الموغ بيهار ولد في العام ، . 1978 مؤلف وشاعر وناقد ادبي صدر له
مجلدان ومجموعة قصص قصيرة ، ورواية واحدة . وهنا في هذا النص :
“يضفي الموغ بيهار حدودا ضبابية بين قصة قصيرة ومقالة ذاتية في هذا العمل الذي يعالج فيه تراث المؤلف العراقي ويمزج سيرته الذاتية بالإبداع . فضلا عن ثنائية اللغتين العربية والعبرية في مجموعته التي صدرت العام 2008 ، الموسومة ” انا احد اليهود ” ، التي تصف تمّزق ساردها بين الشرق والغرب ، الماضي والحاضر . وبحساس شاعر بالإيقاعات ومدِوّن لغوي ، ويتحدث سارد بيهار بألسنة يطرح فيها سؤالا كيف توحِّد اللغة وتقسِّم احساسات المرء لفهم ذاته . ”
كنت أذرع شوارع القدس ، والعرق ينضح من على خلف رقبتي ، محاولا تجنب الحافلات الإنتحارية التي تهدد بأخذي معها ، بينما عويل سيارات الإسعاف يمزّق طبلات أذنيَّ وشغاف قلبي ، وتزداد لحيتي السوداء دكنة، وتطول يوما بعد يوم ، وقد أذعنت الى قراراتها ، في الوقت ذاته رحت أراقب طريقة تحديق جيراني في وجهي بدهشة رافضا منحهم ابتسامات الإرتياح . كان صوتي غير مسموع تقريبا حتى أكاد لا اسمعه، حتى وإنْ كان ثمة غريب يقترب مني في الشارع فإنني لا أعرف ماذا اقول له ؟
اذا كان والداي ومعلما إياّي صارمين معي فقط في تعلّم لغة الشعر العربية ، فعليّ أنْ احفظ أولا كلمات نزار قباني التي ترن في رأسي ، دون الإعتماد على الذاكرة الضبابية لإحدى قراءاتي البعيدة. وعلى كل حال ، فإنني هنا ،اختبرمقدرتي وذاكرتي معا، وكما أتذكر، فإنهما تسيران بهذا الإتجاه ، ” كل يوم ، أو كل عقد ، أو كل سنة ، تقتل المدينة العربية نفسها بتميّزها، وبطريقة مغايرة ، تفقد اسمها ، محاولة أنْ تنس ماضيها ، أو تخلق مستقبلها . من غرناطة الى يافا ، ومن بيروت الى بغداد ، أنّ المدن العربية تنتحر . وترتفع اعمدة الدخان الأسود من اعلى قصور الحكومات باتجاه السماوات الخالية، علامة هزائمهم في استعراضات مواكب النصر . ”
ولكن ما هي طاقة الشعر المترجم ، لآلاف الصفحات التي تتناقص وتنقرض بإستمرار؟ إنني أعي ذلك ، إلى أنْ يكون لديّ قرار لكل اسرار الحروف العربية ، تلك التي تكون متصلة مع بعضها ، وتلك التي غير متصلة ، فأنا ليس بقادر أنْ اكون من انا الآن : هل انا عربي يهودي أو يهودي عربي .ذلك ، فإنّ كل الترجمات الى العبرية والإنجليزية لا تسعفني للإجابة ، حتى استعيد تلك السنين التي تحّدث جدي بها باللغة اليهودية – العربية وباللهجة البغدادية في المقاهي التي تشرف على نهر دجلة ، وحتى أعود ايضا الى الأشهر قبل وفاة جدتي في رماة غان ، Ramat Gan التي يطلق عليها رماة بغداد ، وحين شرعتُ مرة ثانية تتحدث اللغة العربية حسب ، وليست العبرية ، وحتى عدتُ الى أيام طفولة أمي حين سنحت لها فرصة جيدة أنْ تسمع مصطلحات محببة كثيرة تحتويها اللغة العربية، فإنني لا يمكن أنْ اكون يهوديا عربيا أصيلا ، بيد أنّ مسافة خسمين سنة انقضت على بغداد طبعت بصماتها عليّ ، ولكن تعلقا بأمي فقد نست او اختارت أنْ تنس لغتها ، لغتنا ، حينما دخلت مدرسة عبرية راحت تنّعم الحروف الحلقية ، تلك التي تُلفظ بالأصوات العربية للحروف العبرية العين والخيط . ayin and khet .
والآن ، وطوال ايامي ولياليّ في القدس ، ربما لم أغادر المنزل ، مفضلا تجنب الشوارع التي تؤدي الى الحافلات ، ودائما ما اخفض نظري عن السماء التي تخلت عنها للطائرات . وبدلا من ذلك ، عليّ أنْ أحجر نفسي في غرفتي وأراقب شاشة التلفاز التي تومض ثم تختفي ، إذ أنّ فقرات هذا اليوم تبعث ضوءً ضاربا للزرقة بالقرب من الجدار الأبيض ؛ اخبار الحرب هذه الليلة جديدة – قديمة تقذف فيها الطائرات الحربية الأميركية مرة أخرى لتضيء سماء بغداد السوداء . بيد أنَّ أخبار التلفاز تتحدث بلغة عسكرية ، لغة الآليات والقنابل التي هي غريبة عليَّ ، وتوصلني ضد رغبتي إزاء شبكة الإتصالات العسكرية . إنَّ اللقطات الأرشيفية تروي ظمأيْ ، وتقودني الأخبار مباشرة الى بغداد : حيث جسور نهر دجلة ، وشارع هارون الرشيد ، والبيوتات التي خلّفناها وراء ظهورنا ، ووجوه الناس ، التي تشبه وجهي ووجوه عائلتي . وهنا ، تجذبني كلمات نزار قباني بكلمات جديدة مقاوِمة : كل اسبوع ، أو يوم ، وكل شهر ، أو قرن ، تولد مدينة عربية جديدة في أحلام أهلها ، مثل غرناطة ، ورملة ، ورام الله ، وبيروت ، وتنقل الأبراج المنتصبة ، صوت المؤذن ” واحيانا انضم الى احتجاجه : كل يوم أو اسبوع او عقد ، وتبحث مدينة عربية لتكون عاصمة لكل العرب ، لترث عصر الخلفاء العظماء ، وتغوص في احلام الإمبريالية التي كانت غافلة في احلام عدد كبير من مواطني ضواحيها .
ويحمل نزارقباني منفاه في الحقائب والكلمات ؛ ونحن لا نريد حتى إزعاج أنفسنا في أنْ نعّلق ايضا منافينا في ملصقات على الجدران الصفر . وكل ما نَعْلمه عن بغداد هو ما تتناقله الأخبار الجديدة والكتب ، وقد نسينا الشوارع القديمة ، وراحت حيواتنا تُختزل في الشوارع الجديدة . حيث لم اولد في بغداد ، وحيث لم تحملني أمي فيها ، التي نُفيت منها منذ نعومة اظفارها وهي ترتدي عباءة شفافة ، واقلَّتها طيارة كانت مزدحمة بالآمال والآلام الى بلد قريب جدا وبعيد جدا وأُلقيت في مخيمات وبيوت مبنية من القصدير مخصصة للمهاجرين – ما هو سحر بغداد الذي يعيدني اليها مرة أخرى، ومرة ثانية ؟ وفي ذاكرتي أرى نزار قباني حاملا حقائبه واشعار المنفى من مدينة عربية الى مدينة عربية أخرى ، يقرأ تنبؤاته عن مستقبل تلك المدن في بواباتها ومقاهيها ، ونبوءة الأرقام المتضاعفة لعدد العربات في تقاطعات شوارعها والتصادمات السادية لسباق تلك الحافلات . إنه اسرار حب النساء اللائي التقاهن بين صفحات شعره ، ويتحدث كعربي الى عربي وعربية ، موضِّحا أنّ المجانين والشعراء هم وحدهم القادرون حقا على التعبير عن المنافى التي توحّد أرواحهم ، وأنا أتمتم باللغة العبرية ؛ فمن الذي يعيد ترجمة كلماتي الى اللغة العربية ؟ ومن الذي يصغي الى توقي للعراق بلغة غير العربية ؟ وكيف استطيع أنْ أُعبّر عن هذا التوق باللغة العبرية ؟
اما جدي صالح ، فيملك ذاكرة رائعة ، وغالبا ما اعتاد أنْ يقول لي حينما كنت طفلا ، وقبل أنْ يموت ويأخذ معه الكثير من نكهة بغداد ، ويأخذ معه ايضا طريقتة المميزة لرشف الشاي، التي كانت أسهل طريقة للحديث عن الله باللهجة البغدادية العربية ، افضل من اللغة العبرية، وليس ثمة حاجة بنا أنْ نهرب من الله كما نبُّينا يونان . الذي انفق حياته كلها في اسرائيل وهو يحاول الهروب من اللغة الدينية ، ومن اللغة العبرية المتصحرة الجاسية بحروفها الآشورية المربعة. وكان جدي يوضح لي أنّ العبرية التي تعلَّمها في بغداد من الكنيس لا بأس بها ، ولكن هل هي اللغة العبرية الجديدة في لسان الإسرائيليين ؟ ما الذي يجعل هذه اللغة اكثر مرونة كي تحجب عنها هذه الخشونة الكبيرة ! وبأيّ وسيلة يخفون خشونة التهديد الكبير لتكون اكثر رشاقة ! وهذا ماقاله جدي ايضا ليشارك به حزن جدتي كرجية Gurjiya، والآن ثمة ذاكرة اخرى مباركة ايضا عن مغادرين بغدادهم وخسارة حياتهم السابقة فيها . وحاولوا أنْ يسلّوني بشبابي ، المضطرب نتيجة أحزانهم : كان ينبغي أنْ تولد في بغداد ايضا ،كان ينبغي أنْ تولد هناك كما تولد هنا، ولكنّ كثيرا من العراقيين يرتدون كما زيّك ، ويتحدثون بلهجتك ، ويفكرون كما تفكر انت . وفي هذه الأثناء فإنّهم رحلوا . وتركوني خلفهم ، وارتبطوا باللغة العبرية الخشنة لوالديَّ واصدقائي ، وافتقروا الى البغدادية العربية، ومع هذا الإله الخشن الذي يهددني من خلف النوافذ والأحلام ، وكنتُ أحاول طيلة حياتي تطويع اللغة العبرية وارضائها باحتراماتي الكاذبة – والتقرّب الى الله واخلاصي له . ربما آن الأوان للتخلي عن هذه المحاولات العقيمة وأنْ أغيّر اسمي العبري الجديد الذي كان عبريا الى صالح اسم جدي وأنْ أغيِّر لغتي الى اللغة العربية اليهودية ، لغة جدّي الى أنْ انجز لهجة الرشاقة البغدادية للكلام مع الله .
لكن يبدو أنَّ الله صامت الآن ، كما كان صامتا في ازمان الحروب .
* مجلة World Literature Today العدد المزدوج لشهري اوغطس ومايس 2015