إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تعدّ هذا الملف للاحتفاء بمبدع عراقي كبير هو موسوعة العراق الحديثة بحق، قافلة من المبدعين التمت في شخص واحد، صاحب أعظم خدمة قدمها مثقف لثقافة وطنه في الخمسين عاماً الأخيرة .. الأستاذ حميد المطبعي.. هذا الرمز الثقافي والنهر الفذ المعطاء صرعه الشلل الذي لا يرحم وأبعده عن ساحة إبداعه ..
تدعو أسرة الموقع الأحبة الكتّاب والقرّاء إلى إغناء الملف بالدراسات والمقالات والوثائق والصور.
المقالة :
ـ حميد المطبعي ، باحث، مؤرخ ، ورحالة ، ولد في النجف الأشرف عام 1942، ودرس في معاهدها العلمية . اصدر اكثر من ثلاثين كتابا في الرحلات والحضارة والتاريخ .
منذ فجر حياته ، آمن بالإنسان فكرا وفلسفة ومنهجا جدليا ، وعلى هذا نشأ وبه كتب .وجعل ينهل من منابع الفكر قراءة وتتبعا ومناقشة . وكان لحسن حظه أنه حاور في محيطه ،يومئذ ،في مدينة النجف الاشرف ، مثقفين من بلدته ، يحملون فكرا تنويرا ، وعقولا تسعى الى ارساء مبدأالتسامح واحترام الآخر . فنشأ محبا للجميع ، معتزا بالعلم والأدب والفنون عامة. وأتيحت له فرصة في قراءة ما يرد الى العراق من مطبوعات متنوعة ، كان يطالعها بنهم ويناقش فيها سواه . ثم اختط لنفسه منهجا خاصا به .
لم أكن من أصدقاء حميد المطبعي المقربين ، لكنني كنت مأخوذا في شبابي برجل يصدر (مجلة) في وقت مبكر ، ومن دون امكانات مادية كافية ، ويكون لهذه المجلة صدى واسعا ، وتترك لها بصمة على مر الزمن . علمت فيما بعد أن اصدار مجلة الكلمة كانت جزءا من نشاطاته وحضوره سواء في تأسيس المجالس الادبية ومنها ( ندوة الآداب والفنون المعاصرة )، أو اتفاقه مع مجموعة من الادباء في مقدمتهم الراحل موسى كريدي على اصدار مجلة .
كان يقرأ لي ما انشره في الصحف ، وكنت اتابع كتاباته التي هي اقرب الى الفلسفة منها الى الادب . وكنت حين أصادفه في مكان ما ، يتوقف ويسلم عليّ بود ، فاسمع صوته المميز الذي يسمعه الجميع، يوصيني أن اكتب في الصحافة وان لا أتوقف ، وكان دأبي ان اعتزل مدة ، منهمكا في القراءة والكتابة ثم اعود الى الصحافة في وقت لاحق، وكان حميد المطبعي يقول لي فلسفته في النشر : إن القلم يتأثر بالتوقف عن الكتابة فلا يأتي بجديد، وهو بسبب ذلك ، لا يوافقني على هذا التوقف ، فأخذت بنصيحته ،فصرت أكتب عمودا اسبوعيا عنوانه ( تحت الشمس).
وجاء من يخبرني ان حميد المطبعي يسأل عنك ، وكنت أظنه يطلبني في أمر يخصه . وحين قابلته ، دفع اليّ باستمارة، وطلب اليّ ان اتمها مع صورة ليضمني الى موسوعة الادباء والعلماء التي يكاد ينجزها . وتقاعست فلم أرسلها اليه ، وصادفني من جديد، وراح يجلجل بصوته او يضحك ضحكته المميزة طالبا انجاز الاستمارة ،فقد أوشك (حرف العين) ان يكتمل على حد قوله .
ولأنني أسجل انطباعاتي عن الأشخاص الذين التقي بهم ، فقد سجلت في مذكراتي عن حميد المطبعي عام 1988): هذا رجل كريم ، يبحث عن الآخرين ليقدم لهم خدمة ، بل انه زار كل العلماء والمفكرين في العراق ليوثق حياتهم في موسوعته الشهيرة ، فهل يجود الزمن بمثله ؟ انه موسوعة من العطاء التي لم يوثق حياتها احد).
واشهد اليوم ، أن لا أحد يقدم للآخرين من قلمه كما قدم ، مع أنه صاحب قلم معطاء ، يجود بالفكر الفلسفي ، والحرية، ويناقش بعمق مديات العطاء الانساني بفكر جدلي عميق .
ويعلم أنه كاتب ذو مهمة مقدسة ترتبط بالوعي وتؤدي اليه ،فيقول :
ـ ( ابتليت بالكتابة ، وكلما تألق ايماني بالكتابة ، شبهت الوطن بالملائكة ، لا فرق بين الوطن وبين الملائكة ، فهما من جنس واحد اسمه العراق ، وكلما كبر العراق في عيني رميت بسهم قوي ، وكلما ضعف العراق في عيني ، رميت بسهم اقوى ، لا فرق بين العراق وبين الايمان .).
ويضيف صارت لديّ الكتابة : حرفة ، أدميت لها عينيّ، وزلزلت زلزالها فما فرحت ، أيفرح كاتب يرى مظلوما أو كونا ناقصا او وردة في حقل شوك ).
وقد اثنى الدكتور علي الوردي على جهود المطبعي ،فقال :
ـ ( إن المطبعي رجل دؤوب يعمل ليل نهار بلا كلل ، وهو بالإضافة الى ذلك لا يبالي بما ينال من جزاء على تعبه . وقد يصدق عليه المثل الشعبي القائل ” يركض والعشا خباز″ وهناك ناحية أخرى في المطبعي هي انه يعرف كيف يعامل الناس ، وكيف يخاطب كل انسان بما يلائمه . وهذا فن لا يتقنه إلا القليل من الناس ).
ويبين نقطة الاختلاف بينه وبين المطبعي، فيقول :
ـ (اختلف معه في صفة واحدة هي أسلوبه في الكتابة .فهو أسلوب اقرب الى طبيعة الشعر منه الى طبيعة النثر وقد يصح ان أطلق عليه اسم الاسلوب الرومانطيقي).
ومهما يكن من أمر، فان المطبعي ، يبقى هو من انجز موسوعة المفكرين والادباء العراقيين ،وهو يقول عن نفسه :(أرضيت نزاهتي في أعلامنا ،وأديت الزكاة لتاريخهم ،فنحن كلنا مدينون لأعلام العراق،فيما أبدعوا من علم ،وفيما أنتجوا من عقل ،وفيما أرادوا ان يكملوا الشوط الطويل الذي ابتدأت به مدرسة بغداد في التاريخ ،وفي بناء التاريخ الانساني).
وكلنا مدينون للمطبعي، بما قدم من خدمة لهذا التاريخ.