ناقدة وأكاديمية من العراق
إشارة : رحل شاعر العرب العظيم ومؤسّس الحداثة الشعرية العربية “بدر شاكر السيّاب” في يوم 24 كانون الأول من عام 1964 ،وكان يوماً ممطراً لم يعثر فيه الشاعر “علي السبتي” على بيت السياب في الموانىء بالبصرة فقد أفرغته الدولة من عائلته لعدم دفعها الإيجار، فسلّم التابوت لأقرب مسجد. وعلى الرغم من مئات المقالات والدراسات والكتب والأطروحات الجامعية التي كُتبت عن منجزه الشعري فمايزال هذا المنجز الفذّ مكتظاً بل مختنقاً بالرؤى الباهرة التي تنتظر من يكتشفها. تهيب اسرة موقع الناقد العراقي بالكتاب والقرّاء الكرام إلى إغناء هذا الملف عن الراحل العظيم.
المقالة :
لم يعد النص الشعري بنية مغلقة ، بل هو فضاء مفتوح في كل الاتجاهات وفي أي أوان.. إلى الدرجة التي لا يعود فيها وجود للحدود المكانية أو الزمانية بين الأجناس ليصبح اللاتحديد واللاتأطير سمة مميزة لطبيـعتها اولا وملغية للكيان الخاص بها اخرا.
وتشكل قصيدة (مدينة بلا مطر) للشاعر بدر شاكر السياب ، ترسيمة شكلية مفتوحة تتزامن فيها تقاطعات البياض مع السواد، والظاهر مع الباطن، والأفقي مع العمودي، والداخل مع الخارج، والفراغ مع الامتلاء، والانفتاح مع الانغلاق، والأدب مع الحياة، والإنتاج مع التلقي، والذات مع الموضوع، والمتناهي مع اللامتناهي.. من منطلق أن الهوية هي وعي الفرد بوجوده المكاني والزماني وتعرفه على وعي الآخرين به.
ويصف (هولاند ) الهوية بأنها تشبه الوحدة تماما بحيث أننا نستطيع حالما يتم تحديد الوحدة والهوية والنص والذات أن نملأ الفراغات البيض القائمة بينها بالشكل الآتي الوحدة / الهوية = النص / الذات .. والوحدة بالنسبة للهوية هي كالنص بالنسبة إلى الذات
ويوحي المقطع الافتتاحي للقصيدة بانتهاء فكرة القصيدة ولكنه في الآن نفسه يؤسس لابتداء انفتاحها من جديد في نقطة الصفر نقطة التلاشي:
تُحمُّ دروبها والدُّور ،ثم تزول حمّاها
ويصبغها الغروبُ بكلِّ ما حملتْه من سُحُب
فتوشك أن تطير شرارة ٌ ويهبُّ موتاها :
ولو كانت بابل خضراء وتموز يعود لعشتار ، فما الضير الذي يخشاه الشاعر من تلك العودة ؟ !! أليس في انبعاث تموز ولقائه بعشتار انتصار لإرادة البقاء والتحدي في روح المدينة الحالمة ..؟!ا
إن المفارقة التي يرسمها السياب هنا تأخذ شكل الانقلاب النصي ، فبدلا من إن يتلمس القارئ المتلقي بوادر انفراج المدينة نحو النهاية السعيدة ينفتح لديه النص من جديد :
صحا من نومه الطيني تحت عرائش العنب
صحا تموز ، عاد لبابل الخضراء يرعاها ..
فتموز هو البطل الذي تُسرد حكايته على لسان راو كلي العلم يغلب التفصيل على الإجمال ، وهي حكاية بطل يصحو بعد سبات شتائي خامد بحيوية صيفية هادرة..فتكون ثنائية (الصحوة / النوم) انعكاسا لتراتبية الزمان ( الشتاء/ الصيف ) ؛ فللشتاء دلالته (النوم الطيني) وللصيف قرينته ( عرائش العنب ) مع انتقال المكان من (اليونان أو بلاد الإغريق ) إلى (بايل / بلاد الرافدين) .هذا هو المكان / الجديد الذي به يتأكد التحول المكاني في فضاء النص المفتوح ..
ويواصل الراوي فعل السرد ، فقد عاد تموز إلى بابل الخضراء يرعاها وعودته ليست عودة بناء أو تغيير فبابل خضراء مزدهية في أبهى صورة لونية يرسمها الشاعر… لكن التغيير يحدث حين يختل التوازن عبر دلالة الفعل ( توشك ) إذ تبدو الحبكة ،كأنها وصلت إلى الذروة :
وتوشك أن تدق طبول بابل ،ثم يغشاها
ويأخذ اللاتوازن تشكيلا تصويريا صوتيا، إذ أن طبول بابل توشك أن تدق ومن ثم يغشاها صفير الريح في أبراجها وانين مرضاها.. مع مسحة قاتمة مليئة بالتشاؤم فتتغير صورة المشهد من اللون التفاؤلي المبتهج متمثلا بعودة ( تموز إلى بابل ) إلى اللون المأساوي المتمثل بغشيان ( الريح على الطبول وتفشي المرض )
لينكفئ بنا الشاعر الى الإياب / الحاضر فتكون متلازمة ( الدم والخبز والشمس ) هي الملامح المعاشة التي توجز هذا الحاضر في (بابل / آذار ):
تؤوب إلهةُ الدمِ، خبز بابلَ، شمسُ آذارِ.
ونحن نهيم كالغرباء من دارٍ إلى دارِ
لنسأل عن هداياها.
وهنا يأتي التحول السردي من المشهد الوصفي إلى المشهد الدرامي ، فالسكون أطبق على المشهد المحكي لطبيعة المسرود .. مما حمل على الانفتاح نحو مستوى سردي آخر انه الحركة الدرامية التي ينقلها لنا السارد المشارك للأحــداث،( سحائب مرعدات .. قضينا العام بعد العام بعد العام .. نرعاها ).
فلقد أراد الشاعر لنصه أن يكون نصا ذا فضاء كوني ، ولو أن رساما رسم كلمات السياب لبدت لنا لوحة فنية خارقة، فشدقه أدرد بلا أسنان ، وفي عينيه شعلة زرادشتية أو برق ناري وعيناه مبخرة أوجرت أو نافذة انفتحت… ولتموز هيأة زمانية فهو عام يحمل جرحا بين هنا وهناك:
أفي عينيه مبخرتان أوجرتا لعشتار ؟
أنافذتان من ملكوت ذاك العالم الأسود :
هنالك حيث يحمل ،كلَّ عامٍ ، جُرحَه الناريّ ،
جُرحَ العالم الدوّار ، فاديهِ
ومنقذه الذي في كل عام من هناك يعود بالأزهارِ
والأمطار ــ تجرحنا يداه لنستفيقَ على أياديهِ
ولم يكن تموز المنقذ الذي ظل العالم ينتظره آتيا بالأزهار والأمطار ليعيد للأرض حياتها وحيويتها سوى حلم ، فالأزمان والأعوام تمر ولا أثر لذلك المنقذ ، فلا مطر ولا قطرة ولا زهر ولا زهرة ..!!
والعلامات الكتابية التي توشح الفضاء الكتابي للصفحة كالاستفهام والنقطة هي بمثابة شفرات توحي لنا بمكامن السؤال ومواضع الجواب سيميائيا .
إن قصيدة (مدينة بلا مطر) نص حداثي مشحون بحقول معرفية ولغوية وعلمية عديدة، وكأنه يحاكي الحياة في انفتاحها وتجددها.. فهو نص عضوي يمازج بين السردية والأسطورية معا..
والاستشراف الذي أراد الشاعر أن يجليه ويكشف عن رؤاه فيه ، هو استشراف مستقبلي لما سيكون عليه الغد الآتي..
وإذا كان السياب متنبئا بذلك الغد المشرق ، فانه تنبؤ يخلو من الانغلاق على تركات الحاضر المشين والواقع المرير لينتج هذا التنبؤ أفقا جديدا يفتح السبيل لتخليص الواقع من آثامه وليرسم صورة لمستقبل قادم خال من الخطايا والذنوب .