حين غادرت المقهى،كانت الظهيرة قد اقتربت .ألقيت نظرة نحو الأفق الملبد بالغيوم وسرت ..ولم أخطو كثيرا، حتى شعرت بيد تشد طرف سترتي ، التفت فالتقت عيناي بعينيه ، طفل في الخامسة من العمر، شاحب الوجه ،شعر رأسه قد طال فانسدل على جبينه وخلف أذنيه. كان نحيف البنية ،يرتدي بنطلونا عتيقا من الجينـز وبلوزة بنفسجية اللون بكمين طويلين، ملابسه ملطخة ببقع من الزيت ،كان يشبه طائر الغندور الذي سقط في الوحل فاتسخ ريشه الجميل، في نظرته شيء من التوسل.مددت يدي في جيبي وأخرجت بعض النقود،أعطيتها له فرفض أخذها وقال بإباء :
ـ لست شحاذا .؟
ـ ما الذي تريده إذن .؟
قال بأسى :
ـ خرجت مع أمي إلى السوق ، واضعتها.
ـ بحثت عنها.؟
ـ مازلت ابحث عنها،حتى تهت.
قلت :
ـ وأين يقع بيتكم .؟
أشار بيده الصغيرة إلى البعيد وقال :
ـ هناك..
قلت أطمئنه :
ـ تعال معي، فطريقنا واحد ..
سار الصبي إلى جانبي صامتا شارد الذهن يقلب عينيه السوداوين اللامعتين بما حوله بدهشة، بينما رحت القي عليه بنظراتي من زاوية عيني دون أن يشعر.. قطعنا مسافة ونحن صامتين ،كنت انتظره أن يتكلم وكدت أبتدئه بالكلام حين قال لي متسائلا : ـ ماذا تشتغل .؟
قلت مبتسما :
ـ موظفا..
ثم سألته مداعبا:
ـ وأنت.؟ ..في المدرسة.؟
قال بحماسة كبيرة:
ـ نعم ،أنا في الصف الخامس.
ضحكت وقلت:
ـ ولكنك لم تزل صغيرا.
قال بفخر:
ـ أبى سجلني ..
وفكر لحظة ثم قال :
ـ أبي قوي وشجاع . بل أقوى وأشجع رجل في الدنيا..
قلت أشجعه على مواصلة الكلام :
ـ وكيف ..؟
ـ انهار بيت جارنا ..
ـ وبعد .؟
ـ أبي قام بنقل الجرحى بسيارته إلى المستشفى .
كنا نسير ببطيء وكان هو يلتصق بي بحميمية كما لو كنت أباه أو واحدا من أقاربه .كان يقطع حديثه أحيانا ويتلفت ، متأملا ما تعرضه المحلات المنتشرة صفا واحدا على امتداد الطريق،كانت دكاكين تبيع ملحقات القيافة العسكرية ، مطاعم شعبية ،محلات بيع السجائر بالجملة والمفرد،وغيرها أما سوق الخضار التي أضاع الصبي عندها أمه، كما يذكر،فهي في طريقنا إذ تحتل واجهة الشارع وتفصل بين صف المحلات الممتد على طول الطريق،وتتوغل لأمتار عدة إلى خلف الواجهة . كانت الغيوم تحتدم وتتحرك من فوقنا قلت للصبي:
ـ وماذا يشتغل أبوك .؟
ضغط أصابع كفه على صدره ،وبسط الكف الثانية وقد بانت الحيرة على وجهه الشاحب : ـ لا ادري..آه..انه لديه مسدس ،ويرتدي ملابس مزينة بنياشين ملونة.
ـ شرطيا.؟
ـ ربما..لا ادري ..
فكر لحظة وقال ” كمن يتذكر” ذات مرة شكوت له أختي التي تكبرني لأنها تضربني ولا تسمح لي باللعب معها، فوبخها ،وقال لي سأقتلها بهذا المسدس إن عادت إلى ضربك ثانية،ولكنه لم يفعل فما زالت تضربني وتمنعني من مس لعبها.وابتلع ريقه وواصل كلامه:
ـ حين يعود أبى سكران وينام أرى أمي تسرق النقود من جيبه.
قلت له :
ـ تظن أن أمك مازالت تبحث عنك.
قال بصوت واهن :
ـ اجل .. فهي لن تعود إلى البيت بدوني.
ورأيته يتوقف أمام مطعم صغير،وقد تهدل رأسه إلى الوراء وراح يتأمل الأطعمة المعروضة خلف واجهته الزجاجية :
ـ جائع أنت .؟
هز رأسه بالإيجاب ، اشتريت له ( شطيرة همبركر) فانبسطت أساريره، وهو يتناولها مني بشيء من التردد ، وراح يقضمها بشهية قلت :
ـ ألم تفطر بعد .؟
ـ آ.. آ .. نعم ..اقصد كلا.
واطرق برأسه إلى الأرض .سألته :
ـ لماذا..؟
ـ كنت نائما ،وخرجت أمي إلى السوق على عجل فلحقت بها.
كان يتطلع إلى عبر الشارع ،وقد دب النشاط فيه بعدما انتهى من طعامه،ونزلت من السماء قطرات ماء قليلة على رأسي وكتفي ورأيت الغندور يبتعد عني خطوات ،ثم يعبر الشارع هتفت به :
ـ إلى أين .؟
لم يجبني وهو يلقي علي نظرة سريعة، كان على الرصيف الآخر ثمة أولاد يلعبون بكرة من المطاط فرأيته يندس بينهم بعنف ،ويتدافع بكتفيه ويديه مطاردا الكرة ثم يسددها إلى” المرمى ” . وقفت أتفحصه من بعيد،وقد بدا لي كائنا يختلف عما كان عليه قبل قليل ، من هدوء وانضباط .انتظرته دقائق ثم تحركت على الطريق ، وأنا أتابعه بعيني ولم أخطو كثيرا حتى رأيته يسير بمحاذاتي ثانية قال لاهثا :
ـ رأيتني كيف ألعب..؟
قلت :
ـ شاطر..من أين تعلمت هذا .؟
قال بفخر :
ـ أبى علمني .. أبي لديه كرة كبيرة بهذا الحجم ” وفتح ذراعيه في الهواء”.. ذات مرة شاهدناه بالتلفزيون يلعب مع فريقنا ضد فريق أجنبي وسجل هدفا.
قلت :
ـ حقا .!!
ـ لا ادري ..أمي تقول هذا..ربما كان شخص يشبهه.
ووصلنا السوق ،كان يتلفت باحثا بعينيه الجميلتين ،ثم راح يشير إلى موضع داخلها وهو يصرخ فرحا:
ـ أمي..!! أمي..!!
والتفت إلي سريعا وهو يخاطبني :
ـ تلك هي أمي..وداعا.
وذهب يجري ،وسط السوق حتى اختفى في نهايتها. وجهت بصري بالاتجاه الذي أشار إليه،فاصطدمت بالفراغ. لم تكن ثمة امرأة هناك . كان بائعو الخضار في حالة كسل واسترخاء ،وقد توقفت الحركة ،وخلت السوق من المتسوقين، إلا من رجلين عجوزين كانا يتسكعان فيها وهما يتفحصان سلال الخضار ويتأملان الباعة الذين يقفون خلفها.فكرت لحظات وأنا في غاية الدهشة، ورحت أسائل نفسي :
ـ هل كان الأمر مجرد خدعة.؟
وحين لم أجد جوابا ، ضحكت في أعماقي وتحركت مواصلا سيري.وبدأ المطر ينزل،شيئا فشيئا حتى راح ينهمر ويبلل الشارع.
عصام القدسي : الغندور
تعليقات الفيسبوك