محمد خضير : محاورات حديقة زينب (5و6/ الأخيرة) (ملف/5)

mohamad khdier 8إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ بنشر هذا الملف عن المبدع الكبير القاص والروائي المجدّد “جمعة اللامي”، الذي طبع بصمته السردية الفريدة على الخارطة السردية العربية من خلال منجزه السردي الفذّ. تدعو أسرة الموقع الأحبة الكتّاب والقرّاء كافة للمساهمة في هذا الملف، بما يتوفر لديهم من دراسات ومقالات ووثائق وصور وغيرها، بما يُثري الملف ويُغنيه. تحية للمبدع الكبير جمعة اللامي.

النصّ : 
محمد خضير
محاورات حديقة زينب/5و6
24/07/2008
(5)

التغيُّـر

الغربة , الحلم , الكِتاب , سقوف نظامٍ يحتوينا بنسقه وخطابه ودلالته , نسق الحوار وخطاب الحديقة ودلالة الاسم المتضمَنة فيه .
مهما استطال هذا الحوار فسيجد وقفته على المسافة التي تختصر طوافه وتشعبه في نقطة لا تتزحزح عن سطرها . نطوف ثم نقف أو نستريح على مقعد ونتأمل بقية الليل الذي يشملنا برقته واتساعه . السطر طويل , يلتفّ ويلتفّ ثم يقف . الليل واسع , يطحن ويسحق ثم يهمس ويسكن . الحديقة نظام , يولّد ويفرّع ثم يختصر . ما أبدع هذا التجاوب بين ذاتين مغتربتين متعاطفتين مع ذوات العالم المحتجبة بخضرته , تجدلان حبل الكلام وتحلاّنه , تمسكان قطب الدوران وتستريحان بعد كل دورة ! وا أسفاه , حجّ وطواف ثم رحيل ! متى انحرفت حقيقة الأحاديث عن هذا النسق؟ وهل استطال لقاء في غير هذين المكانين , الحديقة والصحراء؟ أم خرج خطاب عن إرادة الاجتماع والألفة والمحاورة ؟
[ أنت وأنا : الابتداء والانتهاء , القِدم والحدث , اللاهوت والناسوت , الرسوخ والانخطاف . إنما عندما أردتُ أن أسري إلى حيث أنت , قلتَ لي : يا جمال الدين أبو يسار , إن هذه الطريق طريق الآلام , فما أجبتك . وقلت لي : يا جمال الدين أبو يسار إن الامتحان صعب , وعندما وصلتُ إليك , واخترقني نورك قلتَ لي: تجمّل بالصبر يا أبا يسار . البهاق هو جلد البشرية , وأنت تماديتَ في حبك , فانزع جلدك . انزع جلدك يا جمال الدين , وغادرْ إلى المستنقعات أو ارجعْ إلى مدينتك الأولى : ولكن إياك من التهيب .]

( قصة : كيف اغتيل جمال الدين أبو يسار : 1974 )

ـ استعملتَ نوعين من الأسماء في قصصك, أسماء العمر القريب, وأسماء التاريخ البعيد (سلمان المحمدي, سلم ين يوسف, جمال الدين أبو يسار, التستري). أين تكمن قوة الاسم التاريخي؟
ـ تكمن قوته في دلالاته التركيبية, وفي وظيفته الاستثنائية في تشخيص النص السردي. تجتمع في الاسم التاريخي قوى خفية قادرة على تقريب المسافة وتلخيص الحادثة واستخلاص الحكمة. وهي المهمات الثلاث للاسم في السرد, إلى جانب تمثيله التنكري للشخصية. شخّصت أسماء (ديرة العمر) السيرة الحقيقية لمدن الماضي القريب, أما أسماء التاريخ التنكرية فقد فتحت الأبواب أمام النسخ الجديدة من المدن القديمة. وكلا النوعين من الأسماء شاهد على حضوري في هذه المدن, وعبوري المسافة بين نسخها, وجوابي على سقوطها .
[ مريم بنت مطر , هي أمي . وإذ أستعيدها الآن من حضرة الموت لأتحدث عنها ـ يا شقيقة روحي ـ في حضرتك , فلأنّ روحها حلّت فيك , فأنتِ الآن أمي وحبيبتي وأختي , أنتِ سمائي التي ألتحف , وأرضي الطهور التي أتوسد , وأنتِ أيضاً بساتين الرضا وغابات الشوق التي لن تفنى . ]jumaa & mohamad khdier

( رواية : الثلاثية الأولى :1973)

ـ الاسم الذي نجا من اختلاط التواريخ والأماكن هو اسم الأم المستعار (مريم بنت مطر) فهو المعادل للسلب التاريخي , وفقدان الذاكرة , كما أنه المعادل المثالي لجسد الأنثى في قصصك . كيف حدث هذا المزج بين مثال الأم ومثال المرأة ؟
ـ الأم وجه بقي حبيساً بين نخل (الماجدية) وأزقتها مع حشد كبير من النساء , وأجهل من تكون بعد هذا الحدّ من النشأة الطفولية. لم يغب عن ناظري اجتماع نسوة على (الشريعة) , أو زيارتهن السجناء , أو ندبهن ميتاً محمولاً على الأكتاف . مَن الأم ومَن الأخت ومَن العشيقة ؟ مَن المثال المرغوب بين سائر النساء اللاتي ضيعتهنَّ ذاكرتي ؟ أعود فأقول مَن الأم بين زائرات السجن؟ أُُمّ جمعة أم أُمّ غوركي ؟ شكلتُ ملامح ذلك الوجه الضائع الذي طاردته بأسئلتي الطفولية من وجوه نساء كثيرات , وأتخيله وجهاً حانياً , يغفر لي تغييب ملامحه , أو إحضاره قسراً من زحام الذاكرة. رفعتُ صورة أبي على جدار شقتي, ولم أرفع صورة أمي , فقد أردتُ لوجهها أن يظلّ غائباً عن ناظري كي أستعيده في كل عمل أكتبه .
ـ كيف نخلّص المرأة من السلب المزمن في قصصنا ؟
ـ لا أزعم أني أحدثتُ خرقاً في تاريخ العائلة وخلّصتُ المرأة من السلب المزمن لوضعها في قصصنا . كان لي مثالي الذي أعرفه في يقيني المستلب , وشمتُه بإبرة التجربة المعذَّبة على شاكلة أولئك الريفيين الذين يعتقدون بأن وشم الاسم أو الذكرى يعادل في ألمه الشعور اللذيذ بحقيقة الحب المفقود .
ـ صناعة النص الأدبي صعبة وشاقة . وأصعب منها (صناعة الناس) . كيف احتملتْ نفسٌ متوحدة بشكل مدمّر حياة الآخرين؟
ـ في تلك الآونة كان العسر شاملاً , النفس والآخرين على حدّ سواء . وكان التلاعب بالأسماء طريقتي الوحيدة للخروج من كابوس الالتصاق بالغشاء الإنساني الذي يغلّف الوجوه كلها بمسحة ماضوية متشابهة . كرهتُ التطابق , وصنعتُ أكثر من حياة دفعتُها إلى المسرح بأسماء مختلفة . كنت أتفرج على نفسي المغتربة عني ترافق أصدقائي وأعدائي معاً , تلهو بماضي عائلتي وتلعن تاريخي , وكنت أُجلِس جمعة اللامي أمامي وأخاطبه : (( يا جمعة , سأكتب قصتك , أنصتْ جيداً ولا تعترض ما سأقرؤه لك )) . وخلال هذه اللعبة الصامتة المصنوعة بعسر استمعتُ إلى قصتي التي تتحدث عن حاضري ومستقبلي . kh jumaa allami 3
ـ تُفتتح (المقامة اللامية) بخروج بني (ألم) من الكوفة إلى العمارة , أهو خروج مجازيّ للعائلة من تاريخ المدن القديمة ؟
ـ يحتلّ هذا العمل موقعاً متوسطاً في رحلة الشقاء والطمأنينة . (ألم) هي النسخة الثانية من (اليشن) , كما بدت في قراطيس الجدّ الكبير للعائلة , والصحف السرّية لمدن العذاب والموت , والمواجهة الأخيرة لسلطة الجنرال ومؤسسته الإستخبارية . بعد انهيار(ألم) حدث الخروج إلى فضاء الحرية , فضاء الكتاب المصنوع من حروف وكلمات , لا من وقائع وشخوص وأماكن . أستطيع اليوم أن أشتقّ (لام) من (ألم) , و(زينب) من (الباز) , أن أحرر أسمائي من حواشي المدن والتواريخ .
[ يحدث في التاريخ , إنني الشاهد والراوية ] ( قصة: تحولات سلمان المحمدي : 1974) .
ـ شهدتَ فيما مضى على اندثار المدن وانقلاب التاريخ , ماذا تبقى لديك من قصص ؟
ـ سقطنا من عباءة التاريخ فجأة. ثُقب ثم ثقبان ثم انتخلنا ذراتٍ متساقطة في يوم عاصف. عشقنا العاصفة وعانقنا الموجة , وانتثرنا في كل الجهات . ثم التحمتْ أجزاؤنا بعد أن عبرت العاصفة , ولملمنا صفحات كتابنا . متى هبت العاصفة ؟ ومتى سجّلنا كلماتنا ؟ إننا غير قادرين على التنبؤ , لكننا مطبوعون على السير أمام التاريخ واختلاق المسافات ونقض المدن. نحن لا ننشئ أدباً , وإنما نخلق كتباً . كتب اليمين وكتب الشمال . تنخلنا العاصفة فنتساقط كتباً . كتباً بلا عدد ولا نهايات . من يستطيع أن يتنبأ ؟ على قائمتي كتاب أو كتابان , لكن متى ينتهي انتظاري لبزوغهما ؟
ـ كلّنا جرّب هذا الانتظار . أين يكمن السؤال , في الجوهر أم في الصورة ؟
ـ ليس مهماً كيف أظهر في صورة كتابي, إنما متى يبزغ كتابي أمامي دليلاً على وجودي. إننا نغدو وجوداً كتبياً محضاً. نحن كائنات كتبية , لكننا لسنا عقلاً محضاً . كما إننا لسنا وجوداً عضوياً صدفياً . نحن كينونات ترعى وجودها يوماً بعد يوم بدمع عذابها وأرق اصطبارها . نحن خلايا نامية في جسد التاريخ , وبراعم تواجه الشمس في كل نهار . نحن شهود أنفسنا , صورتنا نحن . وكل نحن صيرورة لكتاب منفرد بنفسه , دال على صاحبه . أنظر حولك , هذه الحديقة ملكنا وملك المتنزهين المتبدلين , وهي نفسها حين نخرج منها وندعها لزينب وحدها . الحديقة نظام وعلامة وقت وحياة وذكرى وحلم واشتياق , وسنخرج منها لنلتقي كتابنا . فهو وحده الحقيقة والملاذ .
ـ الكتّاب يتغيرون بما يقاسون من تجارب ورحلات بين البلدان . بماذا تجيبني إذا سألتك : هل تغيّرتَ ؟
ـ سأكون سعيداً بتحولي من موقع إلى آخر , لو كان هذا التحول نابعاً عن يقين بقدراتي الطبيعية والعقلية . بالطبع الكتّاب يتغيرون , وهم ينشدون هذا بقوة , فهل تغيّرتُ مثلهم؟ كم من المسافات والتجارب تفصلني عن الشعور بالتغير ؟ هل تنبئ نصوصي بحدوث التفاف مفاجئ في يقيني؟ إني أسال مثلك .
بقي السؤال معلقاً في خطاف الحديقة الأخضر الذي تخفيه الظلمة عن أنظارنا . نظرت حولي مذعوراً بصدمة الالتفاف حول مقاطع الرعب والمطاردة التي تزخر يها قصص جمعة اللامي . أجبتُ نفسي فوراً : لقد تغيّر . وسأفارقه ملتفاً حول مداري عائداً إلى منزلي عبر الخليج , كي أصوغ حواري معه بعبارات هذا الالتفاف .kh jumaa allami 2

(6)

الســـفر

اقترب وقت السفر , أعدَّ جمعة حقائبه للطيران إلى الجزائر في فجر الليلة السادسة , وأعددتُ حقائبي للعودة إلى البصرة من مطار دبي بعد إقلاعه بساعتين . سيلتحق جمعة بأصدقائه في ( جاحظية ) الطاهر وطار , وسأعود إلى ( جاحظية ) البصرة كي أواصل الحوار مع أجزائي وأشطاري . خرج هو من المكان الواحد إلى المكان المتعدد , وعدتُ أنا من المكان المتعدد إلى المكان الواحد . أشرفنا على مسافة ( الجاحظيات ) الدولية ومدارج المدن الغريبة , وطوينا حديث العائلة ووفاء ( الأخويات ) وشفرات بريدها السرّي . كدنا نودّع حديقة زينب , ولم نرتو من المراسلة والنجوى , ولم ننم ليلتنا . كلٌّ منا يزمع الالتحاق بكتابه . وبذا تحققت غاية السفر .
تطفّلتُ على ما أنتجه جمعة اللامي من نصوص تحليل الذات ومقارعة أسـوارها وسجّانيها , في لحظات نادرة من صحوة الخاطر ونقاء النفس , وأظنه ينظر إلى محاولات اقترابي من الحدود الشائكة التي سوَّر بها حصون سردياته بإشفاق وارتياب . وإنني لأدرك الآن , أن اختلاق الأحاديث بعد فوات تسجيلها , صعود مؤلم وطويل من قاع العذاب , ولا أحد يطيق الالتفات إلى جحيمه . إن النهايات ليست بدايات غير أن هياج نوازعنا , وبلبال عشقنا , يوسوسان لنا بفتح أبواب الحدائق الليلية المغلقة , فنقع حينئذ في سحر المسوخ المحبوسة تحت غطائها الأخضر , ولسنا ملومين على ذلك .
فلتشفع لنا زينب .

===
محاورات حديقة زينب) كتبها الأستاذ محمد خضير في أقسام ستة: خمسة طويلة , والسادس قصير بمثابة خاتمة . نشرت الأقسام الثلاثة الأولى من المحاورات في جريدة (البيان) الأماراتية بدبي , أما الأقسام الباقيةفلم تنشر من قبل وقد خص الأستاذ محمد خضير موقع الروائي بها. كما أجرى بعض التغييرات على النصوص المنشورة

*عن موقع الروائي

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *