إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تحتفي بالشاعر الكبير “عيسى حسن الياسري” بهذا الملف الذي – على عادة الموقع – سوف يستمر لحلقات كثيرة لأن الإبداع الفذّ لا يحدّه زمن . لقد وضع عيسى الياسري بصمته الشعرية الفريدة على خارطة الشعر العربي والعالمي . نتمنى على الأحبة الكتّاب والقرّاء إثراء هذا الملف بما يتوفّر لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق تحتفي بمنجز هذا المبدع الفذّ وتوثّق حياته الشخصية والشعرية الحافلة بالمنجزات والتحوّلات الإبداعية الثرة.
الحوار :
حاوره في هولندا .. كريم النجار
عيسى حسن الياسري.. أحد الشعراء العراقيين المخلصين لكلمتهم وأرضهم، يحترق منذ أن أصابته لوثة الكتابة وأججت في داخله سعير الشوق إلى الأرض والمرأة والغناء، ينزوي بعزلته ليكتب ويثير الصخب والشجن، هو شاعر العزلات بحق، يعيش دائما بعيدا عن الأضواء والسجال الذي لا يقود لشيء، سوى التبجح بمنجز لم يكتمل، أو زعم بقيادة جيل وثورة شعرية جديدة. عرف عنه شفافيته في التعامل الإنساني في كل مكان شغله.. لا تحده حدود أو يقيده شكل من أشكال الكتابة، ترأس القسم الثقافي في الإذاعة العراقية أبان أوج الصراع الثقافي وصخبه بداية السبعينات، وحين حاول بعضهم جره إلى عالم السياسة والصراع الإيديولوجي غادر العمل غير آسف.. كتب المقالة والنقد والتحقيقات والقصة والرواية.. أنه عدة عوالم تتصارع وتلتقي في عالم الشعر الذي أفرد له سبعة دواوين منذ ديوانه الأول (العبور إلى مدن الفرح) عام 1972 ومخطوطتان تنتظران الطبع ورواية ومجموعة من القصص.التقيناه في هولندا أثر نيله جائزة (الكلمة الحرة العالمية ) التي منحها له ” مهرجان الشعر العالمي في روتردام ” الذي صادف هذا العام دورته الخامسة والعشرين، حيث قرأ ليومين متتالين مجموعة من قصائده مع ترجمتها وقراءتها باللغة الهولندية من قبل الشاعرة الهولندية ” أخما “، كما قرأ في المهرجان كذلك الشاعر الكردي شيركو بيكس والشاعر السوري فرج بيرق دار والشاعر الهولندي رمكو كمبرت والشاعرة الألمانية إيفا كيرك والشاعر الإيراني إسماعيل كواهي والجنوب أفريقي براين باش والشاعرة الهولندية أيستر يا نسما، وقد كتبت غالبية الصحف والمجلات الهولندية عن المهرجان وهذه الجائزة الهامة التي حصل عليها لحد الآن خمسة شعراء منهم: رافاييل البرتي والطاهر بن جلون وبراين باش.وألقى الشاعر الياسري في حفل تسنمه الجائزة هذه الكلمة الموجزة:
” في بداياتي كنتُ وعندما أتعرض لإحباط يشجعني والدي قائلاً: اطمئن.. إن الكلمات كومضات الضوء.. إذا انطلقت لن تنطفئ.. فأي سحر هذا الذي تحمله الكلمة، والتي حملتني لأقف في مكاني هذا أمامكم.. لقد منحتني قريتي أغنيتها، وأوصلت بغداد هذه الأغنية إلى الناس في بلادي.. وها هي روتردام مدينة الثقافة والإبداع تقدمني للعالم..كم أنا سعيد الآن.. لأن الكلمة تستحق أن نعاني ونتألم من أجلها.. شكراً لمؤسسةNOVIB ومنظمة DUNYA ومهرجان روتردام للشعر العالمي على منحي هذه الجائزة المهمة، وشكراً للقائمين على المهرجان الذين أوصلوني إلى هنا بمعجزة نتيجة جهودهم في الحصول على الفيزا في يوم واحد.. ولتبق كلماتنا معبرة عن وجع الإنسان وحلمه في كل العالم. ” .
*عرف الشاعر عيسى حسن الياسري بشفافية جملته الشعرية وحساسيته الفائقة تجاه الطبيعة وتماهيه مع المراعي والطيور والماء والنساء، كأنه عاش العمر سارحاً بحيوات لا يود الابتعاد عنها، وفي ذات الوقت عاش الياسري عزلة لفترة من الوقت.. ترى كيف يعيش الشاعر حياته بكل غناها، وكيف يعيش عزلته ويتآلف معها؟

– الشق الأول بالنسبة لسؤالك عن شفافية الجملة الشعرية وبساطتها، أعتقد أن الطفولة تشكل عنصراً أساسياً في تشكيل داخل الإنسان ورؤيته للحياة من حوله، كما تعرف أنا عشت في بيئة ريفية، في قرية بسيطة متكونة من مجموعة أكواخ من القصب، فلاحون يعيشون حياةً رثة، لكنهم ممتلئون بكل فرح الحياة، أفراحهم تأتي من هطول الأمطار التي تمكنهم من حراثة الأرض، وأفراحهم تأتي من فيضان النهر الذي يسقي هذه الحقول ويملؤها بالخضرة والنماء، وأفراحهم تأتي وهم يرون اخضرار زروعهم التي تشققت أيديهم بحراثتها وتورمت أقدامهم وهم يخوضون بالمياه لسقيها في ليال الصقيع الباردة، وأفراح الفلاحين تأتي وهم يعيشون عرس أيام الحصاد ,كانوا لا يحصلون من الغلة إلا على القليل النادر ولكنهم يخدمون هذه الأرض وهذه الحقول كما لو كانت ملكا خاصا لهم، وأن هذا المحصول سيدخل إلى بيوتهم وليس إلى بيوت أولئك الذين يستغلونهم بطريقة قاسية ,كنت أصغي إلى صوت الطيور الذي يبدأ مع انبلاج الفجر وحتى الغسق الأخير، إلى ثرثرة أمواج نهر “أبو ابشوت”، حفيف أغصان أشجار الصفصاف، أنطلق إلى المراعي الفسيحة التي تفتح من فوقها السماء مظلاتها الزرق ويفرشها العشب ببساطه الأخضر، أصغي إلى مزامير الرعاة منطلقين بماشيتهم إلى الحقول. أعرف أنها كانت حياة صعبة، وطفولة قاسية، كنت أسير حافياً، تذوقت لسعات الشوك والعاقول، تلوثت قدماي بالطين والتراب، لكنني كنت سعيداً بهذه الطفولة لأنني لا أشعر بشيء من الخوف والقلق، وأرى الأشياء وكأنها تصنع لي لعبة جميلة تضعها في يدي ,عالم الطفولة هذا يبقى قائما حتى هذه اللحظة التي أجلس فيها الآن أمامك وأنا قد تخطيت الستين من العمر. في كثير من الأحايين أتمنى أن أعود وأعيش هذه الطفولة حتى لو عن طريق استعادتها,هناك عزلتان عزيزي كريم، عزلة مرضية لا تخدم الشاعر إطلاقاً، كأن يكون منكفئاً على نفسه، منغلقاً على ذاته يشعر بالكبرياء والاستعلاء على الآخرين لأنه يمتلك شيئاً لا يمتلكونه، الشاعر هو أبن الحياة، أبن الناس بكل طبقاتهم وأبن المجتمع، منهم يغترف مادته الشعرية وأسلوبه وتجربته، فهو كإنسان همومه وأفراحه، حزنه وسعادته مرتبطة بهموم وأفراح وسعادة الآخرين وأحزانهم أيضاً، هذا إذا كانت العزلة عزلة انطوائية حتى لو أنتج الشاعر شعراً لا أعتقد أنه يكون مؤثراً في مجتمعه، وإنما ينطلق من ذات مريضة ومنغلقة على نفسها لا تصل إلى الآخرين ولا تعبر عن وجعهم. وهناك عزلة إيجابية، الشاعر يحتاجها بين الحين والآخر ليختلي بنفسه ويراجع أيامه وزمنه وأدواته وخزينه المعرفي ويعرف إلى أين وصل، وهناك عزلة تفرضها ظروف خارجية، خارج إرادة الشاعر تضطره إلى أن يعتكف في بيته، لكنه خلال هذه العزلة لا يستطيع أن ينقطع عن عالمه الشعري .أنا عشت أكثر من عزلة في الحقيقة، تصور إنها أفادتني ولم تضر بي. بعد صدور ديوان المرأة مملكتي في العام 1982 حدث انكسار عنيف في حياتي، أنا إنسان عشت منذ طفولتي في أحضان المحبة، أنا أحب، وتشكل المرأة في حياتي عنصراً مهماً لا أتصور إني أعيش يوماً واحداً من دون وجود امرأة في حضورها المتجسد أو أستحضر نساء عشنَّ في حياتي، إنهن الزيت الذي يغذي تجربتي، لا أنظر للمرأة ككائن حسي للمتعة أو شيء آخر، أنا أعطي للمرأة امتداداً مطلقاً كونياً، هي الحياة هي الحرية هي البوابات التي تنفتح على أوسع جهات الحلم، لو فهمنا المرأة كما ينبغي لما أحسسنا بالألم، المرأة هي سلام النفس وطمأنينتها، فأنا صدمت لأنني كنت في لحظة أعيش بحضرة امرأة أحبها، كنت عندما أجلس في حضرتها كأنما أجلس في حضرة حلم جميل رائع، وفجأة ينقض كابوس رهيب على هذا الحلم، يجتثه، يطعنه في القلب، إنها مسألة لم أحتملها فصدمتني بشكل مروّع مما اضطرتني هذه الحالة إلى أن أعتكف في بيتي ولعدة سنوات.
صحيح إنني انقطعت عن النشر منذ عام 1982 إلى عام 1992 لكن في عام 1992 صدر ديوان شتاء المراعي، أعتقد أن الذين كتبوا عنه اعتبروه نقلة مهمة في تجربتي الشعرية، بل اعتبروه تأسيساً مُرّكزاً لمساري الشعري، وربما أستطيع أن أتحدث عن ما كتبه الناقد حاتم الصكر عن هذا الديوان بحماسة شديدة، واعتبره ريادة شعرية في الشعر الرعوي الحديث، وقد فصل بينه وبين رعويات فيرجل أو غيره من الشعراء الرعويين في القرون السابقة، وقد اعتبرني لم أسر على خطى هؤلاء وإنما أخضعت القصيدة الرعوية إلى شرط العصر الحالي، فاتخذت بعداً حضارياً بدلا من أن تنتكس القصيدة وتعود للوراء. فعزلتي هذه أفادتني وأعطتني الشيء الكثير.
*إلى أي مدى تقاوم القصيدة الرعوية أو الشعر الذي يناجي الطبيعة والتغزل بالحياة البدائية.. أمام عالم كل شيء فيه يتغيّر بسرعة هائلة، كما لم يفارق الوزن والإيقاع قصيدتك للآن، ألا تعتقد أن قصيدة النثر فرضت حضورها، رافضة قيود الوزن والإيقاع واستفادتها من الأشكال الفنية الكتابية والبصرية، وطبيعة تناول موضوعاتها؟
– أنت إذن لم تفصل قصيدة النثر عن قصيدة الوزن أو الإيقاع بتوصيفك لها بهذا الوصف، الشعر هو الموسيقى، الآن حتى لو رجعت إلى الشعر الغربي الحديث تجد أن العديد من الشعراء ما زالوا يحافظون على الإيقاع وعلى الأوزان، وحتى على القوافي تقريباً. أعتقد إنني أنظر إلى هذه المسألة التي تعتبرها أنت، وربما يعتبرها الكثيرون غيرك إنها تسبب إشكالية نقدية، لكنني لا أرى فيها إشكالية نقدية على الإطلاق، علينا أن نأخذ الشعر بمجمله دون تجزئته , إن التقسيمات الشعرية هي مسألة مفتعلة ، أنا أسمي قصيدة النثر (قصيدة ) لأنني عندما اسميها قصيدة نثر أُسئ إليها، لماذا؟ التشكيل الفني البنائي للقصيدة العربية منذ عصورها الأولى إلى وقتنا الحالي أعتمد على ثلاثة أشياء: الشعر التراثي الكلاسيكي أخذ الوزن والإيقاع والقافية. أما القصيدة الحرة الحديثة أخذت الوزن والإيقاع وتخلت عن القافية.. قصيدة النثر أختصت بالإيقاع، فالإيقاع الشعري هو إيقاع موسيقي، إن التشكيل الفني والتصويري والموسيقي الذي تسنده إلى قصيدة النثر هو موجود في كل قصيدة مهما كان شكلها، إذا كانت قصيدة قائمة على بناء فني حقيقي. الآن أذكر لك مثالاً، أنت تقرأ عن المدرسة السريالية وتشاهد اللوحات السريالية وتعرف طبيعة حياة الكتاب والفنانين السرياليين، ولو رجعت إلى معلقة ” امرئ ألقيس ” وشرحّت بنيتها الفنية تشريحا حديثاً وفق النظريات أو المدارس الفنية الحديثة لوجدت أن ” امرأ ألقيس ” كتب قصيدة سوريالية، فلو قرأت لك مثلاً:
وليلٍ كموجِ البحر أرخى سدولهُ عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
خًذ أمواج البحر.. أرخى السد ول، حيث أصبحت الموجة بظلام الليل الكثيف، هذه صورة سوريالية. وهي تشبه إحدى لوحات ” دالي ” التي تمثلها امرأة تغطي عريها الأمواج فكم من القرون سبق امرؤ ألقيس ” دالي ” برسمه صورته السريالية عبر الكلمات أو نأخذ بيتاً شعرياً آخر من هذه المعلقة:
فيا لكَ من ليلٍ كأن نجومه بكل مغار الفتل شُدَّت بيذبُل
نجوم ومشدودة بحبال، وهذه الحبال مشدودة إلى الحجارة الصماء، هذا تشكيل سريالي أيضا ً، وكذلك خُذ بعض قصص ألف ليلة وليلة وغيرها.. لقد أطلعت على أغلب المدارس النقدية ودرستها بشكل ليس عاديا وطبقت الكثير من نماذجها على شعرنا القديم والمعاصر ووجدت أن إبداعنا لا يقل إدهاشا ً عن الإبداع العالمي ، أنا حينما أقرأ قصيدة لكريم النجار أو غيره في صحيفة أو مجلة لا يهمني بأي شكل كتبت، أنا أراها قصيدة، ولا أسميها قصيدة نثر.. يهمني ما الذي حققه الشاعر من جوهر الشعر في هذه القصيدة , إن قصيدتي تحوي قدراً كافياً من الغنائية أو تستند إلى الجانب الرعوي أو الريفي أو القروي، فباعتقادي لو درست هذه القصيدة دراسة معمقة لوجدت أنها قصيدة حديثة بكل معنى الحداثة، فهي تعيش معك ومع الآخرين وصورها تحتمل التحليل البنائي والتفكيكي ، وتحتوي على حشد من الرموز، لكنها رموز شفيفة وحقيقية وليست مقحمة، و إلا لما استمرت قصيدتي ولما واصلت الكتابة إلى هذا الحد ,القصيدة التي أكتبها تنبع من التشكيل الداخلي، القصيدة هي حياة تعيش في داخلك، فيها جزء من طفولتك وصباك وحتى شيخوختك، إذن هي تأتي عندما تتشكل داخلياً وتحمل رموزها وتشكيلاتها وصورها دونما أي مؤثر خارجي .

*لنرجع قليلاً إلى البدايات، كيف تفتق وعي الشاعر عيسى الياسري على عالم الشعر، وبشكل خاص إذا كنا نعرف أنه كان يعيش إحدى القرى من جنوب العراق بعيداً عن المركز الثقافي أو بعيداً عن المدن والجماعات والمحاور الأدبية التي كان يفور بها العراق أبان الستينات.
– ليس فقط خلال الستينات، قل أنا طفولتي بدأت في بداية الأربعينات في القرية، البداية تبدأ على هيأة حلم، وأنا صغير كنت أحلم، كنت أجلس تحت ظلال الأشجار وأسرح بعيداً، لكنها كانت أحلام غير محددة، كنت أحس في داخلي أن كل ما حولي يثير فيّ شيئاً غامضاً من الدهشة والغرابة، شيئاً لا أستطيع تفسيره، ولكن أحس تأثيره في داخلي بمرور الزمن . أنا مدين لأستاذي الأول والدي، هو الذي رعى بداياتي وأكتشفها وشجعها، أما عن قولك إنني كنت بعيداً عن مركز الثقافة في المدينة، فحقيقة أن هذا البعد خدمني خدمة كبيرة، لماذا؟.. تعرف أن كل المجموعات المتقاربة مع بعضها يحدث لديها تأثير مشترك أحدها في الآخر، وهذا التأثير ينعكس بطريقة وأخرى على ما يكتب، أما أنا فكنت بعيدا ً عن هذا الجو، كانت تجربتي تتشكل بطريقة خاصة تماماً، وعندما التقيت بهذه المجموعات كانت لي شخصيتي الواضحة، ومفردتي المختلفة. مثلا في منتصف الستينات حينما خرجت القصيدة التجريبية الحديثة كنت أقتطع بعض المقاطع من القصائد وبشكل خاص المتفقة في الأوزان، آخذ من كل شاعر مقطعا ً وأعمل منها توليفة بحيث لا تفرق فيها بين صوت هذا الشاعر أو ذاك، هذا الشيء أحسست به منذ البداية، يجب أن يكون للشاعر صوته المختلف، فأنا عندما أسمع قصيدة عبر الراديو أو أقرأها في صحيفة لا تحمل أسم شاعرها أقول هذه للسياب، أو أستمع إلى مقاطع نثرية معينة أقول هذه لجبران خليل جبران. أهم ما يميّز الشاعر صوته، إذا أندغم صوته بصوت الآخرين أفتقد أصالته وحقيقته، فأعتقد أن بعدي عن هذه المجموعات أو اتصالي بها بعد أن نضجت تجربتي تقريباً شكلت لي حماية خاصة وأعطتني صوتي الخاص وقصيدتي الخاصة والتي أحبها الآخرون، وأحبها قراء ليسوا عاديين، إنما أحبها قراء لهم ثقافتهم ولهم وجهات نظرهم النقدية وتفاعلوا معها، وأعتز بكل الكتابات النقدية التي كتبها قراء متذوقون للشعر وبعض النقاد المتخصصين. في نقد الشعر .
* بمناسبة الحديث عن النقد، كتبت الشعر ونشرته أواخر الستينات، وكان لك حضوراً فاعلاً منذ أصدرت ديوانك الأول (العبور إلى مدن الفرح) عام 1973وما تلاه من دواوين أخرى. تواجهنا أسئلة عديدة عن دور النقد، حيث لم ينصفك النقد كما يجب داخل العراق وخارجه، ولم تصنف ضمن جيل أو ظاهرة شعرية أعتاد النقاد دائما استدراج الشاعر إلى هذا التوصيف أو ذاك.. أود هنا أن نسمع رأيك بخصوص النقد الأدبي العراقي والعربي وكيف يكون الاهتمام أحيانا باسم شعري على حساب شاعر آخر؟
– هناك عدة أسباب تدخل في هذا الجانب، أعتقد أن نقدنا العربي بصورة خاصة كان نقدا منصفا في أواخر الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي، لأن الناقد كان متجرداً من أي مصلحة نفعية، كان لا يخدم إلاّ أداته النقدية الكتابية الفاعلة، فهو عندما يكتب عن عيسى الياسري ولم يحدث أن التقى الياسري ولم يعرف شيئاً عنه، فقط أمامه نص وهو يكتب عن النص، وأنا أذكر ذاك الوقت مع كثرة الشعراء كان يقابل هذا عدد من النقاد ألأمناء. دعني أضرب لك مثلاً على ذلك حين نشرت أول قصيدة لي في مجلة الآداب البيروتية، وهي أول قصيدة كنت أبعثها للآداب وتنشر في خلال شهرين، وهذه مسألة ليست طبيعية خصوصاً إذا عرفنا أن رئيس التحرير أستاذنا ” الدكتور سهيل إدريس ” لم يكن يعرف شخصاً أسمه عيسى الياسري ولا سبق وأن نشر شيئا من قبل. كذلك فإن الناقد ” الدكتور صبري حافظ ” الذي تناول القصيدة في زاوية ” قرأت العدد الماضي من الآداب ” لم يعرف شيئا عني وكتب بطريقة جميلة ورائعة ومشجعة، بعد فترة شهرين بعثت قصيدة أخرى للآداب ونشرت وكان هناك برنامج ثقافي أسمه ” البرنامج الثاني ” تقدمه إذاعة القاهرة كان يبث لمدة ثلاث ساعات يوميا ويركز في بثه هذا على الثقافة والفنون فقط ، كنت أتابع هذا البرنامج باستمرار فهو سلة ثمار أدبية مدهشة، وبعد صدور مجلة الآداب التي وجدت فيها قصيدتي التي كانت بعنوان (حوار بين محكومين بالإعدام) الحوار كان يدور بيني وبين نهر أبو ابشوت الذي اغتيل عام 1959 حيث كان يرضع من نهر دجلة وقطعوا الحلمة التي كان يرضع منها ووضعوا سداً ترابياً عليه، وكان نهراً عظيماً يسقي حقولا شاسعة.. اعتبرت في هذه القصيدة هذا النهر كائناً حياً حكم عليه بالإعدام، وأنا مثله محكوم بالإعدام.. فكنت أحاور هذا النهر، وفوجئت أن هذا البرنامج يتناول في إحدى حلقاته القصائد التي نشرت في مجلة الآداب ومن ضمنها هذه القصيدة. كان المتحاورون أذكر منهم الدكتور عبد القادر القط و الدكتور محمد شكري عياد وأستاذ آخر لا أذكر أسمه، وكان يدير الندوة الشاعر المصري الكبير فاروق شوشة، وعندما وصلوا قصيدتي توقفوا عندها لما يقرب من النصف ساعة ولم يعط لبقية القصائد المنشورة إلا وقتاً أقل بكثير، وكان هناك شعراء مهمين وأطول مني باعاً وأكثر تجربة.. ولا أريد أن أذكر هذه الأسماء، وكان تقييمهم للقصيدة أنها متفردة لأنها تتحدث عن موضوعة جديدة لم يسبق لها أن طُرقت في الشعر العربي حيث يتوحد فيها الشاعر مع الأرض ومع الطبيعة و يبعث الحياة في كائن جامد.كان عندنا آنذاك نقدا منصفاً وكان النقاد مربين من الطراز الأول، وبعد هذه المرحلة وعندما ظهرت حوافز معينة وأصبح بعض الشعراء يحتلون مواقع في المجلات والصحف والمؤسسات الثقافية ظهر الجانب النفعي في النقد.. ولا أذكر إني حملت كتاباً وأهديته إلى أي ناقد.. بالعكس أهديت كتبي إلى قراء بسطاء، ونادراً ما كنت أهدي كتابي لناقد إلا إذا جاء هذا الناقد إلى مكان عملي .
* هل كنت تتوقع هذه القطيعة بينك وبين النقاد، لذلك لم تقترب أو تسعى إليهم؟
– بصراحة كان لدي خجل، أخجل أن أقدم كتابي لناقد أخشى أن يفكر هذا الناقد بأنني أستجديه للكتابة عني، وأنا شديد الحساسية تجاه هذه المسألة، ربما أحملها أكثر مما تحتمل، ولكن هذه هي الحقيقة.. ويبدو أن النقاد كانوا يريدون أن يشبعوا بعض غرورهم أو يريدون من الشاعر أن يأتي ويقدم لهم نتاجه ويطلب منهم الكتابة عنه. أنا أعرف الكثير من الشعراء يذهبون ويقبلون أيدي هؤلاء النقاد، أقسم أن أحدهم قبل يدي ذات مرة حتى أكتب عنه.أنا من الذين لا يجيدون الدعاية لأنفسهم، أذكر لك هذه الحادثة.. فقد دعيت إلى مهرجان الشعر العربي في الأردن في إحدى المرات.. قالوا لي أن هناك شاعراً من لبنان سوف يأتي ويصل هذه الليلة (وأنا هنا لا أريد أن أذكر أسماء) جاءني المشرف على المهرجان وطلب مني أن أرافقه لغرفة هذا الشاعر لأجل السلام عليه، وحينما دخلنا رأينا الشاعر يجلس ببجامته الثمينة ومظاهر الترف ظاهرة على هيأته، وكان ممتعضاً وغاضبا وقال لمنظم المهرجان أنكم أنزلتموني في فندق يصلح لشاعر من الدرجة العاشرة.. امتعضت من هذا الشاعر وتركت الغرفة وخرجت، كنا نقيم في فندق جميل وراقٍِ، وكان يطلب استبدال الفندق، فقلت لهذا الرجل إذا استبدلتم هذا الفندق فأنا باق في مكاني لكن الفندق استبدل . وحين قرأ هذا الشاعر قصائده كان فعلا هو شاعر من الدرجة العاشرة، لكنه كان محفوفاً باهتمام بالغ من قبل الصحافة الأردنية ومن المسئولين والنقاد، لا أعرف كيف يبني هؤلاء شخصيتهم، أنا لا أجيد الإعلان عن نفسي.
* ذكرت أنك طوال عشرين عاما لم تُدع إلى أي مهرجان أدبي داخل العراق، كمهرجان المربد أو غيره رغم وجودك داخل العراق كل هذه السنين ورغم أن الجهة الرسمية المنظمة كانت تستجدي حضور الشعراء لهذه المهرجانات، لماذا باعتقادك يتحاشون دعوتك؟
– لا أعرف السبب بالضبط، يبدو أن لا صلة لي بمنظمي المهرجانات تلك، لأنني لم أقدم لهم فروض الطاعة والانحناء ومدح السلطة . ثم إني لم أكن متحمساً ولا طامعاً بهذه المشاركة، في حين كان يدعى لمثل هذه المهرجانات شعراء ذوو إمكانات متواضعة وبسيطة.. ولم أقف على خشبة مهرجان المربد مرة واحدة.
* أخيراً ماذا ستضيف جائزة ” الكلمة الحرة العالمية ” التي منحت لك هذا العام من قبل مهرجان الشعر العالمي في روتردام، التي جاءت متأخرة ومن جهة لم تتوقعها على نتاجك الشعري مستقبلاً؟
– لا أعتقد أنها أضافت لي شيئاً يجعل مني أغادر مواقعي الحقيقية التي أقف عليها، لكنني شعرت إنني كرمت من قبل أناس بعيدين عني جدا، ولا أعرف كيف وصلهم أسمي، أنا رجل منعزل ولا أحد يتحدث عني أو يذكر أسمي، عكس البعض من الشعراء البسطاء الذين يجوبون الوطن العربي والعالم ويحضرون أماسي ومؤتمرات.الجائزة أعطتني شيئاً من العزاء النفسي والمواساة وخففت عني بعض الشيء وحشة المنفى وبعدي عن الوطن، شعرت أن خروجي من الوطن لم يكن عبثياً، على الأقل حين غادرت وطني لم يندثر أسمي تماما.. أنا سعيد لأن هذه الجائزة أوصلت صوتي وكلمتي إلى آخرين لم أحسب إنني سأصل إليهم في يوم ما، لكن هل يدفعني هذا المهرجان وهذا الاحتفاء أن أكتب أكثر، أنا أكتب وحالتي لم تتغير، لن تغيرني هذه الجائزة أو غيرها ولن تقتلعني من مكاني أو تجعلني أبحث من خارج ذاتي لأكتب شيئا مغايرا ً، الذي كان يأتي قبل الجائزة هو يأتي بعدها كذلك، لكن بالتأكيد عززت إيماني بما أكتبه وأحب ما أكتبه، كما أنها جعلتني أكثر ثقة بأنني سرت على طريق صحيح ولم أنحرف عن هذا الطريق على الإطلاق لأنني كنت أصغي إلى صوت الشعر في داخلي دون أن أتأثر بأحد أو مدرسة معينة، مع العلم إنني متفاعل مع الإبداع، أقرأ قصيدة لشاعر مبتدئ بحب مثلما أقرأ قصيدة شاعر كبير وعظيم ومشهور.

* هذا يحيلنا إلى سؤال جوهري ويثير في النفس الشجون لدى الكاتب العراقي أحياناً، لماذا لم يدعَ الشاعر العراقي إلى مهرجانات وأماسٍ شعرية تعقد سنويا في العديد من البلدان العربية، رغم حضور الشاعر العراقي الكبير على الخارطة الشعرية العربية، ألا تعتقد أن في ذلك إجحافاً كبيراً بحق الشاعر العراقي؟
– نحن لدينا ثلاثة أنواع من الشعراء الذين يدعون إلى هذه المهرجانات، إما أن يكون شاعراً مسلحاً بإعلام الثقافة الرسمية للسلطة التي تنشر أسم هذا الشاعر في داخل العراق، أو يكون خارج العراق منضويا تحت يافطة قبيلة شعرية لها مناصروها أو تيار إيديولوجي محدد، أو يضم نفسه تحت راية قضية مصيرية كالقضية ” الفلسطينية ” مثلاً. أما الشاعر الذي لا يسنده إعلام رسمي وليس منضويا تحت إيديولوجية معينة ولم يعلق قصائده على شماعة وجع الإنسان العربي كي يستفيد من هذا الوجع ويتمنى استمراره، هذه بعض الأسباب التي جعلتنا لا ندعى لبعض تلك المهرجانات، أنا أقمت في الأردن لمدة عامين ونصف، عقد خلالها مهرجان جرش لمرتين طوال إقامتي ولم أدع أليه رغم حضور شعراء دون المستوى، أكيد أن هذا الأمر محبط لنا، لكننا نحاول تحاشي هذا الإحباط وأن لا يسبب لنا حجر عثرة في مسيرتنا.
* تكوينك الشعري ولد في المدينة، رغم حسك الشعري الرعوي وحضور الجنوب الطاغي في قصيدتك، وما يعني ذلك، هل أضافت المدينة أو استلبت من الشاعر الياسري أشياء محددة؟
– المدينة أضافت لي الشيء الكثير، عندما تقف على الأرض التي ولدت عليها تحبها وتتفاعل معها، لكن أحيانا قد تتعرض لبعض المنغصات الموجودة في هذه الحياة فتطمح أن تعيش في المدينة، كنا في القرية عندما يهددنا فيضان النهر بالغرق، عندما تثور العواصف والزوابع، عندما تحترق بعض البيوت بالنيران أصاب بالخوف والهلع، وكنت أتمنى أن يكون هذا الكوخ القصبي من الطين أو الطابوق حتى يحمينا، وكنت أغبط سكان المدينة على بيوتهم وأتمنى أن أعيش وسطهم.أنا كتبت داخل القرية وكنت أضحك عندما أذكر في بعض القصائد شرفات البيوت أو عناصر لها علاقة بالمدينة، كانت تأتيني تأثيرات بعض الشعراء حينها، وخاصة من السياب ونزار قباني، ليس بشاعر من لم يتأثر بشعراء عصره أو ممن سبقوه، لكن هناك فرق بين التأثر والتقليد، أن تكون مقلدا فأنت لست بشاعر.تجربتي نضجت في بغداد وأنا مدين لها، لقد ارتعبت عندما دخلت بغداد أول مرة، كنت خائفاً بشدة وكدت أختنق، وحاولت الهرب منها، لكن بغداد أمسكت بي بقوة ولم تعطني فرصة الهرب والعودة إلى مكان آخر، بغداد جعلتني أرى قريتي بطريقة أخرى ومنحت رؤيتي اتساعا، جعلتني بدل أن أرى قريتي بتلك الطريقة البدائية الساذجة البسيطة أن أعطيها عمقاً حضارياً وإنسانياً، أراها جديرة بأن تكون الحياة مشكلة على هيئة قرية لكن ليست على غرار القرية التي كنت أعيشها، التي يتوفر فيها الكثير من الخوف والاستلاب واضطهاد الإنسان الفلاح المعدم، أن تكون أكثر تنظيما كي تنسحب من ضجيج المدينة وصخبها، بغداد هي التي أنضجت أغنيتي التي كما قلت تشكلت في القرية وبغداد هي التي أنضجت هذه الأغنية ونشرتها، القرية هي الحاضنة وبغداد هي الأم.
*بعد أن جربت العيش في المنفى والبعد عن العراق وعن بغداد، وأصبحت في منفى كندا البعيد عن عالمك الذي عشته طوال هذه السنوات الطويلة والتجربة الغنية، ماذا يفعل الشاعر عيسى حسن الياسري في منفاه الجديد؟
– أعتقد أنه يموت كل يوم في هذا المنفى، المنفى هو الموت الحقيقي، عذاب يومي، جحيم على مدار الساعة، أنا أذكر لك هذه الحادثة التي تجعلني أبكي:
أقيم معرض للكتاب في سوق أسمه ” البورتج ” في المدينة التي أسكن فيها في
” كندا “وحينما قدمت من بعيد رأيت رجلاً يرتدي قبعة وله شعر طويل من الخلف وبيده عكازان، أول صورة قفزت في ذهني أنني في شارع المتنبي، وهذا الشخص الذي يرتدي القبعة ويتوكأ على عكازيه هو صديقي الروائي ” عبد الخالق ألركابي “، صدقني سرت مسرعا وأنا أعيش هذه الحالة حقيقةً، وعندما وصلت الشخص كنت على وشك أن أفتح ذراعي وأحتضنه، التفت رأيت في وجهه غريبا فأشحت بوجهي وبكيت، وما زلت كلما أتذكر هذا المشهد لا أتمالك نفسي من البكاء. فالمنفى هو موت حقيقي، لكن ما يعزينا إننا نقاومه بالحلم، حلم العودة إلى الأرض التي سنصلي على سجادة ترابها في يوم ما إنشاء الله.صحيح يكون المنفى أحيانا أكثر تحفيزاً للشاعر، لقد أنجزت ديوانا كاملا بعام واحد، هناك اختناق وحصار عميق وقاس يطبق عليك من كل الجهات، وحشة قاتلة، بماذا تقاوم هذه الحالات التي تريد أن تكتم أنفاسك بغير الشعر.لو إنني اعتبرت هذه الجائزة فتحا كبيراً في حياتي وأنها ستحبب لي المنفى، سأتوقف عن الكتابة وينتهي كل شيء، عندما نتآلف وننسجم مع المنفى فإننا سنقتلع من جذورنا، علينا أن نصمد، ماذا نكتب؟ أعطاني المنفى شيئاً كبيراً لم أحلم به في الحقيقة، لم أحلم أن أقف على منصة وقف عليها ” رافاييل البرتي ” ووقف عليها ” كارلو موركن ” و” الطاهر بن جلون “.. باحتراقنا إلى الأرض التي ولدنا عليها سوف نجعل من المنفى أن يكون أكثر اهتماماً بنا وبما نكتب، يجب أن نفرض أنفسنا على المنفى لا أن ننقاد إلى هباته، و إلا سنتوقف عن الكتابة.. أنا أعتبر هذه الجائزة منحتها لي قريتي التي شكلت تجربتي الأولى، منحتها لي مدينة بغداد التي أنضجت تجربتي، وأيضاً منحتها لي غربتي التي عشتها في المنفى.

…………………………………………………..
*كريم النجار .. شاعر وناقد تشكيلي .. نشر الحوار في موقع إيلاف ,وجريدة القدس العربي .