ما لا ينتهي .. حشرجة عاطفية جديدة ذان أصوات وألوان يراها هو ولا تراها أنت .. إيهام ٌ خلفياته غامقة الرنين ، وعباراته في الوقت الذي تكاد توصلك الى نبع ما يقصده … في الوقت الذي تمد فيه يدك لقطف ثمار تجلياته ، ترجع يدك خالية وقد تشوشت عليك إنشطار ما ورائية النبع المبهم بثماره العصية المتمردة .. ويعتريك إضطرام محموم ، ثم يمتلكك شوق لكثر هيجاناته ، عاصفية تحملك على أجنحتها للعودة مرة أخرى بإستعداد ٍأنضج ، للولوج الى داغستان الداغستاني أيضاً أو مرة ً أخرى مطروداً من قبل إنفجاراته …
ذلك هو محمد حسين الداغستاني المسافر العتيق مع قافلة الشعر .. العتيق زمنياً والجديث الحديث فكراً وفلسفةً … المسافر السندبادي الممتهن لتيارات المعاصرة في ثنايا غموضه الروحي وقلبه العاري … ذلك هو شاعرنا المكتنف بالرؤى الكهنوتية … شاعرنا الذي يتراءى مرةً بزي كاهن ، وأخرى بزي ساحر ، وأخرى بأسمال شاعر درويش ، داغساتنينا الذي سأحاول ، إجتياح عالمه بهذه المحاولة المتواضعة لدراسته من وجهة نظرٍنفسية ومن خلال نص واحد عنوانه (كيف أجدك ؟ ) .
النص يمطر برذاذ في الصور في ثلاثة مقاطع في المقطع الأول تتكاثف فيه كغيوم شتاءٍ طويل هذه الصور :
وجدتك مرة ترقصين على سفح القمر
ظننتُ إني أحلم
وددت لو يقرصني برد تشريني لذيذ
فأستيقظ من حلمي
وأجدك تتنفسين قربي
فألثم لحمة أذنك الرقيقة
لكني وجدت نفسي في هجير التذكار والتمني .
وكنت كمن يفقد دفة السفينة المترنحة ,
الآيلة للغرق في لجة الأمواج .
سمائي ملبدة بالسحاب الأسود
وأرضي قاحلة بلا حدود
وقلبي ينبض بأمنية مستحيلة
في بداية كليلة !
قلبه ينبض بأمنية مستحيلة ، سفينته مترنحة آيلة للغرق .. حبيبته ترقص على سفح القمر ، وهو يحلم ببرد تشريني لذيذ يوقظه ليجدها قريبة منه ليلثم لحمة أذنها الرقيقة ، سماؤه ملبدة بالسحاب الأسود وأرضه قاحلة بلا حدود …
هذه عواطف إنسان تتدفق بخمرة التعاسة ، إنسان عمره سلسلة متعاقبة من الوقائع المؤلمة والأحلام المستحيلة التحقيق .. خواء روحي.. وخيال جامح .. وفي جو تحطيه تعاسة لا مخرج لها ينبض قلب الداغستاني الشاعر ، بحزن وفرح ، فيتسرب عقله الباطن من ثقوب لا مرئية وبصورة مبهمة للشاعر نفسه ، ولكنه يتمركز ( فرويديا ً ) حول لثم لحمة أذن حبيبته الرقيقة وإجتياز مساماتها نحو القمر الذي لا وجود لإنسان فوقه عدا وجود الشاعر وحبيبته حيث الخلوة التي لابدّ لها لتنفيس تباريح العشق والهروب من جهامة الواقع … إنها يقظة مؤلمة .. يقظة حالمة لمخيلة مكبوتة تهوى إجتياح أسرار التوق الى الفردوس المفقود .
الشاعر الداغستاني يعي بلا وعي يطاوعه ، أن اللقاء مستحيل حتى ولو كان على سفح القمر ، فيكتنفه حزن حنون يكاد يكون مفتاحاً لنشيد الفرح في سمفونية بتهوفن التاسعة
إن الإلتحام بالتمن الفجيعي مستحيل لأنه محتجب خلف سحب كثيفة ، لكن الداغستاني كإنسان معاصر يحمل ألمه ويتمزق وحده .. إنه ما زال يحلم بالذي ينزع عن جسده المسامير . ولا يريد لأغنيته التي يقف عليها أن يشرف على نهايته ، فمروجه خضراء ممتدة ، فقهر روح رجل مخلص كالداغستاني أصعب المنال … إنه ما زال يأمل في أن يبقى نحلة مزدهرة بين براعم زهوره المتمايلة ، فالنفوس الكبيرة كالقمم الشامخة هواؤها أنقى من أي مكان ٍ آخر لكني أراه رغم كل خيالاته و شعوره الذي يخدعه ولا يخدعه ، أرى أن عالمه عالم تعب ، لأن أرق الأشياء نهايتها تأتي سريعاً ، وأن الحلم بلثم أذن الحبيبة إن هو إلاّ رقص حول النار وأنه مسكن مؤقت ضد ألمه الإنساني الرائع .
أما في المقطع الثاني من النص الذي يقول فيه :
ومرة وجدتك واحة في صحراء موحشة
ظننتُ إنني أعيش السراب
واستيقظت للحظة لكي أتفيأ بظل نخلة واعدة
وأنت تموجين في نبضي التعبان
لكني كنتُ فارساً من غير جواد
ونبياً دون عصا ..
وكانت الغدران تسرق دمي من شراينني
والرمال تحرق روحي الممتدة على الأديم اللاهب .
أنت ِ نجمة بعيدة وأنا جسد ممزق في النار
فقولي كيف السبيل إليك يا زهرة البوادي ؟
فيواجهنا بهذه الصور: واحة في صحراء .. ظل نخلة واعدة .. فارس من غير جواد .. نبي دون عصا .. رمالٌ تحرق روحه على الأديم اللاهب .. نجمة بعيدة .. جسد ممزق .. وكيف السبيل إليك يا زهرة البوادي ؟ .
في هذه الصور الدرامية التراجيدية نرى شاعرنا القلق يبحث عن واحة خضراء وظل نخلة واعدة .. هل يستطيع تحقيق مثل هذه الأماني فارس بلا جواد ونبي دون عصا ؟ .. ها أنا ذا أهديه جواداً إلّا أن قناعتي لا تتغير في قرعان يأسه ،لأنه حتى لو اكتملت لديه عدته فإنه لن يصل الى ماء ولا الى ضفة نهر ، فإنه سيبقى كالنبي موسى حائراً على روحه المحترقة على أديم لاهب ، وأنه هو يصف نفسه بأنه نجمة بعيدة وجسد ممزق ، ويتساءل بكل عنف إنشطاره الذاتي من السبيل الى زهرة البوادي … هل من وجد سبيلاً الى زهرة البوادي ؟ هل وجد أحد طريقاً الى ضفة الأماني ؟
إن محمد حسين الداغستاني الشاعر الأكثر قدرة في تشخيص الحالات المستعصية التي لا دوةاء لها .. إن دائه باق ولا دواء له ، لذا يحاول لملمة الأعوام التي سقطت منه ، وأن ينزوي بها في زاوية دافئة صميمية يعيش فيها وحده وبحنين شوق لا يقهر ، إنه يخدع مشاعره إذ يجد نفسه يكون قريباً مما يريد لكنه بعيد مما يريد ، فسعادته مسروق ، والشقاء وحده يسيطر على ساحة حياته ، لكنه يخاف ان يعلن فشله .. فشل الإنسان في الحصول على الفرح .. إنه يعترف ضمناً بأن إبتسامته القصيرة كبلت ، والألم قد أسكره بما فيه الكفاية .. إن إبتسامته القصيرة التي استحالت الى التجهم والعبوس تفضحها عباراته وتوجهاته المنصبة الى منابع الألم … إنه يعترف ضمناً أن الألم أسكره وانه مقتنع بلا جدوى المقاومة ، لأنه عندما أراه يمشي في الشارع بهدوءه الغريب ، وشخصيته الجذابة ، وإبتسامته المأساوية ، وأحيانا بآثار دموعه في حواضن عينيه يومئ إلي بأنه يمشي مطأطئ الرأس في جنازة ألمه .. إنه سندان الألم ، أنه فقد طمأنينته التي هي سلام نفسه ، لقد إنهار ، لا بل إنه إنصرع بجاذبية سحرية .
كلما إرتبك الصبح في الإسفار عن وجهه البهي
تطلين أنت من نافذة روحي
فيتوهج دمي ،
ويكون العالم بعض إنتشائي !
وإذ يعلن في نهاية نصه في المقطع الثالث ( ويكون العالم بعض إنتشائي ) هذه العبارة يمني نفسه بالحصول عليها ، وكذلك اعتقد بتهوفن في سمفونيته التاسعة عندما اعلن انه بعد الحزن العظيم ، أي بعد قعر اليأس حيث لا يعود هناك درك أسفل من ذلك يمكننا بلوغه ، يأتي دائماً الفرح الكبير ، ورأيي أن الكلمة الأخيرة الحاسمة ستبقى للبؤس دون منازع ..
تحياتي الى الداغستاني شاعرا ومثقفا من الطراز النادر والذي أعتز به أيما إعتزاز والذي يخطرني عندما أراه بمبدع أصيل من مبدعي جيل الستينيات رغم فارق العمر الزمني .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) نشرت في عدد مجلة الأخاء 205 الصادر في تشرين الثاني 2003 / بغداد
(**) ولد في العام 1936 ونشـر الكثير من القصائد والقصص والمسرحيات في الصـــحف المحلـية والعربية , له عدد من المجاميع المطبوعة منها ( أيام شديدة البؤس) و ( نخب العالم المنهار ) و ( كسيح أمام المرقص) و(قارب في الصحراء) و ( الخروج من الجنة ) والأخيرة صدرت باللغة التركمانية ، هو أحد مؤسسي جماعة كركوك ، توفي في نيسان من العام 2009 م اثر نوبة قلبية مفاجئة وذلك اثناء مشاركته بمؤتمر في إسطنبول بتركيا .