثم هي أطول وأكمل ملحمة عرفتها حضارات العالم القديم. ورغم أنها قد دونت قبل 4000 آلاف عام وترجع حقبة حوادثها إلى أزمان أخرى بعيدة، إلا أنها ما تزال خالدة وذات جاذبية إنسانية في جميع الأزمنة والأمكنة، لان القضايا التي أثارتها وعالجتها لا تزال تشغل بال الإنسان وتفكيره وتؤثر في حياته العاطفية والفكرية مما جعل مواقفها مثيرة تأسر القلوب. وبسبب تعدد نسخ الملحمة العائدة لأزمنة مختلفة فانه بالامكان متابعة تطور نص هذه الملحمة عبر عصور التي مرت فيها من أكدية وبابلية وآشورية( 34).
وبالمفهوم الحديث المحدد لكلمة((أدب)) فان أعظم، وبالتأكيد، أطول تأليف أكدي هو ملحمة كلكامش التي تسمى بالاكدية باسم السطر الأول منها (( شي نقب إمر)) أي((الذي رأى العمق))، وقد سميت هذه القصة ملحمة لا أسطورة نظرا لان المساهمين فيها هم من البشر أكثر من كونهم من الآلهة( 35).
لقد ترجمت الملحمة من البابلية إلى لغات قديمة كالحثية والخورية وانتشرت نسخ عديدة منها في أنحاء واسعة من الشرق القديم. ومما زاد في روعتها أنها تتناول موضوعا إنسانيا محضا وتتعامل مع أشياء من عالمنا الدنيوي مثل الإنسان والطبيعة، والحب والمغامرة، والألفة والصداقة والصراع لتكون منها جميعا فصولا تمهيدية لموضوع الملحمة الرئيس ألا وهو حقيقة الموت المطلقة( ).
حقيقة الملحمة وجذورها:
في دار كتب الملك الآشوري(آشور بانيبال 668 ـ 626 ق.م) تم العثور على ألواح طينية تمثل آخر وأحدث نسخ لنصوص ملحمة كلكامش ، جاءت إلينا من القرن السابع ق.م، وهو العهد الذي يرجع إليه القسم الأعظم من نصوصها. وهي تتألف من اثني عشر لوحا، ينقسم كل منها ،تقريبا، إلى ستة حقول ( خانات) ويحتوي كل لوح منها على نحو 300 سطرا، باستثناء اللوح الثاني عشر الذي يتضمن نصف هذا المقدار، وهو اللوح الذي يعتقد انه لا صلة له بحوادث الملحمة( 36).
كما هي حال الأساطير والملاحم القديمة فقد كان لملحمة جلجامش جذر حقيقي هو الأصل الذي تطورت عنه إلى أسطورة فملحمة. ثم تكاملت مع الزمن ، فكانت تشهد في كل عصر شيئا من النضوج ، حتى تطورت تدريجيا إلى صورتها التي وصلت إلينا، ليمثل اكتمالها استجابة لرغبة جمعية لدى الشعب تجسد فيها المنهجين الادراكي والتعبيري لمجتمعات العصور القديمة، بينت من خلالها ، بما يتناسب ومعارفها وعلومها، طريقة تعاملها مع عالمها وثوابتها. وما ابتدعته من حقائق ميتافيزيقية يتحدد وفقا لها الكيفية التي تدرك بها واقعها وطريقة تعاملها مع القوى المؤثرة فيه . لقد جاء ميلاد الملحمة لملء الفراغ الذي خلقته الدهشة المزمنة المستوطنة في عقل ذلك الإنسان وهو يبحث عن إجابات مقنعة لتساؤلات أزلية تنخر في روحه وتنتظر منه تلك الروح أن يحث خطاه ليبتدع لها ما يسكن جرحها ويزرع فيها عطر الاطمئنان، بعد أن يروض المجهول المخيف ويحفزها للتوافق مع ما كانت تدركه من نواميس كونية ويعيدها من جديد تحيا في تناغم جمالي مع القوى الفاعلة في الحياة والتالف مع الوجود بكافة مكوناته.
لقد بنيت ملحمة كلكامش على أقاصيص أقدم منها، غير أن تلك الأقاصيص أعيد سبكها في قالب جديد وجمعت حول موضوع جديد، هو موضوع الموت( 37).
كانت الملحمة على درجة من الطول تعذر كتابتها على لوح طيني واحد، فاحتاجت، لتدوينها، اثني عشر لوحا، ثم اتبع منهج محدد في هذا التدوين بان يذكر في نهاية كل لوح من ألواحها السطر الذي يبدأ به اللوح التالي مع تثبيت عنوان السلسلة العام على كل لوح من ألواحها مع تثبيت رقم تسلسله. وهكذا(( كانت كل مجموعة من سلاسل النصوص الأدبية تحفظ في أوعية من الجرار أو الخشب أو السلال وتوضع على رفوف؛ ويعلق كل مجموعة عنوان السلسلة (38) الذي يسجل في بطاقة أو لوح صغير من الطين)) ( 39).
وبخصوص أجزاء الملحمة؛ فيرى بعض الباحثين أن الملحمة تكاد تكون نوعا من التوليف والجمع بين عدة أجزاء ذات مغزى ووقائع مختلفة، وان كانت الصيغة التي وصلتنا من الملحمة ذات وحدة عضوية ناضجة من حيث شروط نوعها الأدبي المتمثل بفن القصة.فمن الأجزاء المهمة التي تتألف منها الملحمة هي القصص المتعلقة بأعمال جلجامش ومغامراته البطولية صاحبه انكيدو، وقسم آخر مهم يتعرض لخبر الطوفان ، وقد خصص له اللوح الحادي عشر من ألواح الملحمة الاثني عشر. أما القسم الثالث من الملحمة فهو ما تضمنه اللوح الثاني عشر منها الذي يتضمن وصف العالم الأسفل أو عالم الأرواح كما شاهده انكيدو( 40). وثمة توافق يجري بين معظم الدارسين بان اللوح الأخير الذي يعرض لذكر العالم الأسفل قد أقحم على الملحمة إقحاما إذ لا علاقة له بسياق الملحمة ولا بموضوعها العام،بينما يرى آخرون ، ومنهم ليو اوبنهايم في كتابه(بلاد ما بين النهرين) ، إمكانية أن يكون ما جاء في هذا اللوح بمثابة جزءا اصليا من الملحمة لوجود ارتباط بينه وبين حجم الملحمة( 41).
ثلثاه إله، وثلثه بشر…. هكذا تبدأ الملحمة بتقديم وصف رائع لكلكامش الذي هو من نسل الآلهة التي أنعمت عليه بالقوة والجمال والحكمة وغيرها من النعم العظيمة..ثم تشرع بذكر باقي التفاصيل والقصص التي أبرزها الرحلات والمغامرات التي تتعلق بكلكامش سواء التي قام بها بمفرده أو مع صديقه انكيدو أو التي له صلة بإنجازها، مثل قصة البغي وانكيدو وما قامت به من مجهود لترويضه وجعله مؤهلا لعالم المدينة والتحضر بعد انتشاله من عالم البرية وانتزاعه من معاشرة الوحوش. والصراع الذي حصل بين كلكامش وانكيدو وكيف انتهى بصداقة عظيمة بينهما. ثم الرحلة التي قام بها كل من كلكامش وانكيدو سوية إلى غابة الأرز لقتل العفريت خمبابا، والمجادلة التي جرت بين عشتار وكلكامش حين عرضت عليه أن يتزوجها، وقصة الثور السماوي الذي ساهمت عشتار في إرساله لمقاتلة كلكامش بسبب رفضه عرضها بالزواج منه بعد أن نعتها بأقسى الصفات المزرية وكيف اشتركا (كلكامش وانكيدو) في مقاتلة الثور السماوي وقتله، ثم مأساة موت انكيدو والحزن الأسطوري الذي تملك كلكامش أسفا على فقدان صديقه الأمين، وما يتخلخل هذه المأساة من مراثي، وبعدها الرحلة التي قام بها كلكامش بمفرده بحثا عن الخلود.
يرى دياكونوف ان الملحمة، من الناحية الأدبية، تثير الإعجاب ببنائها التكويني الذي يخضع لفكرة واحدة، وان كانت، كما يرى، تبدو وكأنها مؤلفة من قصص منفرد بعضها عن بعض( ). فرغم أن لكل قصة من قصص الملحمة نظامها الزمني محددا بالمكان وتتالي الإحداث، إلا أنها ترتبط ببعضها ارتباطا وثيقا على صعيد البنية العامة للملحمة، حيث تبدو الوحدات السردية التي تحتوي تلك القصص كنوع من التحولات المؤدية إلى تحول أساسي مباشر هو فكرة الموت والخلود( 42).
لم يكن أمام نص بهذا العمق العقائدي ، كملحمة كلكامش‘ إلا الانشغال بالمحاور الأساسية التي استوطنت الفكر الإنساني وسببت له قلقا أزليا منذ أن وجد على ارض البسيطة، انه توقه الأزلي لان يعرف الأصل الذي جاء منه وما الذي ينبغي له أن يفعله في الفترة الزمنية الممنوحة له ( العمر) وبأي منهج يفعله، وعن المصير الغامض الذي ينتظره حين انتهاء عمره الزمني ونزول الموت عليه. حتى ان البشرية قد لخصت تلك التساؤلات في أسئلة أسطورية ثلاث تمثلت في: من أين وكيف والى أين….
من هنا نرى أن فراس السواح يذهب إلى أن الملحمة الرافدينية قد تكفلت برسم اصل الإنسان وتحديد علاقته بالآلهة ودوره في الحياة( 43)؛فلقد تم خلق الإنسان، منذ البداية، لغرض واحد هو خدمة الآلهة ورفع العبء عنها. والعلاقة بين الطرفين كانت وتبقى أبدا علاقة السيد بالعبد، والرابطة الوحيدة بين الأرض والسماء هي رابطة الشعائر والطقوس. الآلهة خالدة، أما الإنسان ففان، والخط الفاصل بين العالمين حاد وحاسم، لا يعطي أملا للإنسان حتى مجرد التفكير بالخلاص من شرطه الأرضي والالتحاق بالعوالم القدسية بعد فناء جسده وإنهاء كدحه على الأرض، أو تبديل عالمه وتحويله إلى عالم أفضل. هذا ما نستشفه من فحوى الخطاب التي وجهت فتاة الحانة إلى كلكامش الباحث عن الخلود( 44):
إلى أين تمضي يا كلكامش؟
والى أين تسعى بك القدم؟
الحياة التي تبحث عنها لن تجدها؛
لان الآلهة لما خلقت البشر
جعلت الموت لهم نصيبا
وحبست في أيديها الحياة.
وأما أنت يا كلكامش فاملأ بطنك
وافرح ليلك ونهارك.
اجعل من كل يوم عيدا؛
وارقص لاهيا في الليل والنهار.
اخطر بثياب نظيفة زاهية.
اغسل راسك وتحمم بالمياه.
دلل صغيرك الذي يمسك بيدك
اسعد زوجك بين أحضانك.
هذا نصيب البشر…
ومن المؤكد أن كلكامش الحكيم الفاضل لم يكن ليستكين لهذه الأفكار منذ البدء بدليل الرحلات الأسطورية المدمرة التي قام بها ، فضلا عن أن هذا الكلام لم يصدر إلا عن فتاة الحان من منطلق انغماسها في مطالب الحياة الدنيا ولم يكن لكلامها من قيمة معرفية تذكر إلا في الاتجاه المضاد للحكمة بما يفتر العزيمة ويضعف الإرادة والطموح.
إن عظمة ملحمة كملكامش وخلود الأفكار التي اكتنفتها قد دفع بالبعض إلى أن يضفي عليها نوعا من المكانة المضاعفة وعدم الاكتفاء بأنها ملحمة أسطورية فقط ، والتساؤل فيما إذا كانت هذه الملحمة بمثابة الكتاب المقدس لحضارة وادي الرافدين آنذاك، وقد أدرجت عدة أدلة للدلالة على هذه القدسية، منه( 45):
أولا: زمن ولادة الملحمة ونضجها؛ إن الزمن البعيد الذي تحركت عبره الملحمة شفاها قد منحها قدسية معينة في ذات الفرد الرافديني، مما جعله يحافظ بل يدافع عن مكوناتها وبناها الفكرية والقدسية إلى وقت تدوينها، أو ربما كانت بنية الحفاظ هذه تعبيرا عن فرض طقوسي مارسه الفرد الرافديني آنذاك.
ثانيا: غياب مرسل الملحمة؛ إن غياب المرسل بالتحديد قد أثار إشكالية فكرية عند المتلقي الرافديني. فقد دفعه هذا الغياب، فقد دفعه هذا الغياب (خصوصا بعد تعرفه على المعجز الأسطوري للمدونة ودلالتها، فضلا عن تدخل الآلهة في صنع أحداثها) لان يحيلها إلى موقع متميز من تفكيره واهتماماته، التي تحولت، بمجمل هذه المؤثرات إلى سلوك وتصرف اخذ شكله الاعتيادي والطقوسي على صعيد حياته.ولو فرضنا أن المرسل كان (معلوما) فانه لا يمكن أن يكون غير(آدمي) وبهذا فان أي مدونة تمثل هذا المبنى لن تكون غير حدث لا يرتقي إلى ما حققته(ملحمة كلكامش) على مستوى التأثير الفكري والاعتقادي، كذلك لن تكون أكثر من حكاية لا تصلح سوى للأماسي والمجالس لا أكثر.
ثالثا: انشغال الشعوب والحضارات الأخرى بالملحمة؛ إن اغلب الشعوب والحضارات الأخرى المجاورة لحضارة وادي الرافدين قد تعاملت مع (ملحمة كلكامش) خاصة، باهتمام يلفت النظر، إذ نراها تقوم بنقلها إلى شعوبها وبلغة الملحمة( البابلية والآشورية) مرة، ومرة أخرى تقوم بترجمتها إلى لغاتها الخاصة بها().وهذا الاهتمام يوحي بقدسية الملحمة وأنها ليست ، فقط، تراث وطني وقومي لحضارة وادي الرافدين.
رابعا: أهمية المواقع التي عثر فيها على ألواح الملحمة؛ إن اغلب ألواح الملحمة قد عثر عليها في مواقع مهمة، مثل(القصور الملكية والمعابد) وهذا دليل آخر على مكانة المدونة، سواء عند أبناء الرافدين أو الحضارات الأخرى، التي حرصت على اقتناء نسخ منها.
وبعد؛ فليس من الغريب أن تكون ملحمة كلكامش ـ المدونة ـ ( الوثيقة المقدسة الوضعية) مثل ماهي: الفيدرا البوذية، كتاب التحولات الصينية، وتعاليم يوكونفوشيوس، وببول فوه، الكتاب المقدس لقبائل الكيتشي ـ مايا.
قضايا الملحمة وأهميتها:
على الرغم من أن ملحمة كلكامش قد دونت قبل( 400) عام،وترجع بقية حوادثها إلى أزمان ابعد، إلا أنها، حالها حال الآداب العالمية الشهيرة، ما تزال خالدة وذات جاذبية إنسانية في جميع الأزمان والأمكنة، لان القضايا التي أثارتها وعالجتها لا تزال تشغل بال الإنسان وتفكيره وتؤثر في حياته العاطفية والفكرية، مما جعل مواقفها مثيرة تأسر القلوب.حيث عالجت قضايا إنسانية عامة، مثل مشكلة الحياة والموت، وما بعد الموت، ومثلت تمثيلا بارعا مؤثرا ذلك الصراع الأزلي بين الموت والفناء المقدرين وبين إرادة الإنسان المغلوبة المقهورة في محاولاتها التشبث بالوجود والبقاء والسعي وراء وسيلة للخلود.أي إنها تمثل هذه (التراجيدي) الإنسانية العامة المكررة( 46).

إن ما تضمنته ملحمة كلكامش من مفاهيم إنسانية خالدة وما اشتملت عليه من العناصر الجمالية(المسرحية) الرائعة التي أضفت عليها نوعا من الفرازة في سياق الأدب البابلي، هي التي منحتها هذا الاهتمام والعناية الفائقة من قبل المجتمعات البشرية قديما وحديثا( 47). لقد كان المنهج المتبع في ملحمة كلكامش بمثابة خروج ثوري جريء على الأساليب التي كانت سائدة آنذاك من حيث المضامين المنسجمة مع العقائد المهيمنة على الإنسان البابلي في حينها. لقد كان متعارفا عليه في القصص الأدبي البابلي إن الآلهة وشؤونها هي كانت العنصر المهيمن فيه، وهي،أي الآلهة التي تؤدي الدور الأهم في الحكايات وليس أمام البشر،إن وجدوا فيها، إلا تأدية الأدوار الثانوية بآلية رتيبة تتكرر في كل حادثة. وفي ملحمة كلكامش حصل شرخ كبير لهذه القيم المجحفة للإنسان وقواه الروحية والفكرية؛ فنرى أن العنصر الفاعل في أحداث الملحمة هو الإنسان الذي كان مغيبا من قبل وليس له إلا أن يكون تابعا ذليلا للأحداث لا يملك قابلية الفعل أو التغيير. هنا تبزغ شمس الوعي والحكمة وقوة الإرادة والقدرة على العطاء والاستعلاء على الحياة البهيمية التي سبق لفتاة الحان أن نصحت كلكامش أن يلتزمها ويحيا وفقا لطبيعتها. انه أشبه بالتمرد المجيد على المصير البائس الذي خط للإنسان الفاقد للوعي ونور البصيرة. هنا في ملحمة كلكامش قد انقلبت الصورة؛ فبطلها هو كلكامش الإنسان الذي يحب ويبغض، ويفرح ويبكي، يكافح وعجز، يأمل وييأس، أما الآلهة وتحركاتهم فتؤلف خلفية لتحركات البطل وتطلعاته التي تتمثل فيها تطلعات الإنسان في كل زمان ومكان. من هنا كان الأثر الكبير للملحمة سواء على الآداب القديمة من حيث الثورة التي أحدثتها في المنهج الفني، ام على المتلقي الحديث المنبهر بإحداثها وعمق ماساتها.
والى جانب هذا التأثير الذي مارسته الملحمة على آداب الحضارات القديمة فان لها أهمية عظمى في مجال آخر؛ إذ تعكس لنا مشاعر العراقي القديم وعقليته ونفسيته وحياته واتصالاته وحتى معرفته بما يحيط به من أقطار ( 48).
إن الموت وكيفية التغلب عليه هو الموضوع أو الفكرة الأساسية التي انشغلت به الملحمة والمحور الذي استقطب تفاصيلها الفرعية( 49). إن الآلهة، كما جاء في الملحمة، قد استأثرت بالخلود وقدرت الموت من نصيب البشرية، لذا فقد كان من أهداف الملحمة البرهنة بأسلوب مؤثر على حتمية الموت على البشر حتى بالنسبة إلى بطل مثل كلكامش الذي ثلثاه من مادة الآلهة الخالدة وثلثه الباقي من مادة البشر الفانية. لكن المسالة لا تنتهي بمجرد البرهنة على حتمية الموت بالنسبة للبشر، فالإنسان قد أصبح على درجة من الوعي وتوفر له من الأبعاد المعرفية التي أعانته على كشف مغاليق نفسه ما لم يتوفر لأسلافه؛ وهنا لم ييأس الإنسان ولم يعد باستطاعته الاقتناع،بهذه البساطة، بان الموت سيكون نهاية حتمية للوجود العظيم الذي أبصره في قرارة نفسه بسلاح الوعي والمعرفة. فهذا الموت الذي برهن عليه ليس إلا موتا جسديا بايلوجيا، ولكن ثمة شيء آخر في الإنسان يأبى الاستسلام للموت انه توق أزلي للخلود والبقاء قد تفجر في كيان الإنسان تلهبه جذوة روحية ليس لاي قوة او فكرة القدرة على إخمادها. فبعد أن آمن الإنسان بهذا الموت السطحي ، نراه قد عاد يسال من جديد، وبإصرار لا يلين على معرفة الجواب الحق: إذا كان الموت محتما وإذا تعذر على الإنسان نوال الحياة الخالدة، فما ينبغي على الفرد أن يسلك في هذه الحياة؟ انه سؤال أخلاقي عظيم تتوقف على إجابته نوعية الحياة الإنسانية برمتها… لقد كان للإنسان الرافديني ،آنذاك،قبل أربعة آلاف عام،عقائده الدينية وأحواله الاجتماعية المهيمنة ، ولم تكن الملحمة لتضع حلولا لتلك الأسئلة العظيمة من دون أن تأخذ تلك المهيمنات في حسبانها كي تأتي الحلول منسجمة معها.لقد انتهت الملحمة إلى الكشف عما يحقق الخلود لبني آدم وفقا لم كان سائدا حينها من عقائد؛ أيها الإنسان، إن الإقبال على هذه الحياة واستغلالها إلى أقصى حدود الاستغلال الفردي وإنجاز الأعمال العظيمة الخيرة هو الوسيلة الوحيدة القادرة على منحك الخلود.
إن الملحمة على جانب كبير من الأهمية في تصويرها لنا تصويرا مؤثرا جوانب مهمة من حضارة وادي الرافدين، فهي لدارس هذه الحضارة منجم زاخر لاستقاء أوجه ومقومات أساسية لأحوال العراق القديم، كعقائد القوم الدينية وآلهتهم وآرائهم في الحياة والكون وأحوالهم الاجتماعية وجوانب مثيرة من حياتهم العاطفية وعلاقاتهم الاجتماعية وتركيب أقدم مجتمع متحضر في تاريخ العمران البشري. كما نجد صورة ممثلة عن البداوة المتاخمة لحضارة وادي الرافدين وكيفية تدرجها ودخولها في حظيرة تلك الحضارة، وفضائل هذه الحضارة ورذائلها، ونعني بهذه الصورة سيرة بطل الملحمة الثاني وهو انكيدو صاحب كلكامش.
بالإضافة إلى تلك الأمور، نرى في الملحمة أوضاعا اجتماعية( ) مثل؛ التطيب بالعطور عند الرجال والنساء، ونقرا عن لبس الحلل الجديدة في الأعياد، ونسمع عن قوة القدر التي لا تغلب والذي يقدر، حسب قول الملحمة، على المرء منذ أن يولد ويقطع حبل سرته( دليل قطع علاقته مع العالم الذي أتى منه). ونرى ان ذكر قوس انشان( الواقعة إلى الشرق بين حسين آباد وكرمنشاه وربما تللي ماليان إلى الشمال من برسوبوليس)، والتي تدل على علاقات مع هذه المنطقة جلبوا نتيجتها منها الأقواس فيما جلبوا.ونجد في الملحمة شيئا عن نزول الأرباب إلى مستوى البشر؛ حين نقرا كون( ننسون) أما لكلكامش، وعن عرض عشتار الزواج من كلكامش. كما نقرا في الملحمة عن طبقات العاملات في المعبد والعالم السفلي كما تصوره العراقيون القدماء، وما يلقاه الميت لدى دخوله، وشكل عفريت الموت وآلام الاحتضار كما تخيلها العراقي القديم.
فضلا عن تلك القضايا نجد أن الملحمة تزخر بصور رائعة لمواضيع إنسانية حساسة؛ فهناك الحب والصداقة والبغض والحقد والأماني والحنين إلى الذكريات والبطولة والرجولة والمغامرات والرثاء. ولعل ابلغ رثاء في تاريخ الحب والصداقة نجده في رثاء كلكامش المؤثر لصديقه وخله( انكيدو) وبكائه عليه( 50).
رغم الجهود العظيمة التي بذلت في الملحمة لإقناع إنسانها بإجابات عادلة عن؛ من أين وكيف والى أين؛ تلك الأسئلة الأسطورية التي خلقت عنده قلقا وجوديا مزمنا إلا أن الملحمة لا تنتهي إلى خاتمة منسجمة( 51)، بل تبقى عواطفها في احتدام. وليس فيها أي شعور بالتطهير ـ الكثارتس ـ كما في المأساة، أو أي قبول أساسي لما لا مرد له. إنها نهاية شامتة، بائسة، لا تشفي الغليل. فيظل اضطرابها الداخلي في غليان، ويظل سؤالها الحيوي بلا جواب.
احتمالات تأليف الملحمة:
يرى الباحثون أن أول تدوين للملحمة البابلية كان في العصر البابلي القديم في حدود 200 ـ 1600 ق.م وأنها صارت بشكلها النهائي المعروف حاليا في الفترة 1500 ـ 1250 ق.م. لقد تم العثور على ملحمة كلكامش ضمن المؤلفات المحفوظة في مكتبة آشور بانيبال في نينوى. كما عثر في مدن أخرى على بعض رقم الطين التي تحتوي على أجزاء منها. والملحمة تعود إلى أصول سومرية قديمة تتمثل في مجموعة من القصص السومرية التي تدور حوادثها حول مآثر كلكامش (52).أي أن الملحمة مؤلفة من عدة قطع وأجزاء تدور حول أعمال وحوادث مختلفة،فهي اقرب ما تكون إلى الجمع الأدبي.
شكلت الكتابة الأولى لهذه القصص المرحلة الأولى من عملية الجمع والتدوين لما عرف فيما بعد بملحمة كلكامش( 53)، ويرجع زمن هذا التدوين الأول إلى نهاية الألف الثالث قبل الميلاد. وفي العصر البابلي القديم وربما زمن حمورابي أي في حدود)1800) تمت مرحلة التدوين الثانية حين استطاع الأدباء، آنذاك، من نسج تلك القصص المتفرقة في قطعة أدبية محبوكة ومتجانسة. واستطاعوا أن يجعلوا منها ملحمة ذات طابع إنساني تدور حول مشكلة الإنسان وتشبثه بخلود مستحيل. وفي العصر الكشي في حدود 1250 ق.م أنجزت المرحلة الثالثة من مراحل تدوين الملحمة من دون أن تحدث تغييرات أساسية على الخطوط العامة للملحمة، إلا في حدود التعديل والإضافات الجانبية. وهناك من يعتقد أن قصة الطوفان التي تناولها اللوح الحادي عشر من الملحمة ربما جرى ضمها إلى الملحمة في هذا العصر.
من الضرورة بمكان أن نعرض في هذا المقام لذكر قاعدة عامة كانت سارية المفعول في مسالة التأليف والمؤلفين في حضارة وادي الرافدين( 54)، وهي انه يندر،في الحضارات القديمة، ذكر اسم مؤلف القطعة الأدبية ، على العكس مما كان شائعا في الأدبين الإغريقي واللاتيني.أما إذا جاءتنا بعض النصوص الأدبية وهي مذيلة بأسماء بعض الأعلام، كما هو الحال في بعض مجاميع مكتبة آشور بنيبال الشهيرة، فالغالب على هؤلاء الأشخاص أنهم من النساخ (55). وهذه الظاهرة يمكن أن تصلح علة ومعلولا، حسب زاوية النظر، للمبدأ القائل؛ أن معظم النصوص الأدبية السومرية قد انحدرت عن التراث الشعبي لمجتمعات تلك الحضارة ثم أخذت في النضوج مع الزمن حيث شاركت في إبداعها أجيال من الشعراء والمنشدين والقصاصين، ولم يتفرد في إنتاجها أديب أو شاعر واحد.
وقد نشأت، على خلفية غياب المرسل عن النصوص الملحمية، عدة آراء استنتاجا من أو تأكيدا لهذه الظاهرة( 56)؛ فذهبت الحركة الرومانتيكية إلى أن الملاحم نتاج تلقائي غير تأملي وغير واع لشعب خلاق، ولا شان لها بالشاعر المنفرد، وهناك من رأى أن الملحمة قد نمت كما ينمو النبات، أي إنها (الفت) نفسها… وقد اعترض البعض على هذه الاستنتاجات لصعوبة الاقتناع بوجود تراث يستطيع أن ينتج حكاية ـ ملحمة طويلة متجانسة، من دون وجود شاعر خلاق يعمد إلى صياغتها بصورة واعية. فلا بد من شاعر بهذه الصفة ينتفع من المادة ويسكبها في سيرة بطولية أو أية صيغة أخرى. ففي ملحمة كلكامش نستشعر منذ البدء بان هناك راويا يتحدث عن (غائب) يسميه(هو الذي رأى كل شيء)؛ لكن هذا الراوي ما يلبث أن يتخلى عن دوره للقاص والمؤلف، أي هناك تداخل بين الراوي والقاص والمؤلف في أداء السرد القصصي.
إن ثمة ضرورة دلالية يحققها غياب المرسل عن متون بعض المدونات من جهة استكمال المعنى الدلالي للمدونة وتحقيق حضوره على وفق الغياب هذا( 57)، فهو غياب قائم على مبدأ القصدية المسبقة، وليس غيابا اعتباطيا، بما يعني أن وراء غياب كهذا دلالات معينة ومحددة الفعالية سلفا أيضا. كذلك ليس مفارقا أن تخلو ملحمة كلكامش من مؤلف محدد لها، بل إن غيابه حملها دلالات ذات غايات وظيفية، وبالتحديد عندما انحصرت تلك الدلالات في المنطق اللاهوتي والموت والخلود، والموضوعات التي شغلت الإنسان وتفكيره التي أثارت فيه الكثير من الأسئلة والمشكلات الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والإيديولوجية والحضارية. ولكي تتحرك هذه الدلالات أو الثغرات داخل بنية المجتمع، محققة أهدافها على المستوى الجمعي لسكان وادي الرافدين، فلا بد من أن تكون المدونة(الملحمة) ذات معجز أسطوري، وقد تحقق هذا من خلال ما قام به يطل الملحمة من أعمال أسطورية. أما المنطق الثاني للملحمة؛ فلا بد ان تكون الملحمة معرفة (بالمرسل)، ذلك لان الإنسان تواق، بل ربما لا يتفاعل مع المرسل الذي لا تتحقق فيه شروط التأثير الفردي والجماعي. أي فيما لو كان المرسل من الآدميين، فانه سوف لن يعبر بالضرورة إلا عن وجهة نظره بالتحديد، أو عن رأي الجماعة التي ينتمي لها بالكثير، وبهذا ستكون رسالته غير ملزمة التنفيذ أو التمثيل لدى الجميع. لكننا نرى أن (ملحمة كلكامش) عكس كل هذا، فقد حققت مؤثرها الدلالي بغياب المرسل.
ان ملحمة كلكامش، كما الملاحم الأخرى، ابتدأت فنا جماعيا بدائيا منحدرة عن ملحمة شعبية قامت على صيغ سحرية وقصص وأقوال تنبؤية وصلوات وتعاويذ وأناشيد الحرب والعمل، ثم،في مرحلة لاحقة، أعيد سبك أقاصيصها هذه وما رافقها من مكونات أخرى في قالب جديد، وجمعت حول موضوع جديد، هو موضوع الموت( ). وقد تم هذا تحت عاملين(58 ):
الأول: الفترات الطويلة التي مرت بها من التطور والتغير قبل أن تستقر في شكلها الأخير كما وصلنا. إذ خضع النص بشكل من الأشكال إلى رؤيا الشعب أو الشعوب المنتجة لها(سومرية،أكدية،بابلية،آشورية)تجاه العالم والأشياء. رغم إمكان القول أن (المؤلف) الذي استقر النص على يديه في شكله النهائي، كانت له فعالية في توجيه النص؛بالحذف او الزيادة أو التغيير في هذه العبارة أو تلك أو بالتأخير والتقديم…الخ.
الثاني: عندما طرا تغير تام على الوظيفة الاجتماعية للشعر والمركز الثقافي للشاعر؛ بداية العصر البطولي حيث مالت الطبقة العليا ذات النزعة الحربية في ممالك يقوم وجودها بالضرورة على حرب لان تنظر إلى الحياة بطريقة دنيوية فردية مما فرض على الشعر مضمونا حديثا وجعل للشاعر مهام جديدة، وبات الشعر في العصر البطولي أغنيات فردية عن مصير الأفراد، وكان على الشاعر أن ينشد فيهم المدائح وان ينوه بأسمائهم وينشر أمجادهم ويخلد ذكرهم… وباعتبار هذا، يرى كثير من الباحثين أن ملحمة كلكامش كانت مخصصة للإنشاد والتراتيل الاحتفالية رغم أننا لا نعرف في أي مجلس أو مناسبة تليت… بينما كانت ملحمة الخليقة تنشد في احتفال درامي في احتفالات أو لأيام السنة الجديدة، في احتفالات مردوخ على قوى الفوضى.
من هو كلكامش:
الملاحم والأساطير منهجان معرفيان ابتدعاهما الإنسان القديم واطلقهما ( سواء تحت وازع الحاجة أم من صلب ماهيته وطبيعته) للإدراك والتعبير عن العالم والفكر والوجدان، فساهمتا في موضعة تجربته والتحرر من سطوتها الداخلية المربكة للروح والعقل بفعل ما تتلحف به من غموض وضبابية. فمكنته هذه الموضعة من فهم تجربته واستيعابها والاجتهاد لفك ألغازها بما أضفاه عليها من وضوح وتحديد أسهما في ترويض شواردها وبالتالي القدرة على التوفيق بين متناقضاتها. وهما، أي الملاحم والأساطير، خزين المعارف الإنسانية الذي لا ينضب، كونهما جماع التجربة الإنسانية للمجتمعات القديمة، ثم أنهما تضمنتا كثيرا من الرموز القديمة التي تشكل حصيلة الفكر البشري فيما مضى، وتراثا ثرا للإنسان الحديث كثيرا ما يستدعيهما ويخلع عليهما شيئا من نفسه ومن عمله. وحقا لا رمز كالبحر كهفا للاسرار وللمجهول والقمر رمزا للديمومة، وليس ككلكامش في إنجاز الأفعال العظيمة وهرقل في القوة والتحدي. لقد غدت تلك الرموز التي تضمنتها الأساطير والملاحم ملكا للبشرية حتى تواضعت عليها الذاكرة الإنسانية وأسكنتها في المركز منها بوصفها أنماطا أو نماذج أصلية () Archetypes . ولا مناص أمامنا إن أردنا معرفة دلالة الرموز والكشف عن أبعادها وحقيقتها إلا بالفهم الواعي والعميق لنوعية المعرفة التي يتمتع بها الإنسان القديم التي تشكلت تلك الملاحم والأساطير، وبالتالي رموزها الأصيلة، من رحم بيئتها وتلونت بألوانها بدلا من الاكتفاء بتفسير الرمز ضمن حدود وظيفته العملية ضمن الإطار الملحمي أو الأسطوري فقط(59 ).
تبعا لما وصلتنا من دلائل تاريخية وأساطير فقد ترددت الآراء بخصوص الهوية الحقيقية لكلكامش (60) إن كان شخصية تاريخية أم أسطورية. فمن مجموع ما وصلنا من أساطير باللغة السومرية( 61)، ومنها أسطورة كلكامش وانكيدو والعالم السفلي ثم أسطورة كلكامش وارض الأحياء وتلك عن موت كلكامش وأسطورة كلكامش وثور السماء، يظهر أن شخصية كلكامش كانت محببة وذات شعبية بحيث استوطنت رحم مثل هذه الأساطير أنفة الذكر؛ ويخبرنا إثبات الملوك السومري أن كلكامش كان شخصية تاريخية، حيث ورد ذكر اسمه واسم والده وأخيه، وانه كان الملك الخامس من سلالة الوركاء الأولى، وانه حكم في حدود 2650 ق.م واستغرق حكمه (126) سنة، ويرى بعض الباحثين انه رقم مبالغ فيه إذ من المستحيل أن يصل حكمه وحتى عمره إلى هذا الرقم أو حتى ما يقاربه.ولا شك في انه كان ملكا عظيما وبطلا شجاعا بحيث صار رمزا للقوة والإقدام والمغامرة. ومعروف أيضا إن هناك ما لا يقل عن أربع قصص سومرية تدور حول هذا البطل ومآثره تسبق في تاريخها ملحمة كلكامش المدونة في اللغة البابلية. وقد مال البعض إلى اعتبار كلكامش شخصية أسطورية رغم ورود اسمه في الإثبات.،
فيذهب بعض الباحثين إلى أن كلكامش الوارد اسمه في جداول إثبات الملوك(نص تمال) لا يمكن أن يكون هو بطل الملحمة ؛ للأدلة الآتية( 62):
أولا:إن بطل الملحمة كان لا بد أن يكون بطلا أسطوريا، اجتمع على صنعه الخيال والاعتقاد والحاجة إلى الرمز الأسطوري لمدة كانت تحمل(أو اجتمعت فيها) جميع أشكال المخاضات الفكرية والاعتقادية التي كانت بذورها العوامل المرشحة لخلق (رمز) يتفاعل وتتفاعل معه الحاجة الميثولوجية والإنسانية، وبالتالي صارت تلك المدة الحقيقية لولادات الأشكال الاعتقادية (63). إذن فجلجامش الذي ورد اسم أبيه بهيئة(للا) الذي يعني اسمه نوعا من الشياطين، او الراعي، وأمه الآلهة(ننسن) والذي حكم 126 عاما وخلفه ابنه( أور ـ ننكال) ( 64) لم يكن غير الملك الآدمي الذي حكم مدينة الوركاء.
ثانيا: إن اغلب الأمم والشعوب كانت تطلق على أبنائها وما تزال العديد من أسماء رموزها وأبطالها وحتى اسماء آلهتها على أبنائها احتراما وتيمنا بتلك الأسماء. فليس غريبا أن يحمل أي إنسان في وادي الرافدين اسم بطل الملحمة( كلكامش) . فلو توفرت لدينا إحصاءات بأسماء نفوس وادي الرافدين، فإننا يقينا سنجد الكثير ممن يحملون اسم بطل الملحمة، لهذا يصح الاعتقاد بان ملك الوركاء قد اخذ اسمه من (بطل الملحمة)، وذلك لان الأخير قد ولد قبل(العهد الشبيه بالكتابي) بكثير…!
ثالثا: كذلك ليس ممكنا لملك الوركاء الذي حكم للمدة(2800 ـ 2650) ق.م من وجهة ـ المنطق التاريخي ـ أن يكون قد شد الرحال إلى بطل الطوفان(اوتنابشتم ـ زيوسدرا) ليلتقي به من اجل الحصول على عشبة الخلود، علما بان المصادر التاريخية تشير إلى أن حادثة الطوفان قد حدثت في(الألف الرابع ق.م) تقريبا. فهل من المنطق ان لقاء الاثنين قد تحقق بعد مضي(1500) عام تقريبا..؟ في حالة واحدة فقط، يمكننا القول: بان ذلك اللقاء قد تحقق مع يطل الملحمة / بدلالة نصوص الملحمة/ وليس مع جلجامش الملك…
رابعا: لم تحدثنا الوقائع التاريخية و/الرقم والألواح/ السومرية أو البابلية أو الآشورية عن أي ملك تحولت حياته إلى نوع من الأساطير، بالرغم من وجود ملوك ذوي نفوذ وقوة عظيمتين توالوا على حكم بلاد وادي الرافدين. ولم تكن العادة في سياق الحكم الملكي آنذاك ان تحول أي ملك إلى بطل أسطوري أيضا، ولو كان كذلك، لتركت لنا الوقائع التاريخية ملكا واحدا على اقل تقدير،أعقب الملك كلكامش، وقد صار بطلا أسطوريا وله مدونة بذلك ولأعتبر مثل تقليد كهذا سياق تقضي العادة ضرورة تحقيقه. لهذا نجد هناك انقطاعا يكاد يكون تاما في طرح أي بطل آخر يماثل البطل/كلكامش/ على مدى جميع الأدوار الحضارية لبلاد الرافدين.
لذا فان/ كلكامش/ الملك، لم يكن غير ملك الوركاء.. أما /كلكامش/ البطل الملحمي فهو أيضا لم يكن غير البطل الأسطوري على وفق الاعتقاد الميثولوجي لأبناء الرافدين آنذاك..
وفي العصور المتأخرة ، عد كلكامش حاكما للعالم السفلي ورب رخاء وسعادة ودافعا عن الناس الشرور ، كما وصلتنا أدعية إليه.
ويذهب البعض إلى أن أسطورة كلكامش وانكيدو تسبق شخصيتهما، هذا على افتراض انه يوجد في التاريخ شخص اسمه كلكامش وآخر اسمه انكيدو( 65). أما / دياكانوف/ فيعتقد أن الأسطورة أقدم من الاسم، وأنها ربطت فيما بعد باسم كلكامش الذي يمكن أن يكون هو تلك الشخصية التي عاشت بين سنتي 2800 ـ 2700 ق.م( 66).
ولهذا يقال( 67)؛ إن قصة كلكامش ، قصة رمزية، وكلكامش نفسه تحول إلى رمز لذلك الكائن البشري الباحث عن سر الحياة؛ فكلكامش في القصة ليس كلكامش ملك أوروك. أي رجلا معينا بالذات في لحظة معينة بالذات من لحظات التاريخ، بل هو /الإنسان في التاريخ/ الذي يتجاوز أبعاد الواقع.
إنسان كلكامش:
إنسان كلكامش، كما تصوره الملحمة، هو رمز للإنسان الكامل، الإنسان كما يجب أن يكون لا كما هو كائن. انه رمز للنبل والعفة، هو التجدد والخير المتجدد ،عاشق أسطوري يجرفه شوق أزلي نحو الحق والخير والجمال .انه كما النهر، دائم الطهر، يتجدد في كل آن حين يضوي عن روحه جلد البهتان، ليرتدي شعار الفضيلة، ويكدح في صراط الإحسان، كي يكون محض إنسان، كما أراد له الباريء المنان… وليس بالسهولة بمكان، ان تكون، بهذا المعنى، مصداقا لذاك الانسان…
إنها مهمة المهمات، والنبأ العظيم. أن تكون كالقابض على الجمر، ان تقتل نفسك في اليوم سبعين … أي حزن أسطوري وأي خيال يملك الجرأة في بحار من الموت تطفو عليها الهموم بعمق آلاف الجبال. لابد لمن يجرؤ أن تكون له حكمة مستخلصة من روح الإله وقوة تتكسر على أعتابها عواصف الآه..
هكذا كان كلكامش؛ ذو الحكمة الكاملة، الذي رأى وعرف كل شيء، الذي منت عليه الآلهة من روحها بثلثين، ليحتمل عبء الصلب ، الذي أحاله مع السنين ، نبراسا للعالمين، إلى أبد الآبدين…
هو الذي رأى كل شيء فغني بذكره يا بلادي
وهو الذي عرف جميع الأشياء وأفاد من عبرها
وهو الحكيم العارف بكل شيء
لقد أبصر الأسرار وعرف الخفايا المكتومة
وجاء بأنباء أزمان ما قبل الطوفان( 68)…..
انه العارف، انه الإنسان الكامل إذا اعتبرنا المعرفة مبدأ الانسنة الأساس، بل هي الحكمة ـ المعرفة مع التجربة الحياتية ـ الصفة الملازمة للإنسان ـ كلكامش ، الذي يتصف،علاوة على الحكمة، بالقوة، لان الآلهة قد خصته بالبطولة. إنسان كلكامش/ صورة كاملة تامة/ لا ثنائية ولا ازدواجية، بل توازن كياني ووجداني عظيم تلازمت فيه الحكمة والقوة فهو كامل الحسن والجمال( 69):
بعد إن خُلقَ كلكامش، وأحسن الإله العظيم خلقه
حباه((شمش)) السماوي بالحسن، وخصه ((ادد)) بالبطولة
جعل الآلهة العظام صورة كلكامش كاملة تامة
كان طوله احد عشر ذراعا وعرض صدره تسعة أشبار
ثلثان منه إله، وثلثه الآخر بشر
وهيئة جسمه لا نظير لها
وفتك سلاحه لا يصده شيء
وعلى ضربات الطبل تستيقظ رعيته( 70)…
إنسان كلكامش يتسم بالنبل والشجاعة، قد طوى الأنانية جانبا واتخذ من فلسفة العطاء شعارا له؛ لأنه كامل الحكمة، ومن كان بهذا العمق لابد أن يتخلق، على قدر طاقته، بأخلاق الإله حتى يغدو بأفعاله، خليفة لله على الأرض يعمل على عمرانها وتحقيق الصلاح بين أهلها…..
فلأنه قوي لا يخشى الفوت، فقد عفا عن انكيدو حين تمكن منه بعد صراع رهيب بينهما، رغم نية انكيدو بالقضاء عليه. إنها سمات النفوس الكبيرة، العفو عند المقدرة:
أمسك أحدهما بالآخر وهما متمرسان(بالصراع)
وتصارعا وخارا خوار ثورين وحشيين
حطما عمود الباب وارتج الجدار
وظل جلجامش وانكيدو متماسكين يتصارعان كالثورين الوحشيين
وحينما انثنى كلكامش وقدمه ثابتة في الأرض(ليرفع انكيدو)
هدأت سورة غضبه واستدار ليمضي(71 )…
إنها من صفات الرجال العظماء، النفوس التي زكيت وراضت أهواءها وميولها، فرغم سورة الغضب العارمة التي تفجرت من كيان كلكامش ،لأنه عين الحكمة أن تكون غضبا عند القتال، إلا انه تمكن من السيطرة على هذا البركان حالما استنفذ غايته ولم يخرجه غضبه إلى باطل ، فنراه وهو في قمة الاقتدار على خصمه بعد أن صرعه أرضا ، نراه ، بكل هدوء، يستدير ليمضي.. لقد قرر العفو عن أنكيدو ، لأنه يعلم أن هذا الأخير أهل لان يعفو عنه.
إن لوحة المصارعة هذه تعكس طهارة النفس التي تحلى بها إنسان الملحمة الآخر /انكيدو/ فلم يملك إلا أن تستجيب نفسه الطيبة لعفو جلجامش عنه، ليكون، انكيدو، مصداقا لكرم النفس وعظم الهمة(إن أنت أكرمت الكريم ملكته). لقد اكتشف كلكامش/لأنه الكامل الحكمة والعارف بكل شيء/ بفراسته وعلم / رغم عفوه عن غريمه انكيدو وتركه حرا طليقا/ إن الزمان لن يضطره ،يوما، ليعيش تحت راية الندم والأسى الذي يأكل الروح ؛ فهو متيقن انه،من جهة انكيدو، سوف لن تعمل تلك الحكمة التي تقول: اتق شر من أحسنت إليه… لقد اعترف انكيدو، من ساعته، إن الله اعلم حيث يجعل حكمته:
ولما هدا غضبه كلمه انكيدو وقال له:
(( انك الرجل الأوحد، أنت الذي ولدتك أمك.
ولدتك أمك “ننسون”، البقرة الوحشية المقدسة
ورفع “انليل” راسك عاليا على الناس
وقدر إليك الملوكية على البشر)) (72 ).
لا وجود ولا قيمة للإنسان الوحيد في ملحمة كلكامش، لان الإنسان الكامل هو الاجتماعي والصديق والمتعاون مع غيره في سبيل دفع الأذى عن الآخرين وتحقيق السعادة للجميع( 73).
وليس كالصورة التي رسمها إنسان كلكامش للعطاء ونكران الذات والتضحية من اجل الآخرين إحقاقا للعدالة وإعلاء لكلمة الحق ودفع الأذى والشرور عن العالمين. وهو ما تمثل في إصرار كلكامش برفقة صديقه انكيدو حين عقدا العزم للمخاطرة بنفسيهما في رحلة يكاد تنعدم فيها فرص النجاة، للقضاء على العفريت خمبابا/العفريت الذي يحرس غابة الأرز/ اصل الشر في العالم. إنها رحلة يجفل لها قلب الصنديد مجرد أن تطرق سمعه؛ فها هو انكيدو يملا قلبه الأسى حين سمع نية صديقه كلكامش لمقاتلة خمبابا الرهيب، فالتفت إليه كلكامش وكلمه قائلا:
((لماذا امتلأت عيناك بالدموع؟
ولم ملا الأسى لبك وصرت تصعد الزفرات))،
فتح ((انكيدو)) فاه وقال لجلجامش:ـ
((يا صديقي اشعر بان الخوف قد شل قواي
لقد فقد ساعداي القوة.
فعلام عزمت على تحقيق هذا الأمر؟)).
فخاطب جلجامش ((انكيدو)) وقال له:ـ
((يسكن في الغابة((خمبابا))الرهيب فلنقتلنه كلانا
ونزيل الشر من على الأرض…
فتح((انكيدو))فاه وقال لجلجامش:ـ
((ياصديقي لقد علمت حينما كنت أجول مع الحيوان
في التلال والبراري الواسعة
إن الغابة تمتد مسافة عشرة آلاف ساعة في كل جهة
فكيف تجرؤ على الإيغال في داخلها
و((خمبابا)) زئيره عباب الطوفان
تنبعث من فمه النار، ونفسه الموت الزؤام
فغلام ترغب في القيام بهذا الأمر و ((خمبابا) لا قبل لأحد بهجومه)) ( 74).
لم يكن يتجثم هذه المعاناة والمخاطرة لقتل خمبابا تعبيرا عن حب الشهرة والاستعلاء أو نوع من الرياء وإنما كانت إفراز طبيعي لما يتحلى به إنسان كلكامش من نفس طاهرة معطاء تقومها الحكمة المقدسة.
وخير دليل على عظمة هذه النفس هو ما خلص إليه كلكامش من مغامرته الأسطورية طلب الخلود: فبعد رحلة عظيمة ومضنية في فم الدمار من اجل فض سر الموت والتغلب عليه، نرى أن كلكامش حين حصل على عشبة الخلود، لم يسارع إلى التهامه كالشره ، ولم يتملكه، في ذلك الموقف الرهيب، وله بنفسه لأنه كامل الحكمة،لذا كان الناس جميعا(الإنسان الكلي) حاضرا في مخيلته ووجدانه، فلم يتبادر إلى ذهنه احتكار الخلود لنفسه بل آثر عدم تناول تلك العشبة بمفرده بل قرر الرجوع إلى قومه مصمما على تكثير هذا النبات من خلال زراعته في بلاده وإشراكهم في الحصول على، الخلود هذا الخير العظيم:
وربط بقدميه أحجارا ثقيلة
ونزل إلى أعماق المياه حيث أبصر النبات
فاخذ النبات الذي يخز يديه
وقطع الأحجار الثقيلة من قدميه
فخرج من الأعماق إلى الشاطىء
ثم قال جلجامش لـ ((أور ـ شنابي))، الملاح:ـ
((يا((أور ـ شنابي))، إن هذا النبات نبات عجيب
يستطيع المرء أن يطيل به حياته
لأحملنه معي إلى ((أوروك))، الحمى والسور
وأشرك معي الناس ليأكلوه
وسيكون اسمه:(( يعود الشيخ إلى صباه كالشباب))
وأنا سآكله(في آخر أيامي) حتى يعود شبابي)) ( 75).
لقد غدا إنسان كلكامش أسطورة في النضال على تحقيق المطالب وتحدي الصعاب حتى أصبح طرازا فريدا تضرب به الأمثال في الصمود ورفض الاستكانة والرضوخ. انه شعلة للتغيير والإنتاج، لأنه كامل الحكمة، العارف بكل شيء، وليس مثل إصراره على اكتشاف لغز الموت وتحقيق الخلود؛ إنها محاولة لكسر جدار المستحيل وان كان ثمة ممر للنجاة:
إذ كيف أهدا ويقر لي قرار
وصديقي الذي أحببت صار ترابا
وان أفلا أكون مثله فاضطجع ضجعة لا أقوم من بعدها ابد الدهر؟
ثم أردف جلجامش وخاطب((أور ـ شنابي)) قائلا:ـ
والآن يا((أور ـ شنابي)) أين الطريق إلى((اوتو ـ نبشتم))
أين الاتجاه إليه؟ دلني على الطريق إليه
فإذا استطعت الوصول إليه فحتى البحار ساعبرها!!!.
وإذا تعذر بلوغ مرادي فسأظل أجول في الصحارى!!!.
لقد تجسد إنسان كلكامش في البطلين: كلكامش وانكيدو( 76)؛ انكيدو إنسان بدائي متوحش، لكنه يحمل عمق الصحراء وأبعادها، لذا نراه يغدو إنسانا متمدنا، ويتعاون مع كلكامش على إزالة كل شر من وجه الأرض. وكلكامش أسطورة إنسان حكيم وملك بطل، يخرج من اكتفائه وعالمه المتحضر إلى خضم بحر الحياة ومتاهات غابتها، ويمتد، بمعية صديقه وشعبه، من نصر إلى نصر، حتى يصطدم بالمستحيل، الموت، من دون أن يتراجع، فيقارع كل ما يحول دون انسنته، وقربته((ملأى بالماء النقي على الدوام))وقلبه مضطرب لا يستقر حتى يحمل نبات الحياة إلى مدينته ويشرك به جميع الناس. إنسان((ملحمة كلكامش)) عظيم الاتزان في تكوينه وواقعه، عظيم عبقري، بل نموذج يحق لكل الناس، في كل زمان ومكان، أن يحتذوا به…
المرأة في ملحمة كلكامش:
تنوعت الأدوار التي تظهر بها المرآة في ملحمة كلكامش؛ وهو تنوع يمليه الاختلاف الواقع في الوظائف التي تؤديها المراة في المجتمع. وكما الرجال، حيث يوجد فيهم الصالح والطالح، كذلك نطالع في الملحمة نماذج متغايرة للنساء، فمنهن الطاهرة العفيفة ذات الخلق الحميد والأصالة والوفاء، حيث نجد منهن من اقتربت من مصاف الآلهة، أو أن بعض الآلهة من جنس الإناث، كما نلاحظه في ((أورورو)) و ((عشتار)) و ((ننسن)) والدة كلكامش، ونرى منهن المتقلبات وتمثلهن خير تمثيل ((عشتار)) في تقلبها واختلاف الأدوار التي تتقمصها بتغير الأزمان والأمكنة والظروف بشكل عام، ومن الممكن أن تكون رمزا لما نلاحظه من تقلب في مزاج المراة رافقها منذ البدء فاستقر جزء من طبيعتها.
تكاد تكون وظيفة المراة ، بيولوجيا وجنسيا، هي ذاتها في كل عصر وأوان. والملاحظ في الملحمة تواتر ظاهرة اقتراب الآلهة ، في أدوارها،من البشر إلى درجة التداخل في هذه الأدوار أحيانا. يمكن ملاحظة هذا التداخل في المجال الأنثوي من خلال العرض الذي تقدمت به الآلهة عشتار إلى كلكامش ليتزوج منها حيث تصرفت وكأنها امرأة من بني البشر، حين تخاطبه قائلة:
تعال ياجلجامش وكن عريسي الذي اخترت
امنحني ثمرتك(بذرتك) أتمتع به
كن زوجي وأكون زوجك( 77)…
ثمة مبدأ فلسفي متعال، يعتقد أن السومريين، قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة، هم أول من أرسى دعائمه، وهو مبدأ(القوة الخالقة للكلمة الإلهية) الذي يمكن استشفافه من خلال التفاصيل التي تعرضها الملحمة لعملية خلق أو ولادة انكيدو التي قامت بها الآلهة ((اورورو)). وهو المبدأ الذي يفسر أو يصور الفكرة أو الآلية التي بموجبها يتم فعل الخلق أو التكوين.
فحين قام آلهة السماء باستدعاء الإلهة ((اورورو))، التي سبق ان خلقت كلكامش ، وطلبوا منها أن تخلق ندا وغريما له يضارعه في قوة اللب والعزم ليكونا في صراع مستديم، فان ((اورورو)) باشرت بعملية الخلق أو الولادة كما طلب منها. و تصور لنا الملحمة هذه العملية بشكل رائع:
حالما سمعت ((اورورو)) ذلك
تصورت في لبها صورة ((لآنو))
وغسلت ((اورورو)) يديها وأخذت قبضة من طين ورمتها في البرية
وفي البرية خلقت((انكيدو))، الصنديد، نسل((ننورتا)) القوي
يكسو الشعر جسمه، وشعر رأسه كشعر المرأة
ونمت فروع شعر رأسه جدائل متموجة كشعر ((نصابا))( 78)….
فكل ما ينبغي على الإله أن يفعله هو أن يصمم الخطط ويقول( الكلمة) وينطق بالاسم(اسم الشيء المراد خلقه)، ليخلق فعلا ويكون( 79).وتأتي بعدها النصوص السماوية مصدقة لذلك((فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون))(غافر/68) و ((إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)) (النحل/ 40). لعل في ذلك دلالة على ما موجود بين معتقدات وأفكار أقوام وشعوب مختلفة عبر التاريخ من تشابه وتماثل يبعث على الدهشة رغم اختلافها، ثقافيا وحضاريا، وسعة المسافات الفاصلة بينها من حيث الزمان والمكان. ويعلل بعض الباحثين( 80) ذلك بموجب نظرية(النشوء الذاتي)، حيث ان التشابه في الظروف يولد تشابها في الفكر يترتب عليه تكرار الآراء والمعتقدات من الناحيتين النظرية والعملية، والسبب في ذلك يعود لوحدة النفس البشرية و وحدة الأفكار و العمليات العقلية.
الإنسان الفرد متوحش، والإنسان الاجتماعي حكيم، واجتماعية المرء الطبيعية في وحدة الرجل والمراة وتعاونهما على خلق مجتمع بشري متمدن؛ لذا لا تقتصر وظيفة المراة في الملحمة على الولادة والخصوبة والتكاثر بالدرجة الأولى، بل مشاركة الرجل في الحياة، ولها دور كبير في صيرورة الإنسان إلى التمدن. فانكيدو قلب اتصاله بالمراة، كما تصوره الملحمة، أشبه بالوحش( 81):
لا يعرف الناس ولا البلاد ويلبس لباسا مثل ((سموقان))
ومع الضباء يأكل العشب
ويستقي مع الحيوان من مورد الماء
ويطيب لبه عند ضجيج الحيوان في مورد الماء( 82)…

لكنه عندما يتصل بها، ويتعلم منها فن المراة، ينجذب إليها ويتعلق بها. تخونه قوته الجسدية عما قبل، لكنه يغدو واسع الفهم. هكذا تصور الملحمة عملية ترويض انكيدو التي عهد بها إلى البغي شمخة لتنتشله من عماء الغريزة والجهل إلى عالم الفهم والنظام:
لبث((انكيدو)) يتصل بالبغي((شمخة) ستة أيام وسبع ليال
وبعد إن اشبع منها شهوته
وجه وجهه إلى إلفه من حيوان الصحراء
فما إن رأت الظباء((انكيدو)) حتى ولت عنه هاربة
وهرب من قربه حيوان الصحراء
هم((انكيدو)) أن يلحق بها ولكن وهنت قواه
خذلته ركبتاه لما أراد اللحاق بحيواناته
أضحى انكيدو خائر القوى لا يستطيع العدو كما كان يفعل من قبل
ولكنه صار فطنا واسع الحس والفهم( 83)…
وما إن رأت المرآة أن انكيدو حاز مقدار رفيع من الحكمة، حتى أخذته إلى أوروك حيث الحضارة والأسواق والبيت المقدس؛ فيترك المتوحش غابته إلى الأبد:
لقد صورت المراة في الملحمة من مختلف أبعادها، وكل بعد مثل جانبا من جوانب المراة. من كل هذا نستخلص( 84): إن الإنسان الرافديني عرف المراة على نفس الصورة التي عرفها بها إنساننا المعاصر في آدابه، بل إن الإنسان الحديث قد ورث رأيه في المراة وشعوره تجاهها عن الإنسان القديم؛ أمومة، حنان، خصب، رقة، قسوة، رياء، شهوة، نزوة، غدر، تخريب… ولم تتغير هذه الصورة في ذهن/الإنسان المعاصر/ إلا بمقدار وضع المراة في مجتمعاته.
رجع وقعد عند قدمي البغي ((شمخة))
وصار يطيل النظر إلى وجهها
ولما كلمته أصاخ بإذنه إليها
كلمت البغي انكيدو وقالت له:
((صرت تحوز الحكمة يا انكيدو مثل إله
فعلام تتجول في الصحراء مع الحيوان؟
تعال آخذك إلى ((أوروك))، السور والحمى
إلى ((البيت)) المشرق، مسكن((آنو)) و ((عشتار)) ( 85)…
هوامش :
( 1) = ينظر: البناء الفني في الأدب الملحمي العراقي القديم؛ ملحمة جلجامش نموذجا – طراد الكبيسي – وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1994، د.ط:ص9.
( 2) = الأسطورة – د. نبيلة إبراهيم – الموسوعة الصغيرة(54)، وزارة الثقافة والإعلام، جمهورية العراق – 1979، د.ط:ص3.
( 3) = ملحمة كلكامش والفكر الرياضي- نجم الدين السهروردي – دار الحرية للطباعة، بغداد – 1977، د.ط : ص 13 .
(4 ) = ينظر : ملحمة كلكامش- طه باقر: ص 8 ، 14.
(5) = من الأمور الهامة عند دراسة الأدب في العراق القديم معرفة اللغة التي دون بها، فقد سادت بلاد الرافدين لغتان مشهورتان هما السومرية والاكدية، والأخيرة هي الفرع الشرقي من عائلة اللغات السامية. أما اللغة الأولى وهي السومرية فكانت هي السائدة منذ معرفة التدوين ، أي منذ اوائل الالف الثالث قبل الميلاد، وغلبت الثقافة السومرية بلغتها وادبها ومعارفها المختلفة. ولكن في الربع الاخير من الالف الثالث قبل الميلاد، بدأ يبرز كيان الساميين السياسي، وانطبع ذلك على الاداب فبرزت لغتهم في الكتابة وتزايد استخدامها حتى طغت على اللغة السومرية منذ مطلع الالف الثالث قبل الميلاد ، ولكن لم يؤد ذلك الى اندثار اللغة السومرية بل بقيت الثقافة السومرية حية واستمر التدوين بالسومرية جنبا الى جنب مع اللغة الاكدية بفرعيها الاساسيين البابلية والاشورية…. (( دراسات في تاريخ وحضارة العراق القديم – د. احمد امين سليم – مكتبة بستان المعرفة، الاسكندرية – ط 1 ، 2004 : ص 293 )) .
( 6) = ينظر: عظمة بابل ؛ موجز حضارة بلاد وادي الرافدين القديمة- ا.د. هاري ساكز – ترجمة: ا.د عامر سليمان- 1979 ، بدون ذكر الناشر او رقم الطبعة: ص 445 .
وينظر كذلك : دراسات في تاريخ وحضارة العراق القديم : ص 294.
(7) = فقد نظر السومريون الى فكرة سقوط الامطار بعد جدب،بانها وساطة من الطير المركب العملاق(امركود) اذ جاء لانقاذهم،فكسا السماء بجناحيه من سحب الزوابع السوداء، والتهم (ثور السماء) الذي كان قد احرق الزرع بانفاسه الملتهبة… واذا لم يرتفع مياه الانهر ، فلا بد انها رفضت فكرة الارتفاع ، وبالتالي يصار الى تحليل ذلك بفكرة غضب(الاله). والحكمة هو ان النهر او الاله يريد ان يفهم الناس شيئا، ولا بد لهم من عمل مناسب يقومون به. اما النتيجة فتكون اللجوء الى القربان لفك الاشتباك…. (( مقدمة في الادب السومري : ص 13)).
( 8) = ينظر : مقدمة في الادب السومري : ص ـ ص 12 ـ 13.
(9 ) = ينظر : المصدر نفسه : ص 13.
( 10) = ينظر: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة – طه باقر – بغداد، 1973 أو 2003 ( يتم التاكد من تاريخ الطبعة) : ص 32.
(11 ) = ينظر : ملحمة كلكامش – طه باقر : ص 8.
( 12)= صفاء ذياب ، في لقاء اجراه مع د. فاضل عبد الواحد علي – مجلة “مسارات” العدد الاول، السنة الاولى – نيسان، 2005 : ص67.
( 13) = ملحمة كلكامش- طه باقر:ص ـ ص 105 ـ 106.
(14) = لا يعلم موقع هذا النهر على وجه التأكيد وانما يحتمل انه نهر((كارون) الان في خوزستان، الذي ورد ذكره في المصادر اليونانية والرومانية بصيغة(اولاس).(ملحمة كلكامش- طه باقر: ص 105 ).
( 15) = ينظر: مقدمة في الادب السومري : ص 15.
( 16) = ينظر: دراسات في تاريخ وحضارة العراق القديم : ص 294.
(17) = فنحن لا نعرف ، مثلا، كم استغرق مل من ( ادبنا ـ وايتانا) في رحلتهما نحو السماء، وكم مكثا هناك، ومتى كانت العودة. وفي ذات الوقت كم احتاجت(اورورو) لخلق انكيدو، كما نجهل مدة اقامته في السماء قبل صداقته لكلكامش ….
كما ان النص، كما في ملحمة كلكامش مثلا، لم يتقيد بتحديد مكاني هندسي معروف لمدينة الوركاء او للسهل، كما انه لم يعلن في ابلاغه عن المسافات التي قطعها الصديقان (كلكامش وانكيدو) نحو غابات الارز، وكذلك لا نجد تحديدا للدروب والبحار والامكنة التي اجتازها كلكامش وصولا لجده اتونابشتيم….. (مقدمة في الادب السومري : ص 15).
( 18) = مقدمة في الادب السومري : ص 15.
(19) = مات الشعر الملحمي في العصور الحديثة لانه ما عاد يتلاءم وطبيعة هذه العصور وذلك لان الملحمة كانت وليدة عهود الفطرة والسذاجة حين كان الانسان ينظر الى الكون نظرة اسطورية، ولا يعرف الموازين المنطقية. على نقيض العصور الحديثة التي لم تعد تؤمن الا بالعقل والمنطق اللذين يرفضان الاسطورة والخيال الجامح.(( في النقد الادبي- د.فائق مصطفى ، د . عبد الرضا علي- جامعة الموصل، العراق – ط 1 ، 1989 : ص 114)).
( 20) = ينظر : معجم المصطلحات الادبية- اعداد : ابراهيم فتحي- المؤسسة العربية للناشرين المتحدة، تونس – د.ط ، د.ت : ص 346.
( 21) = الادب المقارن- محمد غنيمي هلال- 1977 ، د.ط : ص 144 .
( 22) = ينظر: المعجم الادبي- جبور عبد النور- دار العلم للملايين- ط 1 ، 1979 : ص 264.
( 23) = الادب المقارن : ص 145.
( 24) = = ينظر: الملاحم كتاريخ وثقافة- د . احمد ابو زيد- مقالة في مجلة(عالم الفكر) عدد خاص عن الملاحم – مجلد 16 ، 1985 : ص . و ينظر: البناء الفني في الأدب الملحمي العراقي القديم؛ ملحمة جلجامش نموذجا – طراد الكبيسي – وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1994، د.ط: ص 21 ، 38.
( 25) = فن الشعر- أرسطو- 1495 أس 20 ـ 30 .
(26 ) = فن الشعر- ارسطو – ص 35 وما يليه.
( 26) = ينظر: البطل في الادب والاساطير- شكري محمد عياد- دار المعارفن مصر- ط 1 ، 1959 : ص 65.
( 28) = النقد الادبي الحديث : ص 92.
(29 ) = ينظر: النقد الادبي الحديث- محمد غنيمي هلال : ص 93 .
( 30) = النقاط ( اولا ، ثانيا، ثالثا، رابعا)؛ ينظر: الملاحم كتاريخ وثقافة : ص .
( 31) = معجم المصطلحات الادبية: ابراهيم فتحي: ص 344.
( 32) = النقاط(سادسا،سابعا،ثامنا)؛ ينظر : في النقد الادبي الحديث ؛ منطلقات وتطبيقات : ص 113.
( 33) = مقدمة في الادب السومري: ص 15.
( 34) = ينظر التعريف الذي قدمه طه باقر للملحمة واهميتها في كتابه ملحمة كلكامش: ص ـ ص 17 ـ 37.
وينظر ايضا: الانسان في ادب وادي الرافدين- يوسف حبي- الموسوعة الصغيرة(83)، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والاعلام ، العراق- ط 1 ، 1980 : ص ـ ص 85 ـ 86.
( 35) = عظوة بابل: ص ـ ص 445 ـ 446.
( 36) = ينظر: حضارة العراق- تاليف: نخبة من الباحثين العراقيين- بغداد، 1985 : ج1 ، ص 338.
( 37) = ملحمة كلكامش- طه باقر : ص 35.
( 38) = ما قبل الفلسفة- مجموعة كتاب- ترجمة: جبرا ابراهيم جبرا- منشورات مكتبة الحياة، فرع بغداد – 1960 ، د.ط : ص 246.
(29) = نتج عن هذا الاسلوب في حفظ النصوص الادبية عند السومريين ، نظام الفهرسة والسجلات، واقدم نظام للمكتبات المعبدية، واشهرها مكتبة مدينة (نفر) السومرية،او (بيت الالواح) كما اسماها السومريون. ((ينظر: مقدمة في الادب السومري : ص 12.
( 40) = مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة – (( يتم التاكد من رقم الطبعو او ناريخها 1973 او 2003: ص 19.
(41 ) = للتعرف على اجزاء الملحمة بتفصيل لااكثر؛ يراجع: ملحمة كلكامش لطه باقر: ص ـ ص 31 ـ 35.
( 42) = ينظر : بلاد ما بين النهرين- ليو اوبنهايم : ص 332.
وكذلك: ملحمة كلكامش- طجه باقر : ص 32.
( 43) = ينظر : جماليات ملحمة كلكامش- إ. م . دياكينوف- ترجمة : عزيز حداد – بدون جهة نشر او تاريخ اصدار : ص 76 ، 83.
( 44) = ملحمة كلكامش- طه باقر : ص 16.
( 45) = ينظر : الرحمن والشيطان؛ الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات الشرقية- فراس السواح- منشورات دار علاء الدين، دمشق، سوريه- ط 3، 2004 : ص 27.
( 46) = جلجامش- ملحمة الرافدين الخالدة- فراس السواح- دار علاء الدين، دمشق- 1996 ، د.ط : الترجمة الكاملة التي قدمها المؤلف لنص الملحمة في هذا الكتاب، اللوح التاسع منها، العمود التاسع.
( 47) = ينظر: ملحمة كلكامش نص ملحمي ام وثيقة مقدسة؛ استبصار اولي- لطفي الجميل- مجلة الموقف الثقافي، السنة السادسة، العدد 35 – دار الشؤون الثقافية ، بغداد : ص ـ ص 19 ـ 24. () = مثال على ذلك:
1= في جنوب تركيا، بالقرب من (حران) عثر على اجزاء من الملحمة، دونها كاتب قديم عاش في الالف الثاني قبل الميلاد.
2= كذلك في فلسطين حيث مدينة(مجدو) المشهورة بالتوراة،عثر على نص يعود الى حدود القرن الرابع عشر ق.م.
3= وفي مدبنة (سبار) ابو حبة، الان، قرب المحمودية عثر على اجزاء من الملحمة يرجع زمنها الى العهد البابلي القديم.
4= وفي القرن الثالث ق.م من العهد السلوقي وفي مدينة(الوركاء) عثر على لوح يعود الى الملحمة ايضا.
5= اما آخر نسخة، فكانت في القرن السابع ق.م (866 ـ 626 ق.م) وصلت الينا من دار الكتب للملك الاشوري(آشور بنيبال) كتب عليها ـ من سلسلة كلكامش ـ طبق الاصل ـ للناسخ(سين ـ ليفي ـ او نني).
كما اخذ منها العيلاميون والحثيون، ووصل عدد من الواح الملحمة الى جزيرة(دلمون)البحرين حاليا، ولن يستبعد وصول اجزاء اخرى منها الى الحضارة اليونانية، بعد ان تاكد لنا تاثر التراث الادبي لتلك الحضارة بالملحمة وموضوعاتها الدلالية والاعتقادية، بل راحت الى ابعد من ذلك،اذ نجد هذا التاثير قد تمثل او تجسد في (التناص) مع ابطال الملحمة، ولكن باسماء مختلفة عن الاصل وبمتن يحاكي المتن الحكائي ـ الاصل ـ للملحمة. ((ينظر: ملحمة كلكامش – طه باقر- ط 5 : ص56 ـ 60. وينظر كذلك : ملحمة جلجامش؛ نص ملحمي ام وثيقة مقدسة، استبصار اولي: ص 24 )).
( 48) = ينظر : ملحمة كلكامش- طه باقر : ص 18.
49)= ينظر : هنا بدا التاريخ ؛ حول الاصالة في حضارة وادي الرافدين- س.ن.كريمر- ترجمة:ناجية المراني- الموسوعة الصغيرة(77)، وزارة الثقافة والاعلام، بغداد : ص 94.
( 50) = ملحمة كلكامش- سامي سعيد الاحمد- دار الجيل ، بيروت ؛ دار التربية، بغداد- د.ط ، د.ت : ص 6.
( 51) = ينظر : ملحمة كلكامش- طه باقر : ص ـ ص 16 ـ 20.
( 52) = ملحمة كلكامش- سامي سعيد الاحمد : ص ـ ص 19 ـ 20.
(53 ) = ملحمة كلكامش- طه باقر : ص 20.
( 54) = ينظر : ما قبل الفلسفة : ص 251.
(55) = من تلك القصص ما يعرف بقصة(كلكامش واجا ملك كيش) و (كلكامش وانكيدو والعالم الاسفل) و (كلكامش وارض الحياة) و كلكامش وثور السماء) ثم قصة(موت كلكامش). (( ينظر: عشتار وماساة تموز- د . فاضل عبد الواحد علي- الاهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق- ط 1 ، 1999 : ص 53)). وينظر كذلك ))ملحمة كلكامش- طه باقر : ص 31)).
( 56) = ينظر : عشتار وماساة تموز : ص ـ ص 53 ـ 54.
( 57) = ينظر : ملحمة كلكامش- طه باقر : ص ـ ص 34 ـ 35. وكذلك : مقدمة في الادب السومري : ص 12.
(58) = لا يوجد لهذه القاعدة، لحد الان، سوى استثناءات قليلة، يذكر منها مؤلف الاسطورة المعروفة باسطورة(إيرا) (اله الطاعون) حيث ورد اسم المؤلف بهيئة(كبتي ـ إيلاني ـ مردوخ) ( ومعنى اسمه= مردوخ امجد الالهة) ولكن حتى في هذه الحالة يذكرنا المؤلف او الجامع ان الاله نفسه ظهر في الرؤيا واملى عليه نص القصيدة وانه لما استيقظ استذكرها ودونها بدون ان يضيف اليها، او ينقص منها شيئا مما املاه عليه الاله..(( ملحمة كلكامش- طه باقر : ص 34 ـ 35)).
( 59) = ينظر : البناء الفني في الادب العراقي القديم : ص 25.
( 60)= ينظر : ملحمة كلكامش؛ نص ملحمي ام وثيقة مقدسة : ص ـ ص 18 ـ 19.
( 61) = ينظر : ما قبل الفلسفة : ص 246.
( 62) = ينظر : البناء الفني في الادب العراقي القديم : ص 23.
(63) = النماذج الاصلية : (1) الحوافز الاصلية والفطرية، في تخيل كافة الناس، كيفما كانت انتماآتهم المجتمعية. (2) وهي كذلك؛ سرد او حبكة او شخصية، تحيل القارىء على الذاكرة الجماعية،باعتبارهما موروثا سلفيا،يظهر على السطح في شكل اساطير واشعار.
النموذج الاصلي: يمتد مفهوم( النموذج الاصلي) في ميدان الادب، الى تلك الشخصيات النمطية التي تمثل صفة انسانية مجسدة. (( معجم المصطلحات الادبية المعاصرة_ د. سعيد علوش- دار الكتاب اللبناني ، بيروت ؛ سوشبريس ، الدار البيضاء، المغرب- ط 1 ، 1985 : ص ـ ص 222 ـ 223)).
( 64)= ينظر: الأسطورة: ص ـ ص 78 ـ 79.
(65) = تذكر المصادر المسمارية عن كلكامش ان شمش ، اله الشمس قد وهبه جمالا فتانا وان ادد، اله الرعد، اعطاه فوة خارقة.(( ينظر: عشتار وماساة تموز: ص 48)).
( 66) = ينظر : ملحمة كلكامش- د. سامي سعيد الاحمد : ص ـ ص 10 ـ 13.
كذلك ، ينظر : حضارة العراق : ص ـ ص 338 ـ 339.
( 67) = ينظر : ملحمة كلكامش؛ نص ملحمي ام وثيقة مقدسة : ص ـ ص 25 ـ 27.
(68) = لقد جاءت اغلب نصوص ملحمة كلكامش وهي تحمل العنوان( هو الذي راى كل شيء). ان اطلاق مثل هذه الجملة وما تحمله من دلالات ـ ذات افق ميتافيزيقي ـ على أي فرد آدمي، لم يكن بالامر الطبيعي والمقبول بالمرة من الناحية الواقعية !. ما لم يمتلك ذلك الفرد قدرات خارقة ـ دون غيره ـ تمكنه من رؤية كل شيء في هذا العالم او ما هو خلفه!. ولا يتحقق هذا من الناحية الواقعية، ما لم يمتلك الفرد(عينا) ميتافيزيقية، لها من القدرة على النفاذ الى (مطلقهم) اولا، وقدرتها الاسطورية على تحريك فعاليتها، الفيزياوية؛ غير المحدودة، ثانيا… (( ملحمة كلكامش؛ نص ملحمي ام وثيقة مقدسة : ص ـ ص 24 ـ 25)).
( 69) مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة – طه باقر: ص 293.
( 70) الانسان في ادب وادي الرافدين : ص 90.
( 71)= جماليات ملحمة كلكامش: ص 11.
( 72)= ينظر: البناء الفني في الادب العراقي القديم: ص 50.
( 73) ملحمة جلجامش- طه باقر: ص 51.
( 74)=ينظر: الانسان في ادب وادي الرافدين: ص ـ ص 93 ـ 96.
( 75) ملحمة كلكامش: ص 53.
( 76) = ملحمة كلكامش- طه باقر: ص 68.
( 77) = ملحمة كلكامش- طه باقر: ص 69.
( 78) = الانسان في ادب وادي الرافدين: ص 104.
( 79) = ملحمة جلجامش- طه باقر: ص ـ ص 74 ـ 75
( 80) = ملحمة كلكامش- طه باقر: ص 143. ( ) = الانسان في ادب وادي الرافدين: ص 107.
( 81) = ملحمة كلكامش- طه باقر: ص 87.
( 82) = ينظر : ملحمة كلكامش- طه باقر: ص 54 ـ 55 …..
(( ننورتا: اله الحرب والصيد))….. ((نصابا: اله الغلة والحبوب))….. ((سموقان: اله الماشية)).
(83 ) = ينظر: من ألواح سومر- صمويل كرومر- ترجمة: طه باقر- مكتبة المثنى، بغداد- 1956، د.ط : ص 156.
( 84)= ينظر: قوانين الأفكار؛ دراسة في إنتاج وتغير وتفاعل الأفكار الإنسانية(ديناميكية الأفكار الإنسانية)- د . محمد احمد صالح أبو الطيب- بغداد، ط 1 ، 2004- دون ذكر دار النشر: ص 18.
( 85) = ينظر: الإنسان في أدب وادي الرافدين: ص ـ ص 97 ـ 98.
( 86) = ملحمة جلجامش- طه باقر : ص 55.
((سموقان: اله الماشية)).
( 87) = ملحمة جلجامش- طه باقر: ص 59.
( 88)= هو الذي رأى؛ ملحمة قلقميش- عبد الحق فاضل- منشورات وزارة الثقافة والإعلام، الجمهورية العراقية- ط 2 ، 1981 : ص ـ ص 147 ـ 148 .
( 89) = ملحمة جلجامش- طه باقر: ص 59 ـ 60.