*الجامعة المستنصرية
عرف القاص هيثم بهنام بردى بنتاجاته القصصية الطويلة والقصيرة والقصيرة جدا. وقد التمس القاص في نتاجاته السردية وعلى اختلاف أشكالها المنحى الواقعي الجديد سائرا بوتيرة فنية تنتقد الحياة الواقعية برؤية رمزية تتخللها بعض الصور الغرائبية واللمحات الفانتازية الساحرة .
وكانت الطفولة حاضرة في اغلب قصصه القصيرة بوصفها واحة المبدعين حين يريدون العودة إلى النبع الصافي .
وتؤدي الطفولة في أقصوصة التماهي دورا رئيسا في إضفاء البعد الدلالي على العناصر الحياتية للكون (التراب والماء والهواء ) ضمن بنية تراجيدية لنهاية الطفل المفجعة الذي وئد ولم تستطع تلك العناصر إنقاذه ،لذلك آثر أن يتماهى معها في خاتمة القصة على هيأة لوحة تخييلية حالمة وسوداوية وفي شكل سرمدي ” تتمخض كائنات جديدة بهيئة أطفال مجنحين تنتشر حوله ، وتحت جسده الممسوس بطيف الماء ،وتتشكل أجنحتها الشفيفة وسائد وبسط من ريش تحمل طفلا مدمى يتناوبه شهيق وانٍ ووجيب أوهن ويحلقون به عاليا ، عاليا ، إلى ممالك الماء ” .
وتتماهى في أقصوصة (ابتسامة) صورة الطفل مع صورة المرأتين الشابتين والبيت والعنكبوت في لوحة تجمع الجامد بالمتحرك والعاقل باللاعاقل ضمن بنية يتمازج فيها السرد مع الوصف بتعادلية إيحائية ” بيت كل ما فيه يفصح عن خلاصة عراكه مع الزمن وهو يلم بقاياه المتهالكة وفي بصيرته تجربة العنقاء مع الرماد ” ، مع توظيف الحوار داخل النص بطريقة فنية مكثفة وبلغة فصيحة ” ـ هلم يا صغيري الجميل ، ارضع حليبي الطيب لتصير في المستقبل طبيبا مشهورا .. ”
وتطغى الحيوات (رجل ، أطفال ) على أقصوصة (الصخرة) في سرد موضوعي مع حوار فانتازي يميل نحو الواقعية السحرية عبر التكثيف المركز حتى لتكون اقصر القصص .. فنقرأ مثلا ” أطفالا لا يخرجون أسرابا جوعى عطاشى عرايا نعس دخلوا فتسربلت المدينة والصخرة والبحيرة والسماء بالضياء وانشقت أبواب المدينة ” .
وعلى طريقة السرد الموضوعي الممزوج بحركية الفعل المضارع واستمراريته تاتي أقصوصة (العُشان) في خمسة عشر سطرا ونصف السطر مع نهاية مختزلة بثلاثة كلمات ” عش من قش وآخر من لحم ودم ” لتحكي فطرة الطفل الخيرة عن طائرين صغيرين ” ينظر إليهما … شعرا بوجوده فرفرفا جناحيهما اللحميين وفتحا منقاريهما وأغلقا عينيهما..” .
وتتضح المفارقة في ان يطعم الصبي الطائرين الصغيرين ” مد الصبي ذراعه نحو العش وتناول حبة ووضعها في جوف المنقار الأول والثاني وهكذا منقار يعقب منقارا ” ،..
وبطل (الأقاصي) وهي اقصر قصص المجموعة تليباثي (فتى القرية) ويصفه بالصموت والغريب والصمت ثيمة يقابلها الجنون ” فتى القرية الغريب الصموت وهو يقتعد أبدا دكته الطينية الأزلية على يمين باب بيته الخشبي المتقوض والمرتق وهو يضم بين جوانحه حوشا وحديقة وغرفا يعشش فيها الصمت والغموض المتموسق مع همس الأشجار وشدو الأطيار ”
وثنائية الصمت / الجنون تلقي على القصة طابعا شفافا من الغموض الجميل الذي يبعث القارئ على التأمل والتخيل في رسم اللوحات الفانتازية العجيبة للحيوات الآدمية ( فتى القرية ، الشيوخ ، النساء المتزوجات ، صبايا القرية ، الأولاد ، الفلاحون)
ويكشف الوصف الموضوعي عن البواطن الغائرة لهذه الشخصيات ” ويأخذهم الصمت لفترة لا تسمع فيها إلا أنفاسهم وهي تتموسق مع حبات السبح الكهرب المتهاطلة من الخط الضيق المتشكل بين الإبهام والسبابة وأناملهم الحبلية تمسد عثانينيهم المدببة وعيونهم اللائطة تحت الحواجب الكثة المشعرة تتأسف على هذه الفتوة وهي تتسربل بالجنون ”
ثم يتحول مجرى السرد من سرد موضوعي بضمير الغائب إلى سرد ذاتي بضمير الأنا على لسان راو من القرية ” كنت أقف على سطح دارنا أتأمل قرص الشمس الناهض من مضجعه في الأفق الشرقي المفروش بالرباب وروحي الغضة المحلقة نحو ربيعها الخامس عشر تتنسم الاشراقات الأولى لليوم القادم ”
واذا كان المكان (القرية) في هذه القصة يشكل موقعا مهما إذ تتمحور حوله سائر العناصر السردية الأخرى في صور ساكنة الا ان اللغة الطفولية تبقى هي الراسمة للوحات الفنية ” والنواعير تبكي تعب ليلة أخرى والأشجار تتمطى نافضة عنها الكرى والفلاحون يحملون مساحيهم .. تقمصتُ دور الفأر وقومت أذني وصار جسدي كله لاقطة كبيرة حساسة..” .
ويقيم القاص تعالقا نصيا بين أسطورة برميثوس وهذا النهر المتمثل بالناعور ليهيأ الأجواء العجائبية للموقف ” وهو يرسل شجوه الحزين الذي يترجم شكواه بقصاصه الشبيه بقصاص ذلك العفريت الذي حاول أن يسرق النار من كبير العفاريت ليعطيه لإنسان مقرور ليتدفأ ويطهو طعامه ليطعم آلاف الأفواه الجائعة والذي حكم عليه بحمل صخرة ليصعد بها على ظهره لقمة جبل شاهق ..”
وتتفاقم لحظة التأزم حين يحدث التحول الفانتازي الصامت لدى الفتى الغريب إلى هيأة كائن طائر ” وقد افرد ذراعيه ووجهه يرتديه السناء وتنتشر من هامته أسياخ من الضياء البارق لتصطدم بالجدران الطينية لترتد مخيمة فوق كراديس الأطيار الموزعة حوله كخلايا النحل وبنسق لا يفهمه إلا مجمع الطير فقط ”
وتكون المفارقة الناجمة عن عجائبية التحول تلك أن ” مخبول القرية الأخرس يطفر من عينيه الرائعتين فرخ لا محدود ويمد ذراعيه بخط مستقيم ثم يرسم بهما حلقة دائرية حول الكردوس .. لتخرج الكلمات من ثم اخرس قريتنا كشلال جبلي هادر يغسل أدران الوهم الذي تغلغل في عقولنا ..”
ويمتلك الفتى بعد هذا التحول لغة الطير إلى جانب لغة التخاطب الآدمية وهذا ما يزيد الطين بلة إذ لم يعد مرغوبا من قبل الحيوات الآدمية داخل القرية التي ستلفظه لفظ النواة لان الانتماء والإقصاء كثيمتين متضادتين لا تمنحان لواحد معا فإما هذا وإما ذاك ولا مكان في القرية لمن لا يفلح في إدراك هذه القطبية ” الناس في القرية حسموا أمري وحكموا بجنوني بخاصة حين كانوا يرونني ارفع رأسي إلى أفاريز البيوت أو حبال الغسيل في الأسطح وهمهم مع الطيور جاهلين أنني أتكلم لغة الطير ”
فيقرر الفتى الرحيل ضمن معادلة صاغها لنفسه وطبقها في خلده الصمت / الجنون ” لذا قررت أن اذهب إلى الأقاصي إلى ممالك الطير.. إلى الأقاصي . ليل ونهر ونواعير وريح خفيفة وقرية ساهرة هو كل ما احتوته ذاكرتي المشوشة وهي تسعى صاعدة نحو فم الزقاق ”
ثم يتماهى مع الليل وينأى بعيدا إلى الغيب في الأقاصي ليعود السرد من جديد بضمير الغائب ” في الاصباحات القادمة لم ير أناس القرية أي اثر لمجنونها وابتعدت التوقعات بمقتله من قبل اللصوص ولاسيما عندما فتشوا بيته غرفة غرفة فلم يجدوا أي اثر لسرقة أو قتل ،فاقتنع الناس أن المجنون قد هجر القرية ؛ إلا أنا ، فقد تيقنت انه ذهب هناك ، إلى الأقاصي ”
وتفترض ثنائيات الصمت / التكلم ، العقل / الجنون ، الرحيل / الهجر تعددية التأويل والتأمل ، إذ أن في رحيله هروبا من عالم الحقيقة إلى عالم الأحلام لكن المكان يبقى هو الثيمة المهيمنة على العالمين معا والسبب أن ذاكرته مشبعة بصوره .
وفي قصة الرسالة القصيرة من مجموعة ارض من عسل تكون ” الشخصية القصصية من حيث انتماؤها إلى عالم من العوالم المختلفة .. إنسانا أو حيوانا أو شيئا جامدا آنسنه الكاتب أو شيئا مجردا خلع عليه القاص صفات الأحياء من نطق وإحساس وخيال ” ؛ وبذلك يمكن أن تكون قادرة على توصيل رسالة القاص ومفادها ” أن الطفولة هي واحة المبدعين حين يريدون العودة إلى النبع الصافي النقي كالبلور . أرجو أن لا تتوهم وتتصورني شاعرا … إني باختصار أمثّل الشخص أدناه :
اسمي ليث عبد الوهاب محمود الحالة الاجتماعية أعزب مواليد 1956المهنة معلم ”
ويكون الوصف بمثابة وقفات استراحة تلقي الضوء على أجزاء المكان وتوقف الزمان ” وجه مدور أبيض ، شعر أسود تقتحمه شعيرات بيضاء تتكاثف واضحة عند السالفين وعينان صقريتان سوداوان ”
وإذا كان من المفترض أن اكتشاف سرّ ليث هو نهاية القصة ؛ الا إن استرجاعات الماضي القريب التي يرويها ليث داخل الرسالة تعود بنا مجددا إلى زمن سابق عاشه ليث ” مات أبي وانا صغير فتربيت مع أمي في بيت جدي ولما تخرجت من معهد إعداد المعلمين عينت معلما للبنات في المدينة” .
ويحدث التحول السردي في الحبكة ليعود مجرى القص إلى الزمن الراهن ” لقد تحول كل شيء في الملجأ إلى لحم مقدد آه يا ربي لم جعلتني أرى الجحيم وانا حي لا زلت أتنفس وقلبي المرعوب يسابق الزمن في عدوه .. وشعرت بتعب وثقل يغزو حلقي وصدري فتوقفت عن القراءة وانا أحاول أمساك زمام قلبي المتسارع رفعت رأسي نحو الطبيب الذي كانت عيناه مشدودتين إلى شفتي سحب شهيقا عميقا وقال خلل عبرة دافقة أكمل أرجوك وبعد يا عامر ”
ويختلط عالم الطفولة وترنيمة الأم وطفلها في قصة الرسالة ضمن المجموعة القصصية ارض من عسل عن يوسف الذي وقع في البئر ونهى التي ترسم بالونة مع عالم الانفجارات وانين الطائرات ممتزجة بصورة مأساوية لملجأ قصف واحترق كل من فيه ” الظلام ورائحة اللحم المحترق والأضواء الناثة من الفتحات التي أولدها الصاروخ جعلني أصحو تماما تلمست جسدي بأصابع مستوفرة ثم أرجعت أناملي أمسح الرماد عن عيوني وحدّقت ..” لتتحقق هنا الإحالة المرجعية في ما يسمى بوهم الواقعية .
وتستلهم القصة القصيرة سيرة عروة بن الورد من المجموعة عينها بطريقة فانتازية نلمحها منذ المفتتح ” كانت الصحراء تسبح في غلسة الليل والريح صرصر عاتية .. حين شق جوانب البيداء صوت كالرعد عروة .. هتف من ينادي أمير الصعاليك ”
انه يسافر بين ماضٍ غابر وحاضر راهن إلى فقراء تطحنهم الحرب ويقتات أبدانهم الجوع فيتعجب عروة من مشهد المرأة وأطفالها الجياعى مما أصاب القوم من سوء حال كان يشهده حتى في الجاهلية في صورة تراجيدية قاسية ” كان الأطفال عبارة عن أسمال وجوع وحزن تتراكض بين البرك والخرائب والقمامات وهي تمارس طقوسها الصبيانية والنساء متلفعات بالأسى والتيه وهن يمرقن نحو السوق والسوق خواء ..ولكن ما أثار انتباه عروة أن لا أثر للرجال ”
وتعتري عروة تداعيات نفسية ” ثم أسرَّ لنفسه انه زمن الغث يا عروة الأطفال جياع النساء واهنات والشيوخ والعجائز أشرعة تمرق نحو الفناء ولكن ، لكن أين الرجال ؟” .
ومثلما تستفزه الطفولة البائسة المنسحقة تحت لظى الحروب فيرأف بالصغار وهم يهرعون إليه طلبا للأمن والسكينة كذلك تسترحمه الكهولة ومعاناة الكبار في عجزهم عن تحقيق متطلبات العيش ولما يلتقي بكهل يسأله عن ما أصاب القوم فيجيبه بأنها الحرب ” إنها نفس القصة المتكررة في كل الأزمنة فالدنيا عبارة عن طرفي حبل يمسك أحدهما قابيل والآخر هابيل ”
وتتجلى صدمة السرد في تأزم الحبكة حين يدخل عروة إلى المدينة فيجدها أشبه ما تكون بالغولة ” ودخل عروة أحشاء المدنية كبر إله البيداء وهو يتأمل بفم فاغر عمارات شاهقة تناطح الغيوم شوارع مسلطة تنزفها أسياج حامية تحرق الترس والبدن بسيارات مركونة على الأرصفة ”
وقابل القاص هيثم بهنام في قصته القصيرة ارض من عسل بين كاتب القصة الذي اصطدم بحقيقة أن الآخرين لا يرونه رأي العين وبين قارئ القصة الذي لم تند عنه أي ردة فعل لكنه يبقى متفائلا بأمل جديد من خلال منظر تلاميذ المدرسة الابتدائية الذين جعلوه يشعر بالانتماء للأرض ” وقف يتأمل التلاميذ الصغار بابتسامة جعلته نقيا كشمس الشفق الربيعي وبغتة انطلق الأطفال ينشدون أنا من العراق أنا عراقي العراق وطني فيه أبي وأمي وبيتي وفيه أصدقائي ”
ويحدث الانفراج حين تراه طفلة ليعرف انه صار مرئيا الآن فيخرج من حالة الشعور بالاغتراب في داخله شاعرا بوجوده ليصير مرئيا ولينهي حالة الضياع ” كاد يرقص من الفرح وهو يحث الخطى نحو الطفلة ويمد كفه فمدت كفها اللدنة وأمسكت بكفه فسألها بحنو أبوي هل ترينني ؟ نعم جدو ”
إن هذه المفارقة الفانتازية تعيد مجرى السرد إلى حالة التوازن فيغدو البطل بسبب براءة الطفولة محلقا في الهواء مرتفعا للأعلى ليرى أرض العسل ” وارتفع جسده بفعل قوة مجهولة ونظر من علٍ وهو مسكون تماما بالنشوة فهتف الأطفال .. انه يطير ” ويكون ختام القصة عبارة عن منظر تخيلي طفولي ” كانت آخر ما احتوته مقلتاه أرض من عسل يدرج فيها نحل لا يستكين ” .